< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : النـَّفْسِيّة والعَينيّة والتَّعْيِـينيّة ووقوعُ الأمْرِ عَقيبَ الحظر

الأمر الثاني : النـَّفْسِيّة والعَينيّة والتَّعْيِـينيّة

هل إطلاق صيغة الأمر يـقتـضي النفسيّة والعينيّة والتعيـينيّة أم لا ؟

لا شكّ في أنّ عدم تقيّد صيغة الأمر بكونه مقدّمةً لغيره يقتضي الإطلاق ، أي أنّ الأصل يقتضي أنّ الأمر هو نفسيّ ، لا غيري ، لأنّ كونَه غيرياً ، فيه تقيّدٌ زائد يُنفَى بالإطلاق المـقامي وبالأصل العقلي والنقلي . فلو شككتَ في كون شيء نفسياً أو غيرياً لأجل أمْرٍ فلاني ، فالتقيّدُ بكونه لأجل أمر آخر فلاني هو قيد زائد . وبتوضيح أكثر : لو حصل عندك شكّ بين كون الحكم هكذا (إذا وجب شيء فتوضّأ) وبين كونه (توضّأ) ـ أي مطلقاً سواء وجب شيء أو لا ـ ماذا كنتَ فاعلاً ؟ ألا ترى نفسَك أنك تنفي القيدَ الزائدَ بالإطلاق المقامي وبأصالة البراءة وقاعدتها ؟ ليثبت بالتالي عدمُ التـقيّد ؟ مثالُ ذلك: لو قال لك المولى (توضّأ) ولم يقيّد هذا الأمرَ بوجوب الصلاة ـ أي لم يقل [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..][1] ـ فماذا تفهمُ منها ؟ ألا تفهم منها أنّ الوضوء واجب نفسي ؟ فأنت تلقائيّاً سوف تقول : لو كان الأمْرُ غَيريّاً لَقيَّدَ الوضوءَ بوجوب الصلاة ، أي لَذَكَرَ غايةَ الوضوءِ ولَرَبَطَ المقدّمةَ بغايتها ، فحينما لم يقيّدِ الوضوءَ بالصلاةِ صار الوضوءُ واجباً مطلقاً ، أي سواء أردنا أن نصلّي أم لا.

وكذا الأمر فيما لو شككنا في كون المأمور به عينيّاً على الشخص ـ كالصلاة والصيام ـ أو كفائيّاً ـ كوجوب دفْنِ الميّت والصلاة عليه ـ فإنّ العقلاء يرَون أنّ الأصل في الطلب أن يكون عينيّاً ، إذ لو كان كفائياً لَذَكَرَه المتكلّمُ الحكيم ولقال (أنت أو غيرك) ، فعدمُ ذِكْرِ كفايةِ الغَيرِ كافٍ في إثبات الوجوب العيني عليك بالإطلاق المـقامي ، ولك أن تستدلّ بالإطلاق الأحوالي أيضاً وذلك بأن تقول : يجب عليك الشيءُ الفلاني على أيّ حال ، سواءً فَعَلَ الفِعْلَ غيرُك أيضاً أم لا . على كلٍّ ، لو تردّدت بين كون الأمر (حِجَّ) أو (حِجَّ أنت أو غيرُك ) ـ ولو لاحتمالنا أن يكون الهدف من نحو الكفاية هو أن لا تخلو الكعبة المكرّمة من طائفِين ـ فقد قيل : عدمُ التقيـيد يفيد العينيّة . أقول : هذا التوجّه وإن كان لا بأس به ، وهو محلّ بحثـنا ، لكن لعلّ الأفضل هو التوجّه نحو إجراء أصالة الإشتغال العقليّة ، فإنها أوضح ، بمعنى أنك إنِ احتملت كفايةَ أن يقوم غيرُك بالحجّ نِـيابةً عنك ، فإنّ قيام غيرِك بهذا الحجّ بدلاً عنك بما أنه غير معلوم الكفاية ، فلا شكّ في جريان أصالة الإشتغال حينـئذ ، لأنه شكّ في سقوط المكلّف به ، لكنْ إجراؤنا لأصالة الإشتغال يسحب البحث من هنا إلى مبحث ( الأصول العمليّة ) .

وكذا الأمر تماماً في التردّد بين التعيـينيّة والتخيـيريّة ، فصيغةُ الأمر (حِجَّ) لا تفيد أكثر من وجوب الحجّ ، ولا تفيد التعيـينيّة ، لكن من خلال عدم ذكْرِ بدائل أخرى في روايات صحيحة يَفهم الإنسانُ من عدم ذِكْرِ البديلِ وجوبَ الحجّ على أيّ حال ، أي سواء صام أو أطعم أو لا . ويسمَّى هذا الإطلاقُ الإطلاقُ الأحوالي .

دليل آخر : لو كان له عِدْلٌ لقال لنا المتكلّمُ الحكيمُ : حِجَّ أو صُمْ أو أَطْعِمْ ، لكنه قال فقط : (حِجَّ) ، وظاهرُ عدمِ ذِكْرِ البدائلِ التعيـينُ ، أي حِجَّ سواءً أطعمت أو صُمْتَ أم لا . ويسمَّى هذا الإطلاقُ الإطلاقُ المقامي .

ولك أن تستدلّ بدليل ثالث وهو : لو قال لك المولى مثلاً ( اَعتِقْ ) واحتملتَ كفايةَ الإطعامِ بدلَ الإعتاق ، فح إن أطعمت فسوف تشكّ ـ بحسب الفرض ـ في كفاية ذلك عن العتق ، ولذلك تجري أصالةُ الإشتغال العقليّة لا محالة ، لأنه شكّ في سقوط المكلّف به . وهذا الدليل هو دليل أصالة الإشتغال . لكن هذا الدليل الثالث ـ كما قلنا قبل قليل ـ خارج عن بحثـنا الذي هو معرفة مفاد صيغة الأمر .

على كلّ ، قال العلماء بجريان الإطلاق اللفظي ـ أي إطلاق صيغة الأمر ـ أو الإطلاق الأحوالي أو الإطلاق المقامي أو أصالة الإشتغال ، لِدَفْعِ احتمالِ الغَيريّة أو الكفائيّة أو التخيـيرية .

الأمر الثالث : وقوعُ الأمْرِ عَقيبَ الحظر

قال الله تعالى [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ] [2] ، وقال عزوجل [ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْـتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِـيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)] [3] ، ومعنى الآية الأولى ( قبل الإحلال لا يجوز الإصطياد ، نعم إذا حللتم فاصطادوا )، ومعنى الآية الثانية (في الأشهر الحرم لا تقاتلوا المشركين ولا تقتلوهم ، نعم إذا انسلخ الأشهرُ الحرم فاقتلوهم ...) ، فهنا لاحظتَ ورودَ بعضِ الأوامر في سياق الحظر ، والسؤالُ هو : هل وقوع صيغة الأمر بعد الحظر يفيد الطلب أو الإباحة أو الإجمال ؟

أستبعد وجود جواب على هذا السؤال ، لأنّ المسألة استظهاريّةٌ بحتة ، أي أنّ المسألة صغرويّة ، فعلينا أن ننظر إلى كلّ مورد مورد لنستظهر المعنى المراد ، فمثلاً في آية [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ] معناها ـ واللهُ العالِمُ ـ (وإذا حللتم فاصطادوا إن شئتم ، فلا مانع من ذلك)بمعنى أنها تفيد ـ في هكذا سياق ـ الإباحةَ .

أمّا في الآية الثانية فالظاهر أنها تفيد الوجوبَ ، ومِثْلُها قولُ الطبـيبِ للأمّ : "لا تُعْطي ولدَك الدواءَ الفلاني إذا كان مصاباً بالضغط ، فإذا لم يكن مصاباً بالضغط فأعطيه إياه" ، فإنّ الأم تستـفيد هنا معنى الوجوب .

وأمّا قول الطبـيب للمصاب بقرحة المعدة مثلاً : (لا تشرب الشاي والقهوةَ على الريق ، فإذا أكلت فاشربهما) فهنا قولُه (فاشربهما) لا يعني الوجوب ، وإنما هو مجمل ، فقد يريد الطبـيب من كلامه هذا إفادةَ معنى يجوز شربهما ، وقد يريد إفادة معنى يستحبّ شربُهما للتـنشيط مثلاً .

إذن لا يمكن إعطاء قاعدة عامّة ، ولذلك نقول بأنّ صيغة الأمر الواردة عقيب الحظر أو عقيب توهّم الحظر لا تفيد الجواز دائماً ، وإنما يختلف المعنى بحسب اختلاف مادّة الحكم .

الأمر الرابع [ هل تـفيد صيغة الأمر كـفايةَ الإمتـثالِ مرّةً أو يجب التكرار ؟ ]

لا شكّ ولا خلاف في أنّ صيغة الأمر لا تفيد المرّة ولا التكرار ، وإنما هيأة ( إئْتِ ) بالصلاة مثلاً أو (إفعل) تفيد وجوب إيجاد الطبيعة ، والطبيعةُ توجَدُ بالفرد الأوّل ، فإذا أمرنا المولى بالصلاة مثلاً فإنّ العقل يكتفي بالصلاة الأولى ، وذلك لأنّ الطبـيعة المأمور بها توجد بالفرد الأوّل .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo