< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : المراد من التعارض والورود والحكومة والتخصيص
قلنا أمس في الجهة الاُولى بأنّ التعارض يقع بين مدلولَي دليلَي الأحكام الشرعيّة المتنافيين، وإنما نقول بالتعارض بينهما لأنّ الإيمان بهما جميعاً يؤدّي إلى حصول تعارض في عالم الجعل، ولذلك لا يمكن الأخذُ بالدليلين المتعارضين لئلاّ نصل إلى التعارض في عالم الجعل. المهم هو أنه يقع التعارض بين مدلولَي الخبرين الحجّة المظنوني الصدور المتكاذبين بنحو التناقض أو التضادّ ...
وقلنا أيضاً إنّه لا محلّ للتعارض بين الأمارات المعتبرة ـ كخبر الثقة والفراغ واليد وسوق المسلمين ـ والأصول العمليّة، وذلك لما سيأتيك من تقدّم الأمارات على الأصول العمليّة بالورود، كما لا تعارض بين أدلّة حجيّة الأمارات والأصول العمليّة، لأنّ لكلّ جعْلٍ منها دوراً ووظيفة، فلا يتعارضان في مورد أبداً، كما لو وردنا (خبر الثقة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة حجّة) و (الإستصحاب حجّة)... كما لا تعارض بين الأحكام الواقعيّة الأوّليّة والأحكام الواقعيّة الثانويّة كالأحكام الواردة في حالات الضرر أو الحرج أو الجهل أو النسيان أو الإضطرار أو الإكراه، وهو أمر معلوم، فإنّ لكلّ مورد وموضوع حكمَه المناسب، كما أنه ليس بين البراءة الشرعيّة ـ كجَعْلٍ كلّي ـ وأصالةِ الإحتياط العقليّة ـ بناءً على مسلك حقّ الطاعة ـ تعارضٌ، لأنّ البراءة الشرعيّة ـ كحُكْمٍ شرعي كلّي ـ واردة على الإحتياط العقلي لأنّ البراءةَ الشرعيّة تُلغي شرطَ الإحتياط العقلي وهو الشكّ .
فإذن يبقى أنّ أهمّ مباحث التعارض تكون بين الأخبار المعتبرة شرعاً .
واعلمْ أنّ التعارض إنما يكون بين مدلولَي الدليلين على وجه التنافي ـ أي التناقض أو التضادّ ـ كما ذهب إلى ذلك المشهورُ كصاحبَي القوانين والفصول والشيخ الأعظم الأنصاري[1] والسيد الخوئي والشهيد السيد الصدر .
الجهة الثانية : هل يشمل التعارضُ حالاتِ إمكان الجمع العرفي ؟
هل يشمل التعارضُ حالةَ التعارض القابلِ للجمع العرفي أيضاً ـ كالحكومة والتخصيص والتقييد والأظهريّة ـ أم هو مقتصِرٌ على التعارض المستقرّ أي الغير قابل للجمع العرفي ؟
الجواب : قلنا أمس بأنه مِنَ الطبيعي أن لا تكون الأحكام المنسجمة متعارضةً، ويظهر أنه هو المشهور بين العلماء كصاحب الكفاية [2] والمحقّق النائيني، وقال المحقّق العراقي بأنّ موارد الجمع العرفي خارجةٌ عن التعارض حُكْماً [3] ...
واعلمْ أنّ الورود ليس من أنحاء الجمع العرفي، لأنّ الورود يعني تقدّم الدليل الوارد على الدليل المورود رتبةً، بمعنى إلغاء الدليل الوارد لجريان الدليل المورود بالكليّة، فليس هناك دليل مورود ليُجمع بين دلالة الوارد ودلالة المورود، وأمّا الجمع العرفي فالمراد منه هو الجمع الدلالي بين الدلالات كما يجمع بين الدلالات بالحكومة أو بالتخصيص .
الجهة الثالثة في تعريف بعض المصطلحات المهمّة
أمّا تعريف الورود فقد قلناه أمس وقلنا هو كورود بعض الأمارات على البعض الآخر منها كورود البيّنة على اليد (الأمارة على الملكيّة) وعلى سوق المسلمين، وكورود الأماراتِ على الأصول العمليّة، وكما لو قال الثقةُ (هذا الثوب متنجّس) فإنه واردٌ على (أصالة طهارة هذا الثوب)، ومعنى (الورود) هنا هو أنّ خبر الثقةِ يجلب الثوبَ من تحت (قاعدة الطهارة) ويقول لها (هذا المورد موردي وليس موردَكِ) فيُطَبّق عليه حُكْمَه، وكورود بعض الأصول على بعض، كورود استصحاب نجاسة الشيء الفلاني على أصالة طهارته، فإنّ (الورود) هنا يعني أنّ استصحاب نجاسته هو المتّبع وهو المقدّم على أصالة طهارته، وكأنما استصحابُ نجاسته يجلب الشيء الفلاني إليه ويقول لأصالة الطهارة (هذا المورد موردي وليس موردَكِ) فيطبّق عليه حُكْمَه .
وقد يوجِدُ أحدُ الدليلين فرداً من موضوع الحكم في الدليل الآخر، فالأوّل وارد، والثاني مورود عليه، مثالُ ذلك : يقول دليل الإفتاء مثلاً (إذا كان يوجد حُجّةٌ ـ كخبر الثقة ـ فإنه ح يجوز الإفتاءُ)، فجاء خبر الثقة وقال (الظنّ في عدد الركعات بحكم اليقين)، فالدليلُ الثاني أَوجَدَ فرداً من أفراد الحجّة، وبالتالي أوجد ـ حقيقةً وتعبّداً ـ موضوعَ جواز الإفتاء، وكذا إذا ورد (المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب الله أو السُنّة)، ثم جاء دليل شرعي يقول (الشرطُ الفلاني حرام)، فالدليل الثاني وسّع في الشروط التي تخالف كتاب الله والسُنّة، فهو إذَنْ وارِدٌ، وكذا لو قلنا (يشترط في متعلّق اليمين والنذر أن يكون راجحاً أو غير مرجوح) ثم يأتي دليل آخر يقول (الشيء الفلاني راجح أو مرجوح) فهو إذن يزيد أو يُنقِصُ من المتعلّق، فهو إذن وارد .
تعريف الحكومة : هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مُتَعَرِّضاً لتفسير دليل آخر ومُبَيِّناً لمقدار موضوعه تعبّداً، وبالتالي فقد يكون مضيّقاً تعبّداً للموضوع في الدليل السابق أي رافعاً لبعضِ أفرادِ موضوع المحكوم ـ كما في (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) ـ وقد يكون الدليل الحاكمُ موسّعاً تعبّداً لموضوع الدليل السابق ـ كما في (يشترط في الصلاة الطهارةُ) والدليل الحاكم هو (الطواف في البيت صلاة) فهنا صار الدليل الحاكم موسّعاً لمفهوم الصلاة ـ وبالتالي فيكون الدليلُ الحاكمُ ملغياً لحُكْمِ الربا بين الوالد وولده، ومثبتاً لحُكْمِ الطهارة في المثال الثاني . إذن يجب أن يكون الدليل المحكوم موجوداً أوّلاً، وثانياً يجب أن يكون الدليلُ الحاكمُ ناظراً للدليل المحكوم، وإلاّ ـ لو فرضنا عدمَ وجودِ (الربا حرام) أو فرَضْنا عدمَ نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ـ لم يعد هناك معنى لقولنا (لا ربا بين الوالد وولده)، لأنه ح لا مورد له، أو قُلْ لأنه لا يوجد (رِبا) ليفسّره، أو هو غير ناظر إلى الدليل الثاني ليفسّره . وما ذكرناه هو الحكومة الواقعيّة لأنّ الأدلّة الحاكمة فيها هي أحكام واقعيّة وملاكُها واقعي ـ لا أصولاً عمليّةً شرطُها الشكّ ـ .
ويوجد حكومةٌ أخرى هي حكومة ظاهريّة، وهذه على نحوين :
قد يمثّل للنحو الأوّل بقول الشارع المقدّس مثلاً (خبر العادل علم) ـ على مسلك الطريقيّة ـ فإنه يوسّع معنى (العِلم) الواردِ في موضوعات الأحكام في قول المولى مثلاً (يحرم الإفتاء بغير العلم)، فإنّ قولَ الشارعِ المقدّس (خبر العادل علم) يوسّع في حدود (العلم) فيصير يمكن للفقيه أن يفتي بناءً على أخبار العدول، ولذلك كان قول الشارع المقدّس (خبر العادل علم) حاكماً على (يحرم الإفتاء بغير العلم) . وبما أنّ الحاكم هنا فيه نحو كاشفيّة، فيجب أن نقول بأنّ الحكومة هنا هي ظاهريّة، ولكنها من الصنف الأوّل من الحكومة الظاهريّة .
أقول : ذَكَرْنا هذا المثلَ لتقريب الفكرة لا أكثر، وإن كان لا يمكنُ الجزمُ بما ذكرناه مِن مَثَلٍ، وذلك لعدم عِلْمِنا بكيفيّة الأحكام المذكورة آنفاً في اللوح المحفوظ، فقد تكون بالنحو التالي (يحرم الإفتاء بغير حجّة) فيبطل ح كونُ (خبر العادل علم) حاكماً .
ومثال النحو الثاني قولُ عمّار بن موسى الساباطي (كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك)، وهذه القاعدة ليس فيها كاشفيّة أصلاً، ولذلك كانت قاعدة الطهارة من الأصول العمليّة، وبالتالي كانت الحكومة هنا من الصنف الثاني، بخلاف الصنف الأوّل ـ أي أخبار الثقات ـ الذي كان معدوداً من الأمارات . على كلٍّ، قاعدةُ الطهارة هذه تكون حاكمة على الأدلّة التي تشترط الطهارة مثلَ (إذا أردت أن تصلّي أو تطوف فيجب أن تكون طاهراً من النجاسات) لأنها تفسّر معنى الطهارة الواردة في الرواية الثانية وتوسّع معناها، فقاعدةُ الطهارة اعتبرت كلّ شيء طاهراً حتى تـَثْبـُتَ نجاستُه، أي أنها وسّعت في معنى الطهارة، إذن فهي حاكمة .
أمّا الدليل المخصّص فهو الدليل المُخْرِجُ بعض أفراد العام مِن تحت العام، حكماً ـ لا موضوعاً ـ مثل (أكرم العلماء) و (لا يجب إكرام فسّاق العلماء) . ففسّاق العلماء هم علماء، ولكنهم خرجوا عن وجوب الإكرام لسبب خارجي مهمّ ـ وهو هنا كونُهم فسّاقاً ـ . ودائماً يكون الإخراج من تحت حكم العام لسبب مهم قد يغلب موضوع العام في الملاك . ومثالُها العملي الأدلّةُ الدالّةُ على أنه لا حُكْمَ للشك في النافلة، أو مع كثرة الشك، أو مع حفظ الإمام أو المأموم، أو بعد الفراغ من العمل، فإنّ هذه الأدلّة مخصّصةٌ للأدلة المتكفلة لأحكام الشكوك .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo