< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : إستصحاب الشرائع السابقة
إستصحاب بقاء الشرائع السابقة وعدمُ نسْخِها
موضوع البحث هنا هو فيما إذا شُكّ في نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة فهل يصحّ استصحاب بقائها، للعَمَلِ بها أم لا ؟
تكلّمنا كثيراً في هذا الموضوع، ونضيف الآن أنه بالنسبة إلى جواز نقْلِ الموتى إلى أماكن مقدّسة لم نجد ما ينافي شريعتنا، فقد وَرَدَ في جملة من النصوص أنّ يوسف نقَلَ جنازةَ أبيه يعقوب oفي تابوت من مِصْرَ إلى كنعان من أرض الشام، وحَمَلَ موسى بنَ عمران عظامَ يوسفَ إلى الشام، فقد قال في مفتاح الكرامة : (قال في الذكرى : قال المفيد في الغَرِية : قد جاء حديث يدل على الرخصة على نقل الميت إلى بعض مشاهد آل الرسولp (اِنتهى ما في الذكرى) . ويدل عليه أيضاً ما رواه في مجمع البيان من حمْلِ يوسفَ يعقوبَ في تابوت إلى أرض الشام، وما روي في الكافي والفقيه والخصال والعيون من إخراج موسى عظامَ يوسفo ) [1] (إنتهى ما في مفتاح الكرامة). أقول : وفي قرب الإسناد للحِمْيَري القمّي(ط ري وكل عصر الغيبة الصغرى) قال : 183 ـ حدثني السندي بن محمد(كان ثقة وجهاً في أصحابنا الكوفيين ط 7 أي ط د وقيل إنه بقي إلى زمان دي i) قال حدثني صفوان بن مهران الجمّال(ط 5) عن أبي عبد اللهt قال ـ في حديث ـ : ( إنّ الله عَزَّ ذِكْرُه أَوْحَى إِلَى مُوسَىt أَنِ احْمِلْ عِظَامَ يُوسُفَt مِنْ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِالشَّامِ)[2].
وورد عن العامّة بطرقهم عن زيد بن أرقم قال قلت أو قالوا : يا رسول الله : ما هذه الأضاحي ؟ قال : ( هي سُنَّةُ أبيكم إبراهيم )[3] .
ولـِما ذكرنا شرّع اللهُ تعالى بعضَ الأحكام الخاصّة ببني إسرائيل فقالQ [ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا ، وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)][4] . إذن شرَّعَ اللهُQ لهم هذه الرهبانيّةَ ابتغاءَ رضوانِه جلّ وعلا ولتلك الظروف المعروفة، لكنها لا شكّ أنها كانت رهبانيّة عقلائيّة لكونها كانت ذات أسباب وجيهة جدّاً، وإلاّ لما كتبها الله عليهم ابتغاء نيل رضوانه . والظاهرُ أنّ رهبانيّتهم كانت (صلاةَ الليل) ونحوها، وذلك لما رواه في يب بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن علي بن أسباط(بن سالم ثقة وكان أصدق الناس لهجةً وأوثقهم، كان فطحيّاً ثم رجع إلى المذهب الحقّ) عن محمد بن علي بن أبي عبد الله (يروي عنه البزنطي بسند صحيح وهذا أمارة الوثاقة) عن أبي الحسنt في قوله تعالى[ ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله] قال : ( صلاة الليل )[5] مصحّحة السند، إذن المراد من (الرهبانيّة) هي صلاة الليل لا الرهبانيّة السلبيّة التي قد تـتبادر إليها الأذهان ..
وبما أننا لا نعرف حقيقةَ ما تركوه فلا يَدخل هذا الموردُ في بحث (استصحاب الشرائع السابقة) لأننا لا نعرف رهبانيّتَهم بالتفصيل، أي لا نعرف ماذا كان يفعل المؤمنون منهم وماذا كانوا يتركون لنستصحبَ مشروعيّةَ ذلك، فلا يقين بالحدوث ولا شكّ في البقاء .
وقال ابن العربي : "فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى : الرهبانية مشتقّة من الرَّهب كالرَحمانية، وهي من الرُّهبان كالرُّضوانية من الرُّضوان، والرهب هو الخوف، كُنِّيَ به عن فِعْلٍ التُزِمَ خوفاً من الله ورَهَباً من سَخَطِه .
المسألة الثانية في تفسيرها وفيه أربعة أقوال :
الأول : إنها رفْضُ النساءِ وقد نُسِخَ ذلك في ديننا كما تقدم . الثاني : اِتخاذ الصوامع للعزلة وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان . الثالث : سياحتهم وهي نحو منه . الرابع : روى الكوفيون عن ابن مسعود قال قال لي رسول الله p: ( هل تدري أي الناس أعلم ؟ ) قال قلت : الله ورسوله أعلم، قال ( أعلمُ الناسِ أبصرُهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصراً في العمل، وافترق مَن كان قَبْلَنا على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاثٌ وهلك سائرها، فرقة آزت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيّ قومِهم فيدعوهم إلى ذكر الله ودينه ودين عيسى بن مريم فساحوا في الجبال وترهّبوا فيها وهي التي قال الله فيها [ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثيرٌ منهم فاسقون ] .
المسألة الثالثة : رُوِيَ عن أبي أمامة الباهلي واسمه صديّ بن عجلان أنه قال أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذا فعلتموه ولا تتركوه فإنّ ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعاً لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقَّ رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال [ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ] يعني تركوا ذلك فعوقبوا عليها .
المسألة الرابعة : قد بـيّنّا أنّ قوله تعالى[ما كتبناها عليهم] من وصف الرهبانية، وأنّ قوله تعالى[ابتغاء رضوان الله] متعلق بقوله تعالى[ابتدعوها] وقد زاغ قومٌ عن منهج الصواب فظنّوا أنها رهبانية كُتِبَتْ عليهم بعد أن التزموها، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر، وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل والله أعلم) (إنتهى) [6].
وقال المولى محمد تقي المجلسي : قال أبو الحسن الأولt رواه الشيخ مسنداً عنهt في قول الله عز وجل في شأن النصارى [وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها] أي قرروها على أنفسهم، والظاهر أنها من السُّنَّة الحسنة التي كان أصلها ثابتاً، ويمكن أن تكون مندوبة ولكنهم أوجبوها على أنفسهم بالنذر وشبهه كما يفهم من قوله تعالى[ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ] أي ما فرضناها عليهم ولكن ابتدعوها [ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله] أي طلباً لرضاه تعالى، قالt : ( صلاة الليل) أي كانت تلك البدعة صلاةَ الليل، ويفهم من ظاهر الآية والخبر أن من البدع ما يكون حسناً كما ذكره الشهيدان وغيرُهما رضي الله عنهم، ويمكن أن يكون في الشرع السابق حسناً، لما ورد من أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار، (أو) يحمل على النذر وشبهه ويكون الإطلاق مجازياً وهو الأظهر من الأخبار)[7](إنتهى) .

وقال الشيخ الطبرسيS : (هي الخصلة من العبادة، يظهر فيها معنى الرَّهْبَة، إما في كنيسة أو في انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نُسُكُ صاحبِها، والمعنى : ابتدعوا رهبانيةً لم نكتبها عليهم . وقيل : إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفْضُ النساء واتخاذُ الصوامع عن قتادة قال : وتقديره ورهبانيةً ما كتبناها عليهم إلا أنهم اتبعوها [ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها]، وقيل : إن الرهبانية التي ابتدعوها هي لحاقُهم بالبراري والجبال في خبر مرفوع عن النبي wفما رعاها الذين بَعدهم حقَّ رعايتِها، وذلك لتكذيبهم بمحمد wعن ابن عباس . وقيل : إن الرهبانية هي الإنقطاع عن الناس للإنفراد بالعبادة [ما كتبناها] أي ما فرضناها عليهم . وقال الزجاج : إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، و[ابتغاء رضوان الله] اتباع ما أمر به، فهذا وجه، قال : وفيها وجه آخر : جاء في التفسير أنهم كانوا يرَون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه، فاتخذوا أسراباً وصوامع، وابتدعوا ذلك، فلما ألزموا أنفسَهم ذلك التطوعَ ودخلوا عليه لَزِمَهُم إتمامُه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفرَض عليه لَزِمَهُ أن يُتِمَّه . قال : وقوله [ فما رعوها حق رعايتها ] على ضربين : أحدهما : أن يكونوا قصَّروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر وهو الأجود : أن يكونوا حين بُعِث النبيّw فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة الله، فما رعَوا تلك الرهبانية حق رعايتها، ودليل ذلك قوله [ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ] يعني الذين آمنوا بالنبيّw [ وكثيرٌ منهم فاسقون ] أي كافرون . انتهى كلام الزجاج . ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال : كنت رديف رسول اللهw على حمار فقال : > يا ابن أم عبد ! هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانيةَ ؟ < فقلت : اللهُ ورسوله أعلم، فقال : ( ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهُزِمَ أهلُ الإيمان ثلاثَ مرات، فلم يَبقَ منهم إلا القليلُ، فقالوا : إن ظَهَرْنا لهؤلاء أفْنُونا ولم يَبقَ للدين أحدٌ يَدعو إليه، فتعالَوا نتفرقْ في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى t، يعنون محمداًw ، فتفرقوا في غِيران الجبال وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر )، ثم تلا هذه الآية [ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم .. ] إلى آخرها . ثم قال : ( يا ابن أم عبد ! أتدري ما رهبانية أمتي ؟ ) قلت : اللهُ ورسوله أعلم ؟ قال : ( الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة ) . وعن ابن مسعود قال : دخلت على النبيّ wفقال : ( يا ابن مسعود ! اختلف من كان قبلَكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها اثنتان، وهلك سائرهن : فرقة قاتلوا الملوكَ على دين عيسى tفقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى tفساحوا في البلاد، وترهبوا وهم الذين قال الله لهم [ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ] ) ثم قال النبيّw مَن آمن بي وصدَّقَني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومَن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون )[8] (إنتهى) .
وقال السيد حسن القبانجي النجفي : (لقد بلغ من خوف المؤمنين من قوم عيسى من الله أن ابتدعوا في ديانتهم الإنقطاعَ عن الدنيا وملازمة الصوامع والأديرة، ترهباً إلى الله، فأقرهم الله عليها، لأن القصد منها لم يكن إلا ابتغاء مرضاة الله، ولكنهم لم يراعوا حقوق هذا الترهب لله بما أدخلوه في ديانتهم من عقائد تتنافى مع الإيمان بالله حيث قال تعالى[ .. ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها .. ](إنتهى) [9] .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo