< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : المعاني الحرفية

المعاني الحرفية

قلنا أمس الحرفَ في علم الأصول هو ما يُفيد الربطَ الذهني بين المعاني الإسميّة . فالمعنى الحرفي هو الرابط بين المعاني الإسميّة .

ثم بما أنّ الحرف هو ما يوجِد الربطَ الذهني بين المعاني الإسميّة فقد قالوا بأنّ هيأةَ الفعل وهيأة الجملة هما أيضاً حروف ، فمثلاً : هيأة (صَلِّ) حرفٌ لأنها تفيد الربطَ بين (أنت) و (الصلاة) وتفيد معنى الوجوب ، وهيأة (يصلّي) تفيد الربطَ بين (هو) و (الصلاة) وتفيد معنى الإخبار ، وهيأة الجملة الشرطيّة تفيد معنى توقّف الجزاء على الشرط ... ومن هنا تعرف الفرق بين المعنى الإسمي والمعنى الحرفي ، فالمعاني الإسميّة ـ كمفاهيم الصلاة والصيام وصُوَر زَيدٍ وعَمْرو ـ يظهر معناها للسامعِ بنحو الإستقلال ، والمعنى الحرفي ـ كمعنى النسبة الطَلَبـيّة في (صَلِّ) ـ لا يَظهرُ معناه للمتكلّم ولا للسامع مِن دون تصوّر مادّتَي (أنت) و (الصلاة) .

ونحن قد شرحنا أقوالَ القوم في هذه المسألة في حلقات السيد الشهيد الصدر وعلّقنا عليها، وقلنا بأنّ للحروف معاني وذلك بالوجدان ، فإنّ معنى (في) تفيد معنى غير معنى (من) وبدليل الإختلاف بين معنى (في) ومعنى (من) وغيرهما ... وأنّ الحروف موضوعةٌ للنسب على أنحائها كالنسبة الظرفيّة والنسبة الإبتدائيّة والنسبة الإستعلائيّة ـ التي هي معنى حرف (على) ـ والنسبة الطلبـيّة ـ التي هي معنى هيأة (صَلِّ وصُمْ) ـ والنسبة الندائيّة ـ التي هي معنى حرف النداء (يا) ـ الواقعة بين المنادِي والمنادَى ...

كيفيّة وضْعِ الحروف

حينما قلنا بأنّ المعاني الحرفيّة رابطةٌ بين المعاني الإسميّة ، وأنّ الحروفَ موضوعةٌ للنسب على أنحائها ، إذَنْ المعاني الحرفيّة بهذا اللحاظ جزئيّة ، لأنها تربط بين المعاني الإسميّة ، فكيف تمّ وضْعُها بالوضع العام لمعانيها مع أنّها جزئيّة ؟!

هل كان الواضعُ يتصوّر المعنى الربطي الجزئي من خلال بعض الأمثلة ثم يضع اللفظَ كما يَضَعُ الأبُ إسماً لولده المولود الجديد ، فكما يتصوّر الأبُ صورةَ إبنه في ذهنه فيضع له إسماً ، فإنّ الواضعَ يتصوّر معنى (في) مثلاً ـ في قولنا (الكـتابُ في المكتبة) ـ ضِمنَ الجملة ثم يضع له كلمة ؟

لا يمكن ذلك ، لأنّ الواضعَ حينما كان يضعُ الحروفَ لمعانيها فإنما كان يَضَعُ لفظاً عامّاً لمعنى عامٍّ حتماً ، وليس لفظاً خاصّاً لمعنى خاصّ .

إذن ، هل كان الواضعُ يتصوّر المعنى العامّ من خلال هذا المعنى الخاصّ ـ كما تـتصوّرُ عمومَ الناس من خلال زيد وعمرو ـ ليصير المعنى كلّياً واللفظُ موضوعاً للمعنى الكلّي ؟

قد تـقول : نعم ، فإنّ الواضع كان يتصوّر المعنى الربْطي للظرفيّة في الأوضاع الخارجيّة ، بمعنى أنه يتصوّر أوّلاً المعنى الجزئي للمعنى الربطي للظرفيّة من خلال جملة خارجيّة ، ثم يزيلُ منه أطرافَه من الجملة ومن الذهن فيتصوّرُ هذا المعنى بشكل عام ، ثم يضعُ له حرفاً يناسب المعنى العام الربطيّ للظرفيّة ، بحيث يكون دورُ الحرف إيجادَ الربط بين المعاني الإسميّة ، أي بحيث لا يكون معنى الحرف هو نفس معنى الإسم ـ لأنّ الإسمَ يمكن تصوّرُ معناه مستقلاً ـ ففي الحروف لا يُتصوّر معنى الحرفِ بشكلٍ مستقلّ ، وإنما يكون معنى الحرف ربْطِيّاً محضاً ـ بخلاف الإسم ـ ، ولذلك يكون المعنى الحرفي مغايراً لحقيقة المعنى الإسمي مهما قرب معناهما من بعضهما البعض كمَعنى (في) ومَعنى (الظرفيّة) ، ومعنى (مِنْ) و (إبتداء) ... ولذلك لا يمكن ولا يصحّ قيام أحدهما مكان الآخر .

فأقول : ما ذكرتموه جيّدٌ بلا شكّ ، لكن يـبقى هنا مشكلةٌ وهي أنه يقال بأنه لا يمكن تصوّرُ المعنى الكلّي العام للحرف ، لأنّ المراد من المعنى الكلّي العام هنا هو تصوّر المعنى الحرفي من دون خصوصيّات طرفَيه ، وفي المعاني الحرفيّة إذا حَذَفتَ الطرفين فقد طار المعنى الحرفي وفَنَى ، لأنّ المعنى الحرفي هو الرابط بين المعاني الإسميّة ، فإذا حذفتَ المعاني الإسميّة فقد فَنَى المعنى الحرفي قطعاً ، لأنه قائمٌ بطرفَيه ، فكيف إذن يمكنُ تصوّرُ المعنى الكلّي العامّ للحرف كي يضعَ له الواضعُ حرفاً ؟!

والـتحـقيق هو أنّ الذهنَ واسعُ التخيّل ، فهو يمكن له أن يتصوّرَ المعنى الربْطي العام للظرفيّة من خلال تصوّرِ جملةٍ أو جملتين ، فيضع الواضعُ لهذا المعنى الكلّي العامّ حرفاً ما ، فمثلاً: أنت يمكن لك أن تتصوّر المعنى الجامع بين معاني (في) في قولك (زيد في البـيت) و (الكتاب في الغرفة) و (النار في الموقد) ، فأنت تتصوّر أنّ المعنى الربطي النسبي للظرفيّة موجود في كلّ جملة من هذه الجمل ، فيقول الواضعُ : (مع غَضّ النظر عن هذه الأطراف وضعتُ حرفَ (في) للمعنى الجامع الربطي الظرفي كما في هكذا حالات)، وهذا التصوّر للجامع يعرفه كلّ خبير في العالَم .

وهكذا نخرج بنـتيجةٍ واضحة وهي أنّ الوضع في الحروف عامٌّ والمعنى الذي وضعوا له الحرفَ عامٌّ ، وهذا قصْدُهم مِن قولهم "الوضع عام والموضوع له عام" ، وإلى هذا ذهب صاحبُ الكفاية .

هيآت الأفعال والأسماء المشـتَـقّة والجمل

عرفتَ ممّا سبق بأنّ هيآت الأفعال ـ كهيآت أَكَلَ ، يأكُلُ ، كُلْ ـ وهيآتِ الأسماء المشتقّة من المصادر ـ كـ قائم ومأكول المشتقّتين من القيام والأكْل ـ وهيآت الجمل ـ كهيأة الجملة الخبَريّة وهيأة الجملة الشرطيّة ـ هي حروف بلا شكّ لأنها تفيد معنى ذهني يربطُ بين المعاني الإسميّة ، ففي قولك "زَيدٌ قائمٌ" مثلاً ، تفيد هيأةُ "قائمٌ" تَلَبُّسَ القيامِ بزيدٍ ، فهي إذن تربط بين صورة زيد الموجودة في ذهنك وبين صورة القيام الموجودة في ذهنك ، وهكذا جملة (التفّاحةُ مأكولة) فإنّ هيأةَ (مأكولة) تفيد وقوعَ الأكل على التفاحة ، كما وتفيد ربط صورة التفاحة الموجودة في ذهنك بوقوع الأكل عليها ... وهكذا تماماً هيأةُ (الوضوء) في قول الإمامِ (الوضوءُ على الوضوء نُورٌ على نور) فإنها تفيد معنى نـتيجة التوضّي ، وهي هنا تفيد الربطَ بين الشخص وبين وقوع نـتيجة التوضّي ـ لا نفس التوضّي ـ عليه ، وهكذا هيأة (التوضّي) ـ في قولك (هذا التوضّي جميل) ـ فإنها تفيد معنى فِعْلِ الوضوءِ من حيث هو فِعْلٌ أي بلحاظ أجزائه وشرائطه، فتقول أفعالُك في هذا التوضّي وأداؤك له وفِعْلُ المستحبّاتِ فيه جميل ، وهيأةُ (التوضّي) يربط بين الشخص المتوضّئ وبين أفعاله ، وقلنا (بين الشخص المتوضّئ) لأنّ التوضّي لا يقوم بنفسه . المهم هو أنّ هناك فرقاً بين قولك (البقرة) ـ مثلاً ـ وقولِك (آكِلَةٌ) و (مأكولة) فـ (البقرة) لا تتغيّر هيأتها البنيويّة من جملة إلى جملة ، وأمّا قولك (آكِلٌ) و (مأكول) فإنّ هذه الألفاظَ تـتغيّر بُنْيَتُها بحسب النسبة الموجودة في ذهن المتكلّم .

الوَضْع

لا شكّ في أنّ الواضع يلاحِظ ـ عند إرادة وضْعِ لفظٍ لمعنى ـ المعنى أوّلاً ثم يضع له لفظاً ، إذن فيكون المدلول الوضعي هو المدلول اللفظي ـ لا المدلول التصديقي ـ أي مع غضّ النظر عن حال المتكلّم .

لكن هل يحصل الوضْعُ بمجرّد أن يقول الواضعُ : (وضعتُ اللفظةَ الفلانيّة للمعنى الفلاني)؟ قطعاً لا ، وذلك لأنّ مِن علامات الوضع هو التبادر ، أي من علامات الكشف عن الوضع هو تبادر الناس من اللفظ إلى المعنى من دون قرائن خارجيّة ، ولا يحصل التبادر بمجرّد أن يقول الواضعُ وضعتُ اللفظةَ الفلانيّة للمعنى الفلاني ، وإنما يحتاج الوضعُ البدْويّ إلى حصول قرن شديد بين اللفظ والمعنى بحيث يتبادر المعنى بمجرّد سماع اللفظ . بل قد يحصل هذا القرن الشديد بين اللفظ ومعناه بكثرة الإستعمال ، لا بوضع شخص معيّن . المهم أن يحصل قرنٌ أكيد بين اللفظ والمعنى ، بذلك يحصل الوضعُ . إذن القرنُ الأكيد هو علّة الوضْعِ .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo