< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الأمر والنهي

البحث في الدليل الشرعي/ تحديد ضوابط عامة لدلالته وظهوره

ينقسم ما يدلّ على الطلب إلى قسمين :

الأوّل : ما يدلّ على الطلب بلا عناية ، والآخر : يدلّ على الطلب بعناية

أمّا الأوّل فله صيغتان : الأولى مادَّةُ الأمر ، والثانية هيأتُها .

أمّا مادّة الأمر ـ كقوله تعالى [ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى ] [1] ـ فهي تدلّ على الوجوب بوضوح ، وأمّا صيغة الأمر ـ كما في قوله عزوجل [ َأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ] [2] ـ فهي تفيد مطلقَ الطلبِ وذلك بدليل التبادر الكاشف عن الوضع ، ولشعور السامع أنّ هذا الإستعمال في مطلق الطلب هو استعمال حقيقي . وبتعبـير أصحّ : صيغةُ الأمْرِ تُفيد نِسْبَةً إرساليّة وبَعْثِيَّة للمأمور نحو الشيء المطلوب ، وذلك لما قلناه في هيأة الفعل ـ قبل عدّة صفحات ـ من أنّ صيغة الأمر تعني هيأة الفعل وهي حرف فهي بالتالي تفيد معنى حرفيّاً . المهم هو أنه مع عدم وجود قرائن صارفةٍ عن الطلب ، ينصرف الذهن إلى الطلب ، وهذا كاشف عن الوضع لخصوص الطلب ، ومع عدم وجود قرائن صارفة ينصرف الطلب ـ عرفاً ـ إلى خصوص الوجوب .

نعم هناك بعضُ السياقات تغيّر المعنى الموضوع له ـ وهو الطلب ـ إلى معاني أخرى غيرِ الطلب مثل [ وَجَعَلُوا للهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِـيلِهِ ، قُلْ تَمَتَّعُوا ، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)] [3] ، فاللهُ جلّ وعلا ـ في الحقيقة ـ لا يأمرُهم بالتمتّع المحرّم ، وإنما يتهكّمُهم بهذه الكلمة . فإذن بعضُ السياقات قد تَصرِفُ المعنى الحقيقي إلى معنى آخر كالتهكّم مثلاً ـ كما في قوله تعالى[ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ (49)] [4] ـ أو التحدّي ـ كما في قوله [ فأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ] [5] ـ أو التسخير ـ كما في قوله تعالى [ كونوا قردةً خاسئين ] [6] ـ أو إرادة التكوين ـ كما في [ كُنْ فَيَكون ] [7] ـ ونحو ذلك، فهذه السياقاتُ تَصْرِفُ صِيَغَ الأمْرِ إلى معاني اُخرى غيرِ الطلب ، كالتهديد والإنذار والإحتـقار والإهانة والتمنّي والتعجيز ...

المهمّ هو أنّ صيغة الأمرِ تدِلُّ ـ بحسب الوضع ـ على مطلق الطلب ، ومع عدم وجود قرينة صارفة عن معنى الوجوب ينصرف ذهن الناس تلقائيّاً إلى خصوص الوجوب ، لأنّ الوجوب هو أظهر مصاديق الطلب ، إذن لا يُخرَجُ من معنى الوجوب إلاّ بقرينةٍ واضحة صارفة عن إرادة الوجوب . فمثلاً ورد في رواية عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) قال قال رسول الله (ص) : ( أطعِموا حبالاكم اللِّبانَ ، فإنّ الصبي إذا غُذِّيَ في بطن اُمِّهِ باللِّبان اشتَدَّ عَقْلُه ، فإنْ يَكُ ذَكَراً كان شجاعاً ، وإنْ وُلِدَتْ اُنثَى عظمت عجيزتُها فتحظى عند زوجها ) ، وبسندٍ آخر عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) قال : ( أطعِمُوا حبالاكم ذَكَرَ اللِّبان ، فإنْ يكن في بطنها غلامٌ خَرَجَ زكي القلب عالماً شجاعاً ، وإن تكن جاريةً حَسُنَ خُلُقُها وخِلْقَتُها ، وعظمت عجيزتُها وحظت عند زوجها) ، وكلّ العلماء يعلمون أنّ إطعامَ اللبان للحُبْلَى غيرُ واجب وإلاّ لبان جدّاً في الروايات وعند كلّ المتشرّعة لشدّة غرابته ، إذن فالمراد هنا هو الإستحباب الإرشادي ، ممّا يعني أنه مع وجود قرينة صارفةٍ عن الوجوب لا تدلّ ح صيغةُ الأمر على الوجوب ، وإنما تدلّ على معنى يناسب السياقَ ، ولكن هذا الإستعمال في الإستحباب ليس استعمالاً مجازيّاً ، لأنّ الإستحباب هو من مصاديق الطلب .

وقد ظهر ممّا سبق أنّه إن استُعمِلَتْ صيغةُ الأمر للطلب ـ سواء كان الطلب بمعنى الوجوب أو الإستحباب أو الدعاء أو الترجّي ـ كان الإستعمال حقيقياً ، لا مجازي ، وأمّا إن استُعْمِلت لغير الطلب ، كما لو استُعملت للتهكّم أو التحدّي مثلاً حيث لا يُراد الطلب ـ كما في قوله تعالى [ إعْمَلُوا ما شِئْـتُم ] [8] وكما في قولك لشخصٍ (تجرّأ واضربْني) ـ فإنّ الناس يرون أنّ الإستعمالَ مجازيٌّ لا محالة ، لأنك استعملت اللفظةَ في غير المعنى الموضوع له .

فإن قلتَ : لماذا لم تُورِدِ احتمالَ أن يكون الواضعُ قد وضع صيغةَ الأمر للتهكّم والتحدّي ونحوِ ذلك ، فيكون هناك عدّةُ أوضاعٍ لصيغة الأمر ؟

قلتُ : أنت لو سمعتَ كلمةَ (تجرَّأْ) لوحدها من دون أيّ سياق ، كما لو سمعتَها مِن نائم ، ماذا تفهم منها ؟ ألا تفهم منها الطلبَ ؟! وإذا سمعتَ كلمة [ إعملوا ] من دون أيّ سياق ألا تفهمُ منها معنى الطلب وبالتالي الوجوب ؟! وكلّها هكذا ، ولذلك لا شكّ في أنّ صيغة الأمر تَدِلّ ـ بالعنوان الأوّلي ـ على خصوص الطلب ، وهذا يدلّ على كونها موضوعةً لخصوص الطلب ، كما يقول صاحبُ الكفاية ، نعم مع عدم وجود أيّ قرينة صارفة يفهم كلُّ الناسِ خصوصَ معنى الوجوب ، وذلك لأنّ المؤمن يفهم من الطلب معنى الطلب المحض الذي هو الطلب الطلب ... أي الغير مشوب بعدم الطلب ـ أي الترخيص ـ ، أمّا الإستحباب فهو مشوب بعدم الطلب ـ أي الترخيص ـ ، ولذلك يفهم المؤمن من صيغة الأمرِ الطلبَ المحضَ .. ولا يفهم الطلبَ المشوبَ بعدم الطلب ، ولذلك تجدُ العرفَ يرون عدمَ براءة الذمّة فيما لو لم يمتـثلوا طلَبَ المولى ، ويرَون أنفسَهم يستحقّون العقابَ ، أعاذنا الله تعالى .

 

وأمّا الثاني ممّا يدلّ على الطلب ولكنْ بعناية فهو الجملة الخبريّة ... إلى غدٍ إن شاء الله تعالى.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo