< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : نهاية الكلام في نظريّة انقلاب النسبة

نظريّة انقلاب النسبة

وخلاصتُها أن تـنقلب النسبةُ بين دليلين ـ بسببِ دليلٍ آخر ـ إلى نسبة اُخرى ، كما لو كان يوجد دليلان بينهما عموم من وجه ، ودليلٌ أعمّ منهما ، فلو خصّصنا العامَّ الفوقاني بأحدِ الخاصّين ، وصار العامُّ أخصَّ من الخاصّ الثاني ، كان هذا انقلاباً للنسبة من الأعمّ إلى الأخصّ ، وكما لو انقلبت النسبة بين الدليلين من التباين إلى العموم المطلق ، فهذا أيضاً انقلاب للنسبة وهكذا ... المهمّ هو أنه لا مانع من انقلاب النسبة إذا كان الإنقلاب قد حصل على مستوى الدلالة التصوّريّة ، إذ يجب الجمع بين الروايات بالنظر العرفي ، أي على مستوى المداليل التصوّريّة ، ثم بعد معرفة المدلول التصوّري المجموعي وبعد معرفة حال المتكلّم نعرفُ المدلولَ الجِدّي للمتكلّم ، وهذا هو موضوع الحجيّة ...

وبعد بيان المطلب نقول : وقع البحثُ بين الناس في أنّ التخصيص هل يكون بين المداليل التصوّرية أو بين المداليل الجدّية ، وبتعبير آخَر : هل يجري التخصيصُ بين المداليل التصوّرية أو بين المداليل الحجّة بأن يجري التخصيص بين أحد الخاصّين وبين العام الفوقاني في مرحلة الدلالة التصوّريّة ، ثم يخصِّص العامُّ الفوقاني الذي هو الحجّة بعد تخصيصه ـ والذي صار أخصّ من الخاصّ الثاني ـ الخاصَّ الثاني ؟

قال صاحب الكفاية والسيد الشهيد الصدر بالأوّل أي أنّ الجمع يجب أن يكون على مستوى الدلالة التصوّريّة ، وقال المحقّق النائيني بالثاني .

أقول : ذكرنا قبل قليل ـ في بحث التخصيص ـ أنّ من البديهي أن العُرْفَ يَجمعُ بين المداليل في مرحلة المداليل التصوّريّة ـ كما هو قول صاحب الكفاية والسيد الشهيد الصدر ـ ، كما ويجب أن نجمع بين المداليل المنفصلة كما لو كانت متّصلة ، ويُنتِج الكلامُ ـ أخيراً ـ مدلولاً تصوّرياً مجموعيّاً واحداً ، ثم بعد معرفةِ الجديّةِ مِن حالِ المتكلّم نعرفُ المرادَ الجدّي للمتكلّم ، فح تنصبّ الحجيّةُ على هذا المراد الجدّي للمتكلّم . المهمّ هو أن يكون الجمعُ عرفيّاً لا غير ، والعرفُ يَرَى أنّ التخصيص إنما يكون في مرحلة المداليل التصوّريّة ، ثم بعد حصول التخصيصات وبعد معرفة الحال من المتكلّم ، نعرف المراد الجدّي له ، فح تنصبّ الحجيّةُ على هذا المراد الجدّي .

[ الموقفُ الشرعي في حال تعارض الأمارتين ]

... إذا كانت إحدى الأمارتين أقوى كاشفيّةً من الأخرى فلا شكّ في تقدّم الأقوى كاشفيّةً على الأخرى ، وأمثلة ذلك هي ما يلي :

ـ ما لو تعارضت أمارتان متفاوتـتان في قوّة الكاشفيّة ...

ـ ما لو تعارض خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقة ، وفي هكذا حالة لكي نعرفَ الموقفَ الشرعي ، علينا أن ننظر إلى أهمّ الروايات المشهورة التي رواها علماؤنا وهي :

ـ روَىَ سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألَّفَها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها عن محمد وعليّ(فقيه ثقة) ابنَي علي بن عبد الصمد عن أبيهما(عالم جليل فقيه) عن (الإمام الزاهد الثقة)أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه (الشيخ الصدوق) عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح(ثقة) عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله(ثقة) قال قال الصادق (عليه السلام) : ( إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتابَ الله فخُذُوه ، وما خالف كتابَ اللهِ فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارَهم فذَرُوه ، وما خالف أخبارَهم فخُذُوه )[1] صحيحة السند ، وهي تامّةُ الدلالة على الترجيح بالكتاب الكريم أوّلاً ثم بمخالفة العامّة ثانياً .

ـ وروى في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرَين في حقهما واختُلِف فيما حكما ، وكلاهما اختَلفا في حديثكم ؟ فقال : ( الحكمُ ما حكم به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) قال فقلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال فقال : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (حلالٌ بيِّنٌ ، وحرامٌ بيِّنٌ ، وشبُهاتٌ بين ذلك ، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات ، ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يَعلم .. ) ، قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ( ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامّة ) ، قلت : جُعِلْتُ فِداك ، إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخرُ مخالفاً لهم ، بأيِّ الخبرين يؤخذ ؟ فقال : ( ما خالف العامةَ ففيه الرشادُ ) ، فقلتُ : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال : ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ ، حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، قلت : فإنْ وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : ( إذا كان ذلك فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ مِنَ الإقتحام في الهلكات )[2] وهي مقبولة السند .

وهي تفيدنا ما يلي : (1) وجوب تقديم حُكْمِ ( أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) ، فالترجيحُ أوّلاً كان ناظراً إلى الحَكَم ـ لا إلى الراوي ـ ، فإنْ تساويا من هذه الجهة (2) ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمعَ عليه لا ريب فيه ) أي يؤخذ بالرواية التي اجتمع عليها أكثرُ العلماء ، أي عملاً وفتوى ، فإن تساويا من هذه الجهة فإنه (3) ( يُنظَرُ ، فَما وافق حُكْمُه حُكْمَ الكتابِ والسُّنّة وخالف العامّةَ فيؤخذ به ويُترَكُ ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة ) فإنّ ( ما خالف العامةَ فيه الرشادُ ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً فإنه (4) ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً (5) ( فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ) أي إعمل بالإحتياط .

وهذه المقبولة تشتمل على الترجيح بالكتاب والسُّنَّة ، وأمّا صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله فترجّح بكتاب الله ، ثم بمخالفة العامّة ، غير أنّ المقبولة تَذْكُرُ قبل ذلك ترجيحَين آخرين ، أحدُهما ترجيحُ أحد الحُكْمَين على الآخر بصفات الحاكم ، والآخَرُ الترجيحُ بشهرة الرواية ، فهي بالتالي تقيّد إطلاقَ رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، بمعنى أنها تدلّ على أن الإنتهاء إلى المرجِّحَين السابقَين متوقف على عدم وجود هذين الترجيحين .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo