< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/04/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص

الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص

ليس المراد من عموم العام هنا هو في مقابل إطلاق المطلق ، وإنما المراد من عموم العام هنا هو ما يشمل المطلق الفوقاني ، ولذلك لك أن تغيّر العنوانَ وتقول : هل يُتمسّك ـ في مواضع الشكّ في التخصيص أو التقيـيد الزائد ـ بإطلاق الدليل المطلق الفوقاني ، أو يُستصحَبُ الحكمُ المخصِّص ؟

بـيانُ المطلب : قد يكون عندنا عموم مثل [اَوفوا بالعقود] وتخصيصٌ مثل (الغبن حرام لأنه إضرار بالمسلم ، سواء كان المغبونُ البائعَ أو المشتري) وحصل عند العرف شكّ في مقدار مدّة خيار الغبن ، ففي المدّة المشكوكة الشمول لخيار الغبن ، هل يُستصحَبُ هذا الحقُّ أم لا ؟ قطعاً لا ، لأنّ المقدار المتيقّن هو الساعة الاُولى ـ مثلاً ـ بعد ظهور الغَبن ، والزائدُ عن مقدار الساعة الأولى لا عِلْمَ لنا بثبوت خيار الغبن فيه ، وأنت تعلم أنه لا يجري الإستصحاب في عالم الجعل ، وذلك لاحتمال تغيّر الحكم في الساعة الثانية ، وإنما الإستصحاب يكون في عالم الشبهات الموضوعيّة فقط . ولذلك يتعيّن علينا ـ بعد انتهاء الساعةِ الأولى ـ الرجوعُ إلى عموم [اَوْفُوا بِالعُقُودِ] ولا يجري استصحابُ بقاءِ الحكمِ المخصِّص ، أي لا يجري استصحاب بقاء حقّ خيار الغبن إلى ما بعد الساعة الأولى ، وذلك لأنّ [اَوْفُوا] مطلقة بلحاظ جميع الأزمنة ، أي أنّ المولى تعالى يأمرنا بالإيفاء بالعقود في الساعة الأولى وفي الساعة الثانية والثالثة وهكذا ... خَرَجَ مِن وجوبِ الإيفاء بالعقود الساعةُ الأولى ـ بمقتضى الغبن ـ فيجب ـ مع عدم رجوع المغبون إلى البائع في الساعة الأولى ـ أن يُتمسّك بالإطلاق الأزماني لـ [ اَوفوا ] ، ولذلك قالوا بأنّ خيار الغبن فوريّ كما ذهب إلى ذلك الشيخ الأعظم الأنصاري وغيره .

وهنا بعض ملاحظات :

ليس البحث في المقام في تقديم العموم أو الإستصحاب عند التعارض ، فإنه لا كلام في تقديم أضعف الأمارات على أقوى الأصول كما تعلم ، وإنما النزاع في المقام هو في أن المورد ـ كثبوت حقّ الفسخ في الوقت الثاني ـ هل هو مورد للتمسك بالعام فلا مورد للإستصحاب ، أم هو مورد من موارد الرجوع إلى حكم المخصص وليس من موارد الرجوع إلى عموم الدليل، أم هو مورد لحكم آخر كالبراءة مثلاً .

يجب أن تقول نتمسّك بالإطلاق الأزماني لـ [اَوفوا] وليس لك أن تقول نتمسّك بالعموم الأفرادي لـ [العقود] ، وذلك لأنّ كلامنا إنما هو بلحاظ الزمان الثاني ، فنقول في الساعة الثانية والثالثة يجب الإيفاء بالعقد ، وليس بعد ذلك للمغبون الحقّ في خيار الغبن بعدما تبيّن له الثمنُ السوقي في الساعة الأولى .

في مثال خيار المجلس يجري نفس الكلام أيضاً ، إلاّ أنه في المدّة المشكوكة ـ كما لو انفصلا للذهاب إلى الوضوء مثلاً ـ يجب أن نرجع إلى العموم الأفرادي لـ [ أوفوا بالعقود] لا إلى الإطلاق الأزماني ، أي نـتمسّك ـ في الحالة المشكوكة ـ بعموم [العقود] لا بإطلاق [اَوفُوا] ، وذلك لعدم ثبوت [أوفوا] من أوّل الأمر ، فإنه في خيار المجلس لا يجب الإيفاءُ بالعقد طالما هما جالسان في المجلس .

مثال ثاني : لو تردّد أثناء سفره في إكمال سفره أو في رجوعه إلى وطنه ثم عاد إلى الجزم بإكمال السفر قبل أن يقطع شيئاً من الطريق ولم يكن الذهاب الباقي مع العَود مسافةً ، فإمّا أن تكون فترة التردّد طويلة عرفاً كأكثر من ساعة فهنا يجب عليه صلاةُ التمام بوضوح ، لكون القصد الثاني غير القصد الأوّل ولكون وظيفته ـ لو أراد أن يصلّي أثناء تردّده ـ أن يصلّي تماماً .

وإمّا أن تكون فترة التردّد قصيرة عرفاً فهنا كان السير ثمانية فراسخ عن قصدٍ متصلاً عرفاً ولم يفصل بين أجزائها ما هو فاقد للقصد لِفَرْضِ عدمِ قطعه شيئاً من الطريق حال التردّد . فاللازمُ هنا التمسّكُ بعموم أنّ حُكمَ مَن ضَرَبَ في الأرض هو التقصير ، ولا يوجد دليل يدِل على أنّ مجرّد التردّد ـ ولو القصير ـ يُفسد الشرطَ الثاني ـ وهو قصْدُ قطْعِ المسافة ـ ، ذلك لأننا استفدنا الشرط الثاني من روحية الروايات لا من نصّ صريح ، فيكفي بقاءُ القصد عرفاً ـ ولو كان بالدقّة العقلية قصْداً ثانياً ـ خاصةً إذا كانت فترة التردّد قصيرة للغاية . وما اُريد قولَه هو عدم صحّة استصحاب البقاء على التمام بذريعة أنه مجرّد أنه تردّد ـ ولو دقيقة ـ فقد صار حُكْمُه التمام ، فنستصحب التمامَ !! وإنما يجب أن تقول : الأصلُ عدمُ التخصيصِ الزائد في شرطيّة القصد .

مثال ثالث : لو كان شخص يضارِبُ بمال شخص آخر ، ثم انتهت مدّة المضاربة أو أنهم فسخوها ، بعد هذا الفسخ ذهب العاملُ ليَجْلِبَ المالَ فرجع وهو يدّعي تلفَ المالِ ! فهل يُسمَعُ قولُه لبقاء حُكْمِ أمانـتِه ـ كما كان الأمْرُ كذلك حين المضاربة ، بدليل أنّ العامل أمين فلا يَضمن أي لا يُغَرَّمُ وأنه إذا اتُّهِم يُستحلَفُ ولا يُطلب منه البيّنةُ ـ كما قال السيد الخوئي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمد الفيروزآبادي ؟

أو يُطلَبَ منه البيّنةُ لخروجه عن كونه أميناً ـ فيُرجَعُ إلى عموم (على المدّعي البيّنةُ) ـ ؟

أو يفصّل كما قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد الكلبايكاني والسيد حسن الطباطبائي القمّي[1] والسيد محسن الحكيم[2] فقد قالوا : (لا ريب أنّ الفسخ لا يخرجه عن الإئتمان إلاّ إذا طالبه المالكُ بالمال وقصّر العاملُ في الدفع ، وإلاّ فإن كان المال عند العامل بإذن المالك فهو أمين ويُسمع قولُه) ؟

الجواب : إختلف الفقهاءُ في هذا المسألة ، ولا شكّ في صحّة التفصيل الأخير ، لكنْ أمانتُه بعد فسخ المضاربة ليست نفسَ أمانتِه حين المضاربة ، فهما سنخان متغايران ، لأنّ الأمانة بعد فسخ المضاربة تكون من باب الوديعة والإذن المالكي ، لا من باب (العامِلُ المضارِبُ أمين) .

وما ينفعنا في بحثنا هنا هو أنه لو فَرضنا تقصيرَه قليلاً بحيث شككنا في بقاء نزوله تحت عنوان (الأمين) ، فح يلزمُ الرجوعُ في هكذا حالةٍ إلى عموم (البيّنةُ على المدّعي) لنفس السبب الذي ذكرناه في الأمثلة السابقة ، فإنّ البناء على كونه أميناً عند الشكّ في التخصيص الزائد ـ أي بعد انتهاءِ حالةِ كونه مضارباً أميناً وبعد عدم وضوح أنه وَدَعِيّ فهو إذَنْ أمينٌ شرعاً ـ لا دليل عليه ، فيُرجع ـ لا محالة ـ إلى الإطلاق الأزماني في الدليل الفوقاني العامّ وهو وجوبُ أن يقَدِّمَ بيّنةً على صحّة ادّعائه ، والظاهر أنّ مقصود الآغا[3] ضياء الدين العراقي هو هذا ، ولو لم يكن كلامه واضحاً فيما نقول ، فقد قال (.. وجهان مبنيّان على تقيـيد أمانته بخصوص بقاء المضاربة أو إطلاقه ، والتحقيق هو الأوّل)(إنتهى) .

أقول : لكن قد لا يكون التمسّكُ بعموم العامّ هنا هو عَينُ ما كنّا نريده في مستهلّ هذا المطلَب ، وإنما رجعنا إليه لأنّ الأصلَ هو عدمُ وجود إذن شرعي بعد الفترة المتيقّنة حينما كان عامِلاً مضارِباً ، وكذا إن شككنا في كونه وَدَعِيّاً أو مأذوناً من قبل المالك ، لأنّ الفرْضَ هو حصولُ شكّ في وجود هكذا اُذون شرعيّة أو مالكيّة ، فلا يصحّ استصحاب بقاء الإذن ، لأنّ الأصلَ عدمُه ، يعني أنه إذا شَكّ القاضي بين كون الإذن يوماً أو يومين فإنه يبني دائماً على الأقلّ ، وهذا أمْرٌ بيّنٌ وواضحٌ شرعاً وعقلاً ، فيُرجَعُ ـ لا محالةَ ـ إلى إطلاق (البيّنةُ على المدّعي) بَعدَ فَقْدِ تخصيصٍ زائد ، والأصل عدمه ، ولذلك نرجع إلى إطلاق (البيّنةُ على المدّعي) .

 


[3] تُكتَبُ بالفارسيّة (آقا)، ولكنها تُلفَظُ بالعربـيّة (آغا)، فراعَينا التلفُّظَ العربي .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo