< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الخاتمة في تعارض الأدلّة
( الخاتمة في تعارض الأدلّة )
بدأنا في هذه الدورة من علم الأصول بأبحاث القطع لأهميّة هذه الأبحاث وما بَعدَها، على أبحاث الظهورات والأبحاث العقليّة من أكثر من جهة، ثم تكلّمنا في أبحاث الظنّ،
ثم في الأصول العمليّة، وهذا هو المقصد الرابع في تعارض الأدلّة والأمارات فنقول :
لا شكّ في أنّ مباحث هذا المقصد هو من أهمّ أبحاث الأصول لتوقّف الإستنباط عليه غالباً، فإنه كثيراً ما تتعارض الأدلّة والأخبار، فيجب اتّخاذ موقف اتّجاهها، والبحث هنا عن عدّة جهات :
الجهة الاُولى في المراد من التعارض إجمالاً ؟
الجواب : لا شكّ في أنّ التعارض بين الأحكام الشرعيّة يكون في مرحلة الجعل، كما لو ورد (بيع الكلاب الثلاثة جائز) و (بيع الكلاب الثلاثة حرام أو ثمنها سحت) وهو محال عقلاً، وأيضاً التعارض بين ملاكيهما محال عقلاً لتضادّهما، وهذا أمر بديهي، فكلّ المسلمين يعلمون أنه لا يمكن التعارض بين الآيات أنفسها أو بين الأحكام الشرعيّة نفسها، أو قُلْ : يستحيل أن يتعبّدنا الباري تعالى بالمتناقضين أو المتضادّين، كما ويستحيل أيضاً التعارضُ بين الأحكام العقليّة أيضاً، كإمكان وجود بشرٍ خارجَ مجموعتنا الشمسيّة واستحالتِه .
ويقابله (التزاحم) وهو يكون في مرحلة الإمتثال، كما في (أنقِذِ الغريقَ) و (صَلِّ) فهما غير متنافيين، لا ملاكاً ولا جعلاً ولا فعليّة، وإنما التنافي بينهما يقع في مرحلة الإمتثال فقط، أي يكون الأهمّ هو المنجَّز فقط، ويسقط التنجيز عن المهمّ، لكن تبقى فعليّتُه، بحيث لو صَلّى لصحّت صلاتُه لبقاءِ فعليّته .
ومن المعلوم أنّ أهمّ أبحاث التعارض هو بين الأخبار، وإلاّ فإنّه لا محلّ للتعارض بين الأمارات ـ كخبر الثقة والفراغ واليد وسوق المسلمين ـ والأصول العمليّة، وذلك لما سيأتيك من تقدّم الأمارات على الأصول العمليّة بالورود، كما لا مجال للتعارض بين الإستصحاب وبين البراءة أو الحِلّ مثلاً وذلك لكون الإستصحاب مختصّاً بالشبهات الموضوعيّة والبراءةُ والحِلّ مختصّان بالشبهات الحكميّة، كما لا تعارض بين الإستصحاب والطهارة لأنّ الإستصحاب أخصّ من الطهارة، فيقدّم عليها، لأنّ الإستصحاب أصْلٌ كالطهارة، فهو إذن في عرْض الطهارة . كما لا يتصوّر التعارض بين الإستصحاب وبين أصالة عدم التذكية، وذلك لأنّ أصالة عدم التذكية هي فرع من فروع الإستصحاب، وكذلك لا يتصوّر التعارض بين الإستصحاب وبين أصالة الإشتغال، لأنّ الإشتغال هو أيضاً فرع من فروع الإستصحاب . فإذن يبقى أنّ أهمّ مباحث التعارض تقع بين الأمارات المعتبرة نفسها، وخاصّةً الأخبار المعتبرة شرعاً .
ولا شكّ في أنّ التعارض إنما يكون بين مدلولي الدليلين على وجه التنافي ـ أي التناقض أو التضادّ ـ كما ذهب إلى ذلك المشهور كصاحبَي القوانين والفصول والشيخ الأعظم الأنصاري، ففي المثال السابق لو وَرَدَ (بيعُ الكلاب الثلاثة جائز) و (لا تَبِعِ الكلابَ الثلاثة) فالتنافي إنما يكون بين المدلولين، أي بين كون بيعها جائزاً وبين كونِه حراماً، وهذا هو المراد بالمدلولين، وليست الخطابات بالأمر أو النهي إلاّ كاشفةً عن الجعولات الشرعيّة التي هي بنحو الجمل الخبريّة لا الجمل الخطابية .
ولك أن تقول ـ تساهلاً وعليه جَرَتْ ألْسِنَةُ بعض الرواة والعلماء ـ بأنّ التعارض يقع بين الدليلين، فتقول (تعارَضَ الخبران)، فقد ورد في الخبر (إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان ..) .
أقول: لكنْ قولُهم هذا مرجعُه وروحه إلى قولك (تعارَضَ الحكمان والجعلان) لذلك قلنا : يصحّ أيضاً أن تقول (التعارض يقع بين الدليلين)، ولكنْ بما هما كاشفان عن المدلولين، لأنّ المدلول الموجود في عالم الجعل هو السبب والعلّة في إنزال الأمر أو النهي إلى قلب رسول اللهw فجاء مثلاً (أقيموا الصلاة) و (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارَى) وإلاّ فالموجود في اللوح المحفوظ هو (الصلاة واجبة) و (السكر أثناء الصلاة حرام) بنحو الجمل الخبريّة .
وممّا مرّ عرفت أنّ المراد بالدليلين هو نفس الخبرين المعتبرين شرعاً .
وقد يعبّر بدل المدلول بـ (الدلالة) أيضاً، وقد يعبّر عنه أيضاً بـ (المراد)، وهما تساهل في التعبير . وقيل التعارض هو تنافي مقتضى الدليلين، ويقصدون هو التنافي بين المدلولين، المهم هو أنّ المراد من المدلولين هو المعنى المكشوف من الدليلين .
وإنما قلنا بأنّ التعارض إنما يكون بين المدلولين ـ وليس بين الدليلين ـ لأننا نحاول دائماً قبل تقديم أحد الدليلين وقبل إسقاطهما أن نجمع بين المدلولين . فلو وَرَدَ (صَلِّ) و (لا تُصَلِّ) فهذه الخطابات تكون كاشفة عن وجوب الصلاة وحرمتها، فالمشكلة إنما تقع بين الجعولات الموجودة في عالم الجعل، أي تقع بين (الصلاة واجبة) و (الصلاة محرّمة) أو (الصلاة واجبة) و (الصلاة غير واجبة) .
الجهة الثانية في معرفة المراد التفصيلي من التعارض
هل يشمل التعارضُ حالةَ التعارض القابلِ للجمع العرفي أيضاً ـ كالحكومة والورود والتخصيص والتقييد والأظهريّة ـ أم هو مقتصر على التعارض المستقرّ أي الغير قابل للجمع العرفي ؟
الجواب : مِنَ الطبيعي أن لا تكون الأحكام المنسجمة متعارضة، ويظهر أنه هو المشهور بين العلماء، فأنت إذا جمعتَ بين المداليل بالحكومة أو بالتخصيص مثلاً فقلت : المراد من الروايات القائلة (أكرم العلماء) و (لا يجب إكرام الفسّاق منهم) هو أنّ الواجب هو إكرام خصوص العلماء العدول، فأنت لا ترى بينهما أدنى تعارض . والتعارض البدْوي الذي يزول بأدنى تأمّل لا يصحّح تسميّةَ هذا التعارض البَدْوي بالتعارض، وذلك لعدم وجود منافاة بين مداليلهما . وإنما نستعمل كلمة (تعارض بدوي) لعدم وجود كلمة أخرى في المقام، فلا يَغُرَّنَّك استعمالُ كلمة (تعارض) لأنْ تعترض علينا فتقول (إذن هذا تعارض باعترافك) . فأنت إذا قرأت في الأدلّة : (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) فأنت بطبيعة الحال ستقول إذن (الربا حرام إلاّ بين الوالد وولده)، فلا ترى أيّ تعارض بينهما .
وبتعبير آخر : لعلّك تعلم من أبحاث الظهورات أنّ موضوع الحجيّة في بحث الظهورات هو (المراد الجدّي)، وعليه فأنت إذا أردت أن تعرف المراد الجدّي من الروايات عليك أن تجمعها قبل أن تدّعي أنّ بينها تعارضاً، فإذا جمعتها لتعرف المراد الجدّي فلن يبقى عندك تعارض، ولذلك فكلّ مورد قابلٍ للجمع العرفي فمن الخطأ الواضح أن تقول يوجد تعارض .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo