< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : كلام الشيخ الطوسي في التعارض

بعدما وصلنا في الدروس السابقة إلى أننا لا نجدُ دليلاً على التخيـير الظاهري في حال التعارض المستقرّ ، ويـبقَى الدليلُ على الترجيح بمخالفة العامّة فقط لا غير ، علينا أن ننظر إلى كلمات مفيدة قالها الشيخُ الطوسي (قدس سره) (385 ـ 460 هـ) منذ حوالي ألف سنة (الآن هي سنة 1437 هـ) لنرَى كيف كانوا يَجمعون بين الروايات المتعارِضة تعارضاً مستقرّاً ـ وسأضَعُ تعليقاتي بخطٍّ صغيرٍ بين قوسَين ضِمْنَ كلامِه ليتمايزا ، ولن أتصرّف بالنصّ أصلاً ـ قال :

(متى كان الخبر متناوِلاً للحظر (كأكل لحم الأرنب) ولم يكن هناك دليلٌ يَدِلُّ على الإباحة ، فينبغي المصيرُ إليه ، ولا يجوز العملُ بخلافه ، اِلاّ أن يدل دليلٌ يوجب العملَ بخلافه ، لأنّ هذا حكم مستفاد بالعقل (أي أنه كان يستفيد الوجوب من العقل لا من اللفظ) ، ولا ينبغي أن يُقطع على حظر ما تضمنه ذلك الخبر ، لأنه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به ، ولا هو موجب العمل فنعمل به . (وهذا يعني أنه يَجُوز العملُ بخبر الواحد ولكن لا على نحو الوجوب ، وهذا منه عجيب إلاّ أن يقصد أنه يجوز العملُ بالإحتياط) .

وإنْ كان الخبر متضمِّناً للإباحة (كما في موثّقة عَمرو بن سعيد : الصائمُ يَتَدَخَّنُ بِعُودٍ أو بغير ذلك فتدخلُ الدَّخَنَةُ في حَلْقِه ؟ فقال ( جائز لا بأس به )[1] ) ولا يكون هناك خبرٌ آخر أو دليل شرعي يدِلُّ على خلافه ، وجب الإنـتـقال إليه والعمل به وتركُ ما اقتضاه الأصلُ لأنّ هذا فائدة العمل بأخبار الآحاد ، ولا ينبغي أن يُقطع على ما تضمنه (أي لا ينبغي أن يُنسَبَ ذلك إلى المولى تعالى لأنّ خبرَ الثقةِ لا يوجب العلم الوجداني) ، لما قدمنا من وروده مورداً لا يوجب العلم .

ومنها : أن يكون الخبر مطابِقاً لِنَصّ الكتاب(الكريم) إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه (الفحوى تعني الأولويّة) ، فإنّ جميع ذلك دليل على صحة متضمَّنِه ، إلاّ أن يدل دليل يُوجب العِلْمَ يقترن بذلك الخبرِ يدل على جواز تخصيص العموم (القرآني) به ، أو (يدلّ على) ترْكِ دليل الخطاب فيجب حينئذ المصير إليه . وإنما قلنا ذلك لما نبـَيِّنُه فيما بعدُ مِنَ المنع من جواز تخصيص العموم (القرآني) بأخبار الآحاد إن شاء الله تعالى .

ومنها : أن يكون الخبرُ موافقاً للسُّنَّةِ المقطوع بها من جهة التواتر ، فإنّ ما يتضمَّنُه الخبرُ الواحد إذا وافقه مقطوعٌ على صحته أيضاً وجوازِ العمل به وإنْ لم يكن ذلك دليلاً على صحة نفس الخبر لجواز أن يكون الخبر كذباً وإنْ وافق السُّنَّةَ المقطوعَ بها .

ومنها : أن يكون موافقاً لما أجمعت الفرقة المحقَّة عليه ، فإنه متى كان كذلك دلَّ أيضاً على صحة متضمَّنِه (وهو يعني ترجيح الإجماع للخبر ، وهو بطبيعة الحالِ دليلٌ على حجيّة الإجماع عنده) ، ولا يمكننا أيضاً أن نجعل إجماعَهم دليلاً على صحة نفس الخبر ، لأنهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر ، أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناءً بإجماعهم على العمل به ، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر .

فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضَمَّنِ أخبارِ الآحاد ، ولا تَدِلُّ على صحتها (في) أنفسها لما بيَّـنّا مِن جواز أن تكون الأخبار مصنوعة (أي موضوعة حتى) وإنْ وافقت هذه الأدلةَ ، فمتى تجرد الخبرُ عن واحد من هذه القرائن كان خبرَ واحدٍ محضاً ، ثم يُنظَرُ فيه : فإنْ كان ما تضمَّنَه هذا الخبرُ ، هناك ما يدل على خلاف متضمَّنِه من كتاب أو سُنَّة أو إجماع وجب اطِّراحُه والعملُ بما دل الدليلُ عليه ، وإن كان ما تضمَّنَه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يُعرف فتوى الطائفة فيه ، نُظِرَ :

فإنْ كان هناك خبرٌ آخر يعارِضُه مما يجري مجراه وجب ترجيحُ أحدِهما على الآخر ، وسنبيِّنُ مِن بعدُ ما يرجح به الأخبار بعضها على بعض ،

وإن لم يكن هناك خبر آخر مخالفه (الظاهر : يُخالِفُه) وجب العملُ به ، لأنّ ذلك إجماعٌ منهم على نقله ، وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه ، فينبغي أن يكون العمل به مقطوعاً عليه ، وكذلك إنْ وُجِدَ هناك فتاوى مختلفةٌ من الطائفة ، وليس القول المخالفُ له ، مستـَنِداً إلى خبرٍ آخر ، ولا إلى دليل يوجب العِلْمَ وجب اطِّراحُ القولِ الآخر والعملُ بالقول الموافق لهذا الخبر (الأوّل) ، لأنّ ذلك القولَ لا بُدَّ أن يكون عليه دليل ، فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته ، ولسنا نقول بالإجتهاد والقياس يُسنَدُ ذلك القولُ إليه، ولا هناك خبر آخر يضاف إليه ، وجب أن يكون ذلك القول (الثاني) مطروحاً ، ووجب العمل بهذا الخبر (الأوّل) ، والأخْذُ بالقول الذي يوافقه .

وأما القرائنُ التي تدل على العمل بخلاف ما يتضمَّنُه الخبرُ الواحدُ ، فهو أن يكون هناك دليل مقطوعٌ به من كتاب أو سُنَّةٍ مقطوعٍ بها أو إجماعٍ مِنَ الفِرقة المحقَّة على العمل بخلاف ما تضمَّنَه ، فإنّ جميع ذلك يوجب ترْكَ العملِ به ، وإنما قلنا ذلك لأنّ هذه الأدلَّةَ توجب العِلْمَ ، والخبرُ الواحدُ لا يوجب العِلْمَ ، وإنما يقتضي غالبَ الظنِّ (أقول : خبر الثقة حجّة حتى ولو لم يفد الظنّ ، وإنما أعطى اللهُ تعالى الحجيّة لخبر الثقة لأنّ أغلب أخبار الثقات تصيب الواقع ، لا لأنّ كلّ خبر ثقة يفيد الظنّ) ، والظنُّ لا يقابلُ العِلْمَ ، وأيضاً فقد رُوِيَ عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: ( إذا جاءكم عَنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسُنَّةِ رسوله (ص) فإنْ وافقهما فخُذُوا به ، وما لم يوافقهما فرُدُّوه إلينا ) فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر ، ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه لأنه لا يمتـنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحاً وله وجهٌ من التأويل لا نقف عليه ، أو خرج على سبب خَفِيَ علينا الحالُ فيه أو تناول شخصاً بعينه ، أو خرج مخرج التقية وغيرُ ذلك من الوجوه ، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه ، وإنما يجب الإمتناع من العمل به حسبما قدمناه .

فأمّا الأخبارُ إذا تعارضت وتقابلت ، فإنه يُحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيحُ يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقاً للكتاب أو السُّنَّة المقطوعِ بها ، والآخرُ مخالفاً لهما ، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترْكُ العملِ بما خالفهما .

وكذلك إن وافق أحدُهما اجماعَ الفرقة المحقة ، والآخرُ يخالفُه ، وجب العمل بما يوافق إجماعَهم ويُترَك العملُ بما يخالفه .

فإنْ لم يكن مع أحد الخبرين شيءٌ من ذلك ، وكانت فتيا الطائفة مختلفة ، نُظِرَ في حال رواتهما ، فما كان راويه عدْلاً وجب العمل به وتَرْكُ العملِ بما لم يروه العدلُ ، وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب . (وهذا يعني تقديمَ الرواية الصحيحة على الرواية الموثّقة ، ولا دليل على كلام الشيخ) .

فإن كان رواتهما جميعاً عَدْلين ، نُظِرَ في أكثرهما رواةً عُمِلَ به وتُرِكَ العملُ بقليل الرواة ، (لا دليل على هذا الكلام أيضاً ، إلاّ إذا أورثت الكثرةُ الإطمئنان) ،

فإن كان رواتُهما متساويَين في العدد والعدالة ، عُمِلَ بأبْعَدِهما مِن قولِ العامَّةِ ويُترَكُ العملُ بما يوافقهم . (هذا صحيح بإجماع الطائفة) .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo