< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

[ عالَم البرزخ ]

الموضوع إستثناء : عالم البرزخ

أجمع علماؤنا على وجود عالَم البرزخ بما فيه من نعيم وجحيم ، واستدلّوا على ذلك بصريح الآيات المستـفيضة والروايات المتواترة فقالوا :

قال الله تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ (101)] [1] .

وقال تبارك وتعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154)] [2] .

أقول : هذه من الآيات الدالّة بوضوح على وجود برزخ يعيشون فيه .

وقال تبارك وتعالى [ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ ، وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ (171)] [3] .

أقول : وهذه أيضاً من الآيات الصريحة في وجود حياةٍ برزخيّة ، يُرزقون فيها العلم ، لأنه هو المناسب لأرواحهم . وفي الحقيقة أنّ الشهداء يستمتعون بنيل العلوم الربّانيّة والكثيرِ من الحقائق الوجوديّة واللقاء مع الأنبياء والأولياء ، وهم يستمتعون بذلك أكثر بألف ألف مرّة من متاع الطعام والشراب الذي يتوهّمُه بعضُ الناس . وكلّ من قَتَلَ نفسَه الخبـيثة في هذه الحياة الدنيا فهو في البرزخ عند الله شهيد لا محالة ، فرسول الله شهيد والإمام الخميني شهيد وأولياء الله شهداء والشيخ بهجت شهيد ، الشهيد هو الذي يقتل نفسه بمعنى يقطع علائق نفسه بهذه الحياة الدنيا وتكون نفسه معلّقة بعالم الله جلّ وعلا . المهم هو أنّ الشهيد ليس خصوص الذي قتل في ساحة المعركة ، لا ، وإنما الشهيد من قتل في سبيل الحقّ ، ولذلك استفاضت رواياتنا بأنّ مَن قُتِلَ دون ماله ورحله ونفسه وعياله ومظلمته وأشباه ذلك فهو شهيد ، فإذن لا خاصيّة لخصوص قتله بالرصاصة أو بالسيف ، فقد يُقتَلُ الملحِدُ والعاصي بالرصاصة أو بالسيف ، وإنما الخاصيّة هي بأنه قَتَلَ نفسه الخبـيثة قبل وصول الرصاصة إليه ، أي قطع علائقه بالتراب وبالدنيا ومضلاّتها ، ووصل إلى لقاء الله قبل وصول الرصاصة إليه ، ولذلك يتفاوت الشهداء عند ربّهم ، فليس كلّ شهيد هو كالإمام علي والإمام الحسين عليهما السلام ، فالتفاوت إنما كان بمقدار قطع علائقهم بالدنيا الدنيّة ، وإلاّ فكلّ القتلى في سبيل الله قتلوا في سبيل الله ، وليسوا بمرتبة واحدة ، فالتفاوت إذن يكون بمقدار وصولهم إلى الله وفنائهم فيه وفناء إرادتهم في إرادة الله سبحانه وتعالى .

المهم هو أنّ مَن قُتِلَ وهو يصلّي فهو حيّ عند ربه يُرزَقُ متاعاً في عالم البرزخ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ومَن قُتِلَ وهو صائم فهو كذلك لأنه قتل وهو في سبيل الله وفي طاعته ، ومن قتل في عمله الحلال فهو أيضاً كذلك ، وكلّ مَن قُتِلَ وهو في طاعة الله فهو حيّ عند ربّه يرزق أجمل الأرزاق .

وقال سبحانه وتعالى [ فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِياًّ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ (46)][4] . يقول هنا العلاّمةُ الطباطبائي إنّ المراد هنا هو عالم البرزخ ، ثم قال (إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بُكرة فيه ولا عشيّ فهو يوم غير اليوم) . ويمكن مراجعة تفسير الميزان في ج 1 ص 350 بحث تجرّد النفس . يعني بتعبير آخر : يوم القيامة لا يرون فيها شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ، يقول الله تعالى [ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ، لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً (13)] [5] أي ليس فيها بكرة وعشيّاً ، لأنه لا يوجد شمس كي يقال الآن جاء الصباح والآن جاء العشيّ .

أقول : والآيةُ صريحة في العطف الزماني ، لاحِظْ قولَه تعالى [ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ] أي هذا العذاب هو في البرزخ ، أمّا يومَ القيامة فسوف يُقال للملائكة [ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ]

فإن قلتَ : قال اللهُ تبارك وتعالى [ وَنُـفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا ، مَنْ بَعَثَـنَا مِن مَّرْقَدِنَا ؟! هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ (52)] [6] فلو كانوا مسبوقين بحياةٍ برزخيّة لماذا يتفاجؤون ؟!

الجواب : الإنسان في البرزخ كالنائم ، لا يشعر بالزمان ، فإنّ تعريف الزمان هو مقدار حركة المتحرّك ، وقال العلماء بأنّ المتحرّك هو المادّي ، أمّا الميّت فهو يعيش حياةً روحانيّة، أي لا يشعر بالزمان ، فهو من هذه الناحية كالنائم تماماً ، النائم لو نام ساعة أو نام ثلاثمئة سنة لا يشعر بمقدار الزمان ، لأنّ روحه التي تتنعّم في منامها أو في موتها لا تشعر بالزمان ، ولذلك أهل الكهف ـ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمئةٍ سنينَ وازدادوا تسعاً باعتبار السنة القمريّة ـ لم يشعروا ولم يعرفوا كم لبثوا حتى قال قائل منهم [ لبثـنا يوماً أو بعض يوم ] ، قال الله تعالى [ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْـتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)] [7] ، إذن في عالم البرزخ يشعرون بالمدّة بأقلّ قدر ممكن ، يعني لا يستطيعون على قياس الزمان . بتعبير آخر : هذا الإنسان سواء كان نائماً أو في البرزخ وسواءً كان يتنعّم أو يتعذّب هو لا يشعر بالزمان أصلاً ، كما رأيت في الآيات الكريمة . والسرُّ في هذا هو أنّ كلّ ما هو روحاني ـ وهم الملائكة الروحانيّون وأرواح الأموات ـ لا حركة عنده ، ولا شمس ولا قمر في عالمهم ولا ليل ولا نهار ، حركتهم بالطفرة أي بالإنتقال من صورة إلى صورة ، لا من حالة إلى حالة كالإنسان الذي يمشي من مكان إلى مكان ويكون بذلك بحاجة إلى وقت ، فهو في منامه وفي حياته البرزخيّة لا يتحرّك مثل الماديّين ، وإنما يكون هنا تارةً فينظر مباشرةً إلى أمريكا ، وذلك لأنّ سعته الوجوديّة ـ وهو روح ـ تكون أوسع من سعة نظره وفكره في الدنيا ، بتعبير آخر : الناس في الدنيا [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)] [8] ، أمّا في عالم الأرواح فهو ينـتـقل من صورة إلى صورة ومن عالم إلى عالم في آن ، وأنت تعلم أنّ الآن هو طرف الزمان ، وليس له مدّة ، هو ينـتقل من عالم إلى عالم في آنٍ واحد ، أي بأقلّ من ثانية ، فهو ينطق بلغة إلقاء المعاني ، لا بلغة إلقاء الألفاظ التي تحتاج إلى مدّة زمنيّة ، زمانهم الدهر ، الذي هو فوق الزمان ، لذلك إذا ركع الملك الروحاني فلا مانع عنده من الركوع مئة سنة ، لأنه لا يتعب ـ لكونه روحانيّاً ـ ولا ينعس ولا ينام ، ولا يملّ ، ولا يشعر بالملل مثلَ الإنسان المادّي ... وفي الحقيقة أنّ الميّت يدخل في باطن هذا العالم ، حيث يشرف على عالم الدنيا ، من عالم الأرواح الباطني ، الذي هو مشرف على عالمنا هذا .

بتعبير آخر : عالمُ الروح مغايرٌ تماماً لعالم المادّة ، فالروح تُخلق بالأمر ، أي بشكل دفعي، لا بالخلق التدريجي ، يقول الله تعالى [ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ] فالأمرُ إذن غير الخلق ، الأمرُ دفعيٌّ ، والخلقُ تدريجيّ ، في عالم الأرواح كلّ شيء دفعي ، وفي عالم الخلق كلّ شيء تدريجي خاضع لقوانين عالم الخلق . قال الله تعالى [ يسألونك عن الرُّوحِ ، قُلِ الروحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي ] [9] ، فأفاد جلّ وعلا أن الروح من سنخ أمره ، ثم عَرَّف الأمرَ في قوله تعالى [ إنما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ] [10] ، إذن عالَمُ الأمْرِ هو عالم كن فيكون .

فإن قلتَ : ما معنى قوله تعالى [ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّـنَا اثْـنَـتَيْنِ وَأَحْيَـيْتَـنَا اثْـنَـتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)] [11] ؟

أقول : في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ ذلك في الرجعة ـ وليس في البرزخ ـ فإنّ المعنى : قالوا ربّنا أمتّـنا اثـنـتين ، يعني الإماتة الأولى المتعارفة بـينـنا ، ثم أحيا اللهُ مَن مُحِضَ الإيمانَ محضاً ومَن مُحِضَ الكفرَ مَحضاً في الرجعة ، فيكلّفهم ، فيعصون الله مرّةً اُخرى ، ممّا يعني أنهم مصرّون على المعصية ، فينـتـقم الله تعالى منهم بأوليائه المؤمنين ، ويجعل للمؤمنين الكرّةَ على الكافرين ، فلا يـبقَى منهم أحدٌ إلا وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب ، وتصفو الأرض من الطغاة ، ويكون الدين لله تعالى. والرجعة إنّما هي لممحَّضي الإيمان من أهل الإسلام ، وممحّضي النفاق منهم ، قال الشيخ المفيد (دون من سلف من الأمم الخالية) ، ولأنهم رجعوا إلى الدنيا مكلّفين هم يندمون في الآخرة جدّاً ، وهذا أيضاً مقالة الشيخ المفيد في تفسيره .

ومن الآيات الدالّة على البرزخ قوله تعالى [ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِـيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)] [12] ، أي كيف تكفرون بالله ، وكنتم ـ قبل ولوجِ الروحِ ـ أمواتاً ، ثم أولج الله فيكم الروح ، ثم أماتكم الإماتة المعروفة ، ثم يحيـيكم في البرزخ ، ثم إليه ترجعون .

ومن الآيات الدالّة على البرزخ قوله تعالى [ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ (20) ... إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ ، قَالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ (27)] [13] ، ومن المعلوم عند كلّ العلماء بأنّ المراد هنا هو الجنة في عالم البرزخ ، وذلك لعدم حصول النفخ في الصور بعدُ .

وبتعبير آخر : حبيب بن مري هذا بعدما قتله قومُه قال وقومُه أحياء ـ أي قبل قيام الساعة ، أي هو في عالم البرزخ حتماً ـ قال [ يا ليت قومي يعلمون ] ، فهو يتمنّى لو أنّ قومه الذين قتلوه يعلمون بما أكرمه به ربُّه ، وبتعبير آخر : قال اللهُ تعالى [ قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ ] أي فوراً وبلا فصل زماني وليس بعد قيام الساعة ، فحين دخل الجنّة ورأى فيها ما رأى من نعيم فوق الخيال [ قَالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي ـ أي الذين لا يزالون أحياء في عالم الدنيا ـ يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ ـ أي في جنّة البرزخ ] ، فهو إذن دخل جنّةَ البرزخ كما يقول العلاّمة الطباطبائي وغيرُه من العلماء ، ثم قال [ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ ] . أمّا لو فسّرتَ قوله تعالى[ قيل ادخلِ الجنّة ] بقولك ( ويوم القيامة سيقال له ادخل الجنّة ) فهذا التكلّف لا دليل عليه ومخالف لصريح الآية ، وخاصّةً وأنّ الله أرسل لنا هذا القرآن الكريم ليخرجنا من الظلمات إلى النور ، فهو نور لنا وهدى وفرقان وتبـيان لكلّ شيء ، فلا يمكن أن يقول الله لنا بشكل واضح [ قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ ، قَالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ ] والمقصود سيقال له ادخل الجنة ، مع أنه واضح أنه قد دخل الجنة ثم قال يا ليت قومي يعلمون ويرون بما صرت فيه من نعيم . فإذا كان هناك ـ في البرزخ ـ حياةٌ ونعيم ، فالظاهر أنه يوجد أيضاً نار وعذاب كما في الآية التالية .

ومن الآيات الدالّة على البرزخ قولُه تعالى [ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا ، فَأُدْخِلُوا نَاراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَاراً (25)] [14] ، فالمراد ـ بصريح الآية ـ هو أنهم اُدخلوا نارَ البرزخ ، وليس سيدخلون ناراً ، وذلك لعدم قيام الساعة حتى الآن ولعدم جواز التفسير بخلاف الظاهر إلاّ إذا كان التفسير بالظاهر ممتـنعاً عقلاً مثل [ يد الله فوق أيديهم ] . أمّا كيفيّة النار وكيفيّة سائر العذابات من ضغطة القبر وسؤال منكر ونكير وغير ذلك ممّا ورد فهذا أمْرٌ نتركه للمعصومين (عليهم السلام)، فَهُمْ أعلمُ به مِـنّا .

وأمّا الروايات فهي فوق حدّ التواتر ، ويكفي أن نقول بأنّ الشيخ الكليني أورد في باب ما ينطق به موضع القبر وما بعده من أبواب 46 حديثاً كلّها تتكلّم عن عالم البرزخ ونعيمه وجحيمه وأحواله ، ويكفي أن نذكر روايةً واحدةً فقط فنقول :

روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( إن للقبر كلاماً في كل يوم يقول : أنا بـيت الغربة ، أنا بـيت الوحشة ، أنا بـيت الدود ، أنا القبر ، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار )[15] .

ولك أن تستدلّ على البرزخ بما رآه رسول الله (ص) في المعراج مِن أنه رأى هذه معلّقةً بشعرها وتلك تُشوَى بالشكل الكذائي وذاك يتعذّب بالشكل الفلاني ، مع عدم قيام الساعة بعدُ ، فهذا كاشف عن وجود عالم باطني روحاني مثاليّ ـ أي يكون للأموات فيه أشكال ، وليس لهم فيه بدنٌ مادّي ـ يتنعّم فيه المؤمنون ويتعذّب فيه الفاسقون .

ولك أن تستدلّ على عالم البرزخ بما ورد من أنّ سلمان الفارسي المحمّدي قدس سره كلّمَ قبل موته الموتى ، وأن الأموات يتزاورون ...

فإذن كلّ الآيات والروايات مسوقةٌ في مساق واحد ، وهي أنّ الأموات يفرَّقون بعد موتهم إلى العوالم التي تناسبهم ، ذاك إلى الجنّة وذاك إلى النار .

إشكال : ما جوابكم على مَن مات منذ ستة آلاف سنة مثلاً ولا يزال يتعذّب من يوم موته إلى قيام الساعة ، ومَن مات قبل يوم القيامة بيوم واحد ؟ أليس هذا مخالفاً لعدل الله سبحانه وتعالى ؟!

الجواب : الله يعرف كيف يعذّب وكم يعذّب ، فيمكن لله تعالى أن ينوّمه بقيّة المدّة .

المهم هو أنّ روايات جنّة البرزخ وعذاب البرزخ فوق حدّ التواتر ، ولا يمكن إنكارها ، وهذا يعني شدّة أهميّة هذا الأمر ، ولعلّه ليهتمّ الإنسانُ بأعماله أكثر ، وهذه من جملة المخوفات الإلهيّة ، إضافةً إلى المخوفات الأخرويّة ، فالظاهر أنّ الحكمة من كثرة روايات البرزخ هو خلق اهتمام أكثر عند الناس بدينهم وبرزخهم وآخرتهم . على أنّ الأكثر الأعمّ من الروايات هي صادرةٌ من المعصومين بدليل ثبوت قاعدة اللطف الربّانيّة التي أجمع عليها كلّ علماء الإسلام ، فقالوا بأنّ من جملة الأدلّة على اللطف الربّاني هو أنه من صفات الباري سبحانه ، فيجب على الله بمقتضى لطفه بعباده أن يبعث لهم رسلاً وأوصياء وهداةَ ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، وإلاّ لقال الناس لله يوم القيامة [ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) ] [16] ، ومن اللطف الربّاني أن لا يتركنا الله تعالى بين روايات نصفها كاذبة خاطئة ، هذا مخالف للطف قطعاً ، وهذا مخالف لبعث الأنبياء والأوصياء ، تصوّر أنّ السابقين كانوا بين أيدي الأنبياء ، ونحن اليوم لا نبيّ ولا وصيّ ظاهر ، ولا روايات أكثرها الأعمّ صادر وصحيح ؟! لماذا ؟! ما الوجه في هذا الإهمال لهذا الجيل من الناس الذين وُلِدوا في عصر الغيـبة الكبرى ؟! ولِمَ هذا الإهمال لهم ؟! لذلك نقول : قطعاً يجب أن يكون الأعمّ الأغلب من الروايات صادراً من ساحة العصمة والطهارة ، وكأنهم (عليهم السلام) معنا ويكلّمونا ويجيـبونا ، وهذا هو مقتضى اللطف الذي عَمِلَه الله تعالى مع عباده السابقين .

وأخيراً يجب القول بأنّ الله تعالى يحبّ أن يربّي عباده ، فيرشدهم بكافّة الأساليب ويبيّن لهم حقائق الوجود ، ويقول لهم يوجد عذاب بعد الموت ، وعند البعث والنشر والحشر، وبعد يوم القيامة يوجد جنّة ونار ... هكذا يربّـينا الله ، بين الخوف والرجاء ، بين الخوف من الله ومحبّة الله جلّ وعلا .

ومن اللازم القول بأنه يجب على العلماء أن يخلقوا عند الناس محبّة الله ويؤكّدوا على أنه هو الخير والحبّ والحنان والجمال والكمال والرازق والمعطي ، ولا يركّزوا فقط على الخوف من الله فيكرهونه ، والحمد لله ربّ العالمين .

 


[15] الكافي : ج3، باب ما ينطق به موضع القبر، ح2، ص242 . وباعتبار مجموع الأحاديث يكون الرقم 4732 : قال : عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن الحسين بن علي عن غالب بن عثمان عن بشير الدهان ...

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo