< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مسلك جعْلِ الحكم المماثل

[ مسلك جعْلِ الحكمِ المماثل ]

السؤال هنا هو : إذا أفادتْـنا الأمارةُ بحكمٍ أو أفادنا الأصلُ العمليّ بوظيفةٍ عمليّة ، فهل معنى إعطاء الحجيّة لأخبار الثقات وللأصول العمليّة هو أنّ الله تعالى يجعل حُكْماً شرعياً جديداً ظاهريّاً مماثِلاً لما أدّت إليه الأمارةُ أو يجعلُ حُكْماً شرعيّاً جديداً ظاهريّاً مماثِلاً لمؤدّى الأصل العملي أم لا ؟

لا شكّ أنّه من غير الحكمة أن يشرّع المولى تعالى حكماً جديداً ظاهريّاً مماثلاً لمؤدّى الأمارة أو مماثلاً للوظيفة العمليّة ، لأنه لغو محض .

نعم ، يجب على المكلّف أن يقوم بوظيفته الظاهريّة لا أكثر ، فالأمارات المعتبرة والأصول العمليّة سواءً قلنا إنها تنجّز وتعذّر فقط أو قلنا بالطريقيّة فهذا لا يعني أنّ الله يجعل حكماً ظاهريّاً جديداً على طبق مؤدّى الأمارة أو على طبق الوظيفة العمليّة ، إنما تفيدنا أدلّةُ حجيّة الأمارات المعتبرة والأصول العمليّة أنّ على المكلّف أن يطبّق ويعمل بوظيفته الشرعيّة الظاهريّة لا أكثر .

فمثلاً في قاعدة الطهارةِ : يتعبّدُنا اللهُ تعالى بمقتضى حجيّة قاعدة الطهارة ـ أي تلقائياً وارتكازاً ـ بالإلتزام بحكم مماثل لمؤدّى قاعدة الطهارة ، لا بمعنى أنّ المولى عزّ وجلّ يجعل حكماً جديداً فإنه لغو محض ، وإنما بمعنى أنه عز وجل تعبّدنا بالعمل على أساس قاعدة الطهارة ، أي تعبّدنا أن نعتبر مشكوك النجاسة طاهراً ، لذلك كانت قاعدة الطهارة معذّرةً لنا ، بمعنى أننا لو سألنا المعصوم عن حكم هذا الماء المشكوك الطهارة لقال لنا حُكْمُه الشرعي الظاهري هو الطهارة ، وكذا في مثال الإستصحاب تعبّدنا أن نبني على بقاء الحالة السابقة ، أي بمعنى أنّ البناء على بقاء الحالة السابقة هو المنجّز علينا ... وهكذا في سائر الأصول والأمارات . فإن كان مراد القائل بجعل الحكم المماثل هو هذا فهذا أمْرٌ يَعْرِفُه كلُّ المتشرّعة ، فضلاً عن العلماء ، وأمّا إن كان يقصد أنّ الله عز وجل يَجعل حكماً جديداً فهذا محض لغو ، وحاشا للمولى تعالى ذلك .

إذن يمكن القول بصحّة مسلك جعل الحكم المماثل ، سواءً في الشبهات الموضوعيّة ـ لكن لا بمعنى أنّ الله تعالى يجعل حكماً ظاهرياً جديداً ، وإنما بمعنى أنه تعالى يعتبر الشيء الفلاني طاهراً وكأنّ الشيء طاهرٌ واقعاً ، لكن من حيث التنجيز والتعذير فقط وطالما بقي الجهل بالحالة ـ أو في الشبهات الحكميّة ـ كما في البراءة والحِلّ ـ ، ومرادُنا من جعْلِ اللهِ تعالى حكماً ظاهرياً مماثلاً لمؤدّى الأمارة أو مماثلاً للوظيفة العمليّة ، أنه إن دلّ خبرُ الثقةِ على وجوب السورة مثلاً فإنّ الله يتعبّدنا بوجوبها ظاهراً ـ لا بمعنى أنه يحكمُ بوجوبها ظاهراً حكماً جديداً ـ ولذلك يتـنجّز الوجوب علينا ، وإذا استصحبنا عدم طروء ما يرفع الحالة السابقة ، كان معنى ذلك أن نبني على بقاء الحالة السابقة ، أي يتنجّز الحكمُ علينا ، وهذا هو مرادنا من جعل الحكم المماثل ، فنحن بذلك لم نمسّ كرامةَ الجعلِ الواقعي ، إنما ندّعي أنّ الله تعالى حينما جَعَلَ الحجيّةَ لخبر الثقة مثلاً فإنما يعني أنه جعل مفاده حجّة علينا .

إذن يمكن القول بصحّة هذا المسلك في نفسه ـ كما رأيتَ في الأمثلة السابقة ـ فإذا قال الله تعالى بأنّ مرادي من أدلّة الإستـصحاب أن أقول (هذا الثوب طاهرٌ ظاهراً أي إعمل على أساس أنه طاهر) فهذا ممكن ، ولو قال : مرادي من قولي (خبر الثقة حجّة) أنّ مفاده حجّة فهو يعني أنّ مفاده صار حكماً شرعيّاً منجّزاً عليه واجبَ الإتّباع ، بحيث لو سألتَ المعصومَ عن حكم الماء الذي استصحبت طهارتَه لقال لك وظيفتك أن تبني على طهارته ، ولهذا نقول بجعل الحكم المماثل لكن بالنحو المذكور ، كي لا نقع باللغو . إذن حينما يقول الله تعالى لنا ﴿ وما كُنّا مُعَذّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً[1] أو ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُـبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون [2] فإنّ مراده أن يقول إنكم بريئوا الذمّة ، فنحن ح إذا سألْنا اللهَ تعالى عن حكم التدخين مثلاً فسيقول لنا ـ بناءً على أدلّة البراءة المذكورة ـ أنتم بريئوا الذمّة ، وهذا هو مرادنا من جعل الحكم المماثل ، لا أنّ الله تعالى يجعل حكماً جديداً مضافاً إلى أدلّة البراءة .

أمّا القول بجعل شرعي ظاهري جديد مماثل لمؤدّى الأمارة أو الوظيفة العملية فهذا لغوٌ واضح ، إذ لا داعي لهذا القول أصلاً . فمثلاً : كما كان يكفي أن يقول الله تعالى (الصلاة بالكيفية الفلانية بالشروط الفلانية ومع ترك الموانع الفلانية واجبة) ، فإنْ نحن أقمناها بشروطها كانت صحيحة ، ولا داعي لله تعالى أن يقول ـ بعد ذلك ـ حكمتُ على هذه الصلاة بالصحّة ، فإنّ في ذلك لغواً واضحاً ، فكذا ما نحن فيه تماماً .

[ القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام ]

لا شكّ في أنّ كلّ الأحكام الشرعيّة الواقعيّة هي أحكام حقيقيّة ـ أي كليّة لأنّها موجودة في اللوح المحفوظ أو في ذهن البشر مثلاً ـ مثل (المؤمنُ نظيف) و (إذا كان العالمُ عادلاً وجب إكرامه) و (الصلاةُ واجبةٌ) و (إذا زالت الشمسُ فقد صارت الصلاة على المكلّفين واجبةً) و (إذا استطاع المكلّف فقد وجب عليه الحجّ) ، أمّا أحكامُ القضاةِ والمقنّـنين العاديين فمنها ما هو حقيقي ـ كقولهم القاتِلُ يُقتَلُ ـ ومنها ما هو خارجي كحُكْمِهم بأنّ الشيء الفلاني هو لفلان ، بناءً على البـيّنات والأيمان .

[ تبعيّة الدلالة الإلتـزاميّة والتضمّنيّة للدلالة المطابقيّة ]

لعلّ السببَ في طرح بحث تبعيّة الدلالة الإلتـزاميّة للدلالة المطابقيّة هو أنه جرى الكلام بين العلماء عمّا إذا سقط المدلولان المطابقيّان لأمارتين معتبرتين متعارضتين تعارضاً مستقرّاً ، فهل يصحّ ح البناءُ على بقاء المدلول الإلتـزامي المتّفق عليه بين الأمارتين أو قُلْ المدلول الناتج المتّفق عليه عند كلتا الأمارتين ـ وهو المسمّى بالمدلول الثالث ـ رغم سقوطهما بالتعارض ؟

الجواب : لا شكّ ـ أوّلاً ـ في سقوط المدلول الإلتـزامي للأمارة التي سقطت ، وذلك لنشوء مدلولها الإلتزامي منها ، وذلك لوضوح أنه إذا سقطت العلّة فقد سقط معلولها معها . وأمّا بالنسبة إلى بقاء المدلول الثالث فهذا مرتبط ببقاء الوثوق والإطمئنان بصحّة المدلول الثالث ، كما لو فرضنا تعارُضَ الأمارتين المعتبرتين في غُسْل الجمعة ـ فواحدة تقول بوجوبه وأخرى تقول باستحبابه ـ وسقوطَهما ، فإنّ الفقيه يطمئنّ بعدم حرمة غسل الجمعة ، وإلاّ فمع عدم الوثوق فلا شكّ في سقوط المدلول الثالث ... يتبع

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo