< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/03/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستصحاب الشرائع السابقة

إستصحاب بقاء الشرائع السابقة وعدمُ نسْخِها

موضوع البحث هنا هو فيما إذا شُكّ في نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة فهل يصحّ استصحاب بقائها ، للعَمَلِ بها أم لا ؟

ذكرنا الجوابَ في الدروس الماضية ، ونضيف هنا الكلماتِ التالية :

قلنا في الدرس السابق إنّ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه اللهُ أنكر جريان استصحاب بعض أحكام الشرائع السابقة عند تفسيره لقوله تعالى﴿ وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ [1] ، لكنه انسحب من ذلك عند تفسيره لقوله ﴿ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ فقال : (في الآية دلالة على أن القرعة كانت مشروعة لرفع النزاع والخصومة في الأمم السالفة ، ويمكن إثباتها في هذه الأمة أيضاً بضميمة استصحاب الشرائع السابقة ، مضافاً إلى أن نقْله في القرآن من دون إنكارٍ دليلٌ على ثبوتها في هذه الشريعة أيضاً واِلاّ لوجب التنبيهُ على بطلانها في هذه الشريعة) (إنتهى)[2] .

المهم هو أنّ المتشرّعة يرون أنّ دين الله منذ أن جعل آدم نبيّاً هو دين المؤمنين في كلّ زمان ومكان ، قال الله تعالى﴿ وَمَا أُمِرُوا ـ أي تلك الملل السابقة ـ إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ[3] .

نعم هناك عقوبات لبعض الناس اقتضت أن يحرّم اللهُ عليهم بعضَ الأمور ، لاحِظْ مثلاً بعضَ المعاصي التي كان يفعلها بنو إسرائيل ، قال تعالى ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ (181) ﴾ [4] وأيضاً بلجاجتهم وعدم تسليمهم لكلمات نبيّهم استحقوا تحميلَ الثـِّقْلِ كما هو معروف في قصة بقرة بني إسرائيل وكما قال سبحانه ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ .. لكن هذه عقوبات مؤقّتة أي طالما كانوا على المعصية ، هذه العقوبات أوهمت بعض الناس أنّ الشرائع السابقة قد نسخت ، لاحِظْ قولَه ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِـبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [5] ، فإذاً هذا ليس حكماً مؤبّداً ، وإنما هذا عقاب[6] ، أي طالما كانوا على البغي ، وهذا العقاب هو الإصْرُ الذي حمّله اللهُ تعالى على الذين مِنْ قَبْلِنا في قوله سبحانه ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ (286)﴾ [7] وفي قوله ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (157)﴾ [8] . والظاهر أنّ المراد بالإصر هو الثِّقْل الذي يمنع الإنسانَ من الحركة أو هو القيد ، وقد يكون المراد من الإصر هو العهد المؤكَّد الذى يثبّط ناقضَه عن فِعْلِ الخيرات ، وذلك لقوله تعالى﴿ أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ﴾ .

وهناك بعض الظروف اقتضت تشريع بعض الأحكام كما في قوله تعالى ـ في مقام مدح يحيى × ﴿فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ[9] قيل أي لا يأتي النساء !!

فأقول : الظاهرُ جدّاً أنّ السبب في تشريع عدم الزواج ـ على فرْض ذلك ـ هو أنّ اليهود قد نسبوا إلى أنبياء الله أنّ كلّ همّهم هو النساء والدنيا وشهواتُها .. فأراد اللهُ تعالى أن يُزيل هذه التهمةَ عن الأنبياء فشرّع هذا الحكمَ مؤقّتاً ولأسباب اضطراريّة ، وشرّع أيضاً التأكيد على السلام ، واهتمّ بالجنبة الروحانيّة للإنسان أكثر ممّا اهتمّ بجنبته الماديّة مضادّةً باليهود الذين كانوا قد أعطوا الدنيا كلّ اهتمامهم وتركوا الإهتمامَ بالآخرة ، فأحبّ الله تعالى أن يوازن بين هذا وذاك ، ولعلّك تعلم أنّ معنى حصور هو الذي لا يأتي النساء ويمتنعُ من الجماع باختياره ، وليس عنّيناً ، لأنّ العَنَنَ عَيب لا يجوز على الأنبياء ، وخاصّةً أنّ قوله تعالى ﴿ حصوراً ﴾ خرج مخرج المدح ، والعَنَنُ عيبٌ ، لكنه كان× يميت شهوتَه بكثرة الصوم . المهم هو أنه كان حَصُوراً ، وهذه من صيغ المبالغة في حبس النفس عن مقاربة النساء وسائر الشهوات والملاهي ، وروي (أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للَّعبِ خُلِقْتُ) . المهم هو أنه لأجل ما ذكرنا من اتّهامات اليهود لأنبيائهم كانت شرعيّة عدمِ النكاح وكان رجحانُه ومدْحُه مختصّاً بزمان نبيّ الله يحيى× فقط ، إذ لم يُعْهَدْ رجحانُه بنحو نوعي في شريعة إلهية ، فلا يكون هذا الحكم منافياً لما في شرائع الله فضلاً عن شريعة الإسلام والتي صرّح بها رسول الله| ( النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، ويُحتمَلُ أن يكون الله تعالى قد مدح يحيى بكونه حصوراً لكونه سيكون نبيّاً سائحاً في البلاد ، وهذا يمنعه من أن يعطي الزوجةَ والعيالَ حقوقهم ، فدفع المانعَ ، ليتفرّغ لتبليغ رسالة نبيّ الله عيسى ×. وبهذا الصدد قال صاحب الجواهر : ولعل الأولى في الجواب أن يقال : المراد بالحصور ما عن كثير من المفسرين من أنه المبالِـغ في حبس النفس عن الشهوات والملاهي ، من الحصر بمعنى الحبس ، وحينئذ فمدْحُه× هو لتنكبه عن الشهوات وإعراضه عن الملاهي واللذات كما هو المعهود من حاله على ما حكاه عنه العسكري× قال : ( ما مِن عبدٍ لله إلا وقد أخطأ أو هَمَّ بخطيئة ما خلا يحيى بنَ زكريا× ، فلم يذنب ولم يَهِمَّ بذنب ) عكس المعهود من حال غيره الذي زُيِّنَ له حبُّ الشهواتِ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة وغيرها من الملاذ والشهوات ، فلا دلالة في الآية على رجحان ترك التزوّج عندهم ، ضرورة أن حَصوريته بالمعنى المزبور لا تنافي تزوُّجَه للنسل وغيره ، لا للشهوة واللذة ونحوهما . ولعله إلى هذا وما يقرب منه يرجع ما أجيب عنه أيضاً بأنّ مدْحه× ليس على ترك التزوّج حتى يدل على مرجوحيته ، بل على انكسار الشهوة الطبيعية له بغلبة الخوف واستيلاء الخشية وقهرها بالعبادات والرياضات ، ولا ريب في حسن ذلك ومدحه وإن أدى إلى ترك التزوّج المطلوب ، فإنّ تأدية شيء إلى ترك أمر مطلوب لا ينافي حسنه ، لتمانع أكثر الطاعات مع اتصاف جميعها بالحسن ، وإنما أطلق عليه الحصور لأن وجود الشهوة فيه بمنزلة العدم ، فكأنه حصور لا شهوة له أصلاً ، وليس إطلاقه عليه لترك النساء الملزوم لترك التزوّج حتى يكون مدحاً له على ذلك فيستلزم مرجوحية التزوّج ، ولا لسلب الشهوة ونزعها عنه بالكلية حتى ينافي وروده مورد المدح والثناء ، ووقوعه نعتاً لمن لا يليق به النقص وعلى كل حال فلا دلالة في الآية على رجحان ترك التزوُّج لمن تَتُوقُ نفسُه إليه)(إنتهى) [10] .

المهم هو أنه قد أوهمَتْ هكذا آياتٌ بعضَ الناس بأنّ الإسلام نَسَخَ ما قبله حتى اشتهر على ألسنة الناس من غير دليل ولا أساس ، وإلاّ فلا دليل على أنّ الزواج كان في الشرائع السابقة مرجوحاً أو أنّ صلاتهم كانت غير صلاتنا ، أو صيامهم غير صيامنا ، أو حجّهم ، أو خمسهم ...


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo