< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مسألة الضدّ والترتّب

قلنا أمس إنه لا شكّ في وجود أمْرٍ بالعبادات بنحو الإطلاق ـ أي حتى في حال مزاحمتها بالأهمّ ـ فالأمرُ الجعْلي بالصلاة ونحوِها غيرُ مقيّد شرعاً بعدم الأمر بالأهمّ ـ وهنا بدأنا بالتعرّض لـ نظريّة الترتّب [1] ـ وذلك للإطلاق اللفظي في الأمر بالصلاة وغيرها، نحو ( اَقيمُوا الصلاةَ ) و (آتُوا الزكاةَ ) و (للهِ على الناسِ حِجُّ البـيتِ مَنِ استطاعَ إليه سبـيلاً ) و ( كُتِبَ عليكم الصيامُ) فهي عبادات محبوبةٌ ذاتاً ومأمور بها مطلقاً ، لكنها في مقام الإمتـثال من الطبـيعي أن يقدّم الواجبُ الأهمّ ـ كالإنقاذ ـ على المهم ، أي أنّ الأمر التـنجيزي بالمهم هو مقيّد عقلاً ـ لا شرعاً ـ بعدم إرادة الإتيان بالأهمّ ، بمعنى أنه إن لم يُرِدِ الإتيانَ بالأهمّ فإنّ العقل ح يَحكُمُ بلزوم التـنزّل إلى المطلوب الذاتي الثاني ـ وهو المهمّ ـ وإلاّ لَوَقَعَ المكلّفُ في مبغوضَين اثـنَين .

لا ، بل تقديمُ الأهمّ هذا لا يقتضي أن يَرفع الحكمَ الفعليّ عن المهمّ ، وإنما يقتضي أن يَرفع التـنجيز لا أكثر ، ولا داعي لأنْ يَرْفَعَ الفعليّةَ أيضاً ، بل لا وجه عقليّ لِرَفْعِها .

وعليه فلو بَنَى على معصيةِ الأمرِ بالأهمّ ولم يُرِدْ تـنفيذَه ، فلا وجه عقلي ولا عقلائي لأنْ يَترُكَ الصلاةَ أيضاً ، وإنما تفعل فعليّةُ الأمر بالصلاة فِعْلَها ، فـتُرجِـعُ التـنجيزَ للأمر بالصلاة ، وذلك لعدم وجود مانع عقلي من التـنجيز حينـئذ ، ولذلك لو تَرَك الأهمَّ ـ كالإنـقاذ ـ وصلّى ، فلا شكّ في صحّة صلاته تمسّكاً بإطلاق ( اَقيموا الصلاةَ ) لإثبات بقاء فعليّة الحكم بوجوب الصلاة بل تمسّكاً بتـنجيز وجوب الصلاة أيضاً ـ رغم استحقاق العقاب على ترك الأهمّ ـ ، فأنت تعلم أنه إذا كانت مقدّمات الوجوب متحقّقة في الصلاة ـ وهي البلوغ والعقل والزوال ـ فلا شكّ ح في وجوبها الفعلي ، وإنما الذي يرتـفع ـ بسبب الأهمّ ـ هو خصوصُ تـنجيز حكم الصلاة ، وهذا ما يسمّونه بـ (نـظـريّـة الـتـرتُّـب) أي يترتّب على عدم إرادة الإنقاذِ رجوعُ التـنجيز إلى الأمر بالصلاة ، أي يحكم العقل بأنه إن لم تفعلِ الأهمّ فافعلِ المهمَّ ولا تتركْه ، بل لا وجه لفساد الصلاة عند التصميم على ترك الأهمّ .

فإن قلتَ : ما الوجه في بقاء فعليّة وجوب الصلاة وتنجيزه مع وجوب الإنقاذ ؟! أليس بقاء فعليّة الأمر بالصلاة وبقاء تـنجيزه ـ في حال تـنجّز الإنقاذ ـ هما أمران لغويّان محضاً بل يوقعنا في التعارض ؟! أو أنه بمجرّد البناء على عدم الإنـقاذ يرتـفع الوجوبُ التـنجيزي للإنـقاذ ؟ وعلى فرض ارتـفاع التـنجيز عن وجوب الإنقاذ بسبب العصيان ، كيف يمكن اجتماع حكمين فعليـين متزاحمين في وقت واحد ؟!

قلتُ : إعلمْ أنه إذا بَنَى المكلّفُ على عدم الإنقاذ ، فلا معنى عقلاً لبقاء تـنجيز الحكم بالإنقاذ ، لأنّ التـنجيز هو حكم عقليّ محض ـ وليس حكماً شرعياً ـ وبقاؤه العقلي لغْوٌ محض ، بمعنى أنه لا يـبقى الإنقاذ مانعاً عقلاً ، فيرجع تـنجيزُ وجوب الصلاة عقلاً ، بلا مانع . أمّا سقوط الوجوب الفعلي للصلاة ـ بعد تحقّقه بوجود العقل والبلوغ والزوال ، أي بعد تحقّق العلّة التامّة للوجوب الفعلي للصلاة ـ فلا وجه له عقليّ . أمّا وجوبُ الإنقاذ فلا شكّ في بقاء فعليّته ، لأنه أمْرٌ عقلي تكويني محض ، وذلك لبقاء علّة فعليّته ، ولا داعي لِرَفْعِ فعليّتِـه ، بل لا وجه لذلك . فيصير وجوبُ الإنقاذ فِعليّاً لا منجّزاً ـ بسبب البناء الأكيد على المعصية ـ ويصير وجوب الصلاة فعليّاً ومنجّزاً ، لعدم وجود مانع من رجوع تـنجيزه ، أي بعكس ما لو أراد الإنقاذَ ، فإنّ وجوب الإنقاذ يكون ح فعلياً ومنجّزاً ، ووجوب الصلاة يكون فعليّاً ، لكنْ غيرَ منجّز . وبتعبـير آخر : حين يصمِّم المكلّفُ على معصية الأمر بالإنقاذ يقول له العقلاء : إذن إنـتقل إلى المرحلة الثانية ـ وهذا معنى سقوط تـنجيز الأمر بالإنقاذ ـ وهي وجوب امتـثال الأمر بالصلاة ـ وهو معنى رجوع التـنجيز إلى وجوب الصلاة ـ ، ولعلّك تعلم أنه لا مزاحمة بين الوجوبين الفعليـين للإنقاذ وللصلاة ، وإنما المزاحمة بين حكمين منجّزين ، كما لا تعارض ـ أي في عالم الجعل ـ بين وجوب الإنقاذ ووجوب الصلاة . وأمّا اجتماعُ حكمَين فعليـَّين متخالفَين في وقت واحد ـ كالإنقاذ والصلاة ـ فأمْرٌ لا مشكلة فيه لا على مستوى الجعل ولا على مستوى الإمتثال .

وبتعبـيرٍ ثالث : في حال التصميم على عصيان الأمر بالأهم لا يمكن أن يحرّم عليك الباري تعالى الصلاة أيضاً بسبب أنك تركت الأهمّ ، وإلاّ تكون قد فعلت فعلين مبغوضين ، وهذا كما لو كان زيد المؤمن جداً يغرق وعمروٌ الأقلّ أهميّة عند الله من زيد يَغرق أيضاً ، فإذا صمّمتَ أن لا تـنقذ زيداً الأهمّ لِثارٍ بـينَك وبـينَه ـ مثلاً ـ فلا يمكن للباري الحكيم أن يقول لك إذن يحرم عليك إنقاذُ عمرو !! أو لا أمر بإنقاذ عَمرو المؤمن !! ولذلك يقول العقلاء بأنّ الشارع المقدّس يرخّص لك ـ عقلاً ـ في تحقيق طبـيعيّ الصلاة بالصلاة المزاحَمة بالأهمّ ـ وإلاّ وقعتَ في مبغوضَين ـ كما يرخّص لك أن تصلّي بالثوب الأبـيض أو بالأسود أو أن تصلّي في هذا المكان المباح أو في المكان المباح الآخر ...

ومن هنا تعرف أنّ مسألة الترتّب مغايرةٌ لمسألة اجتماع الأمر والنهي تماماً ، فمسألة الإجتماع ناظرة إلى إمكان اجتماع الأمر والنهي على متعلّقٍ واحد بعرْض واحد ، كالصلاة في المغصوب ، وأمّا في مسالة الترتّب فالأوامر طوليّة ، لا عرْضيّة .

ومِن طرقِ تصحيح الصلاة هو ما تبنّاه صاحبُ الكفاية من أنه حتى لو قلنا بعدم وجود أمْرٍ في الصلاة وبارتـفاع فعليّته فلا يـبعد تصحيحُ الصلاة بوجود ملاك فيها ، أي تصحَّح الصلاةُ لمحبوبـيّتها عند الله سبحانه وتعالى ، فهي إذن مطلوبةٌ رُوحاً ، أي أنه أتى بتمام الغرض المطلوب ، وأيضاً يمكن التقرّب بها إلى المولى جلّ وعلا لمحبوبـيّتها[2] .

ومن الطرق لتصحيح الصلاة المذكورة ما ذكره صاحبُ الكفاية أيضاً من أنه بمقتضى تعلّق الأوامر بالطبائع ـ أي الملغاة عنها كلّ الخصوصيّات والحالات كما في حال وجود أهمّ ـ لا بالأفراد نقول : يصحّ الأمر بالجامع بين الأفراد المزاحَمة والأفراد غير المزاحَمة، وعليه فيمكن بمقتضى وجود أمر بهذا الجامع أن نأتي بالطبـيعة ضمن هذا الفرد المزاحَم بالأهمّ ، ولا فرق في نفس الصلاة بين هذا الفرد المزاحَم بالأهمّ وبين غيره من الأفراد غير المزاحَمة ، فنصحّح الصلاةَ من هذا الطريق أيضاً [3] .

وهكذا رأيتَ أنه يوجد عدّةُ طرق لتصحيح الصلاة المذكورة .

وممّا ذكرنا تعرف أنه لا مجال لإيراد بحث (إقتضاء حرمة العبادة لبطلانها) ، لأنه لا تحرم الصلاةُ في حالة المزاحمة .

ثمرة القول بالترتّب هو وجوب فِعْلِ الأهمّ أوّلاً ، فإذا تركه عَصَى واستحقّ العقابَ عليه ، وإذا ترك المهمّ أيضاً عصى واستحقّ العقاب على تركه أيضاً ، وإذا ترك الأقلّ أهميّة فكذلك عصى واستحقّ العقاب . وبالتالي لو تَرَكَ كلّ الواجبات ـ الأهمّ والمهمّ والأقلّ أهميّةً ـ لاستحقّ ثلاثَ عقابات على تركها ، وهذا أمْرٌ واضحٌ عقلاً وعقلائيّاً .

 


[1] ذَكَرَ ذلك في منـتهَى الدراية ج2 ص557، تصدّى المحقّق الثاني وكاشف الغطاء والميرزا الكبـير السيد الشيرازي ـ اُستاذ صاحب الكفاية ـ وتلميذاه السيد محمد الإصفهاني والميرزا النائيني وغيرُهم لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب، خلافاً لجماعة آخرين كالشيخ الأنصاري وجمع ممّن تأخّر عنهم ..
[2] وذَكَرَه نفسُ صاحب الكفاية في متن منتهى الدراية ج2، ص574، ذهب صاحب الكفاية إلى صحّة الضدّ العبادي حتى على مذهب القدماء القائلين بتوقّف صحّة العبادة على الأمر، بناءً منهم على انحصار المقرّب فيه وعدمِ كفاية الملاك والمحبوبـيّة في قصد التقرّب . ذكر ذلك ذكر ذلك صاحب منـتهى الدراية ج2، ص558.
[3] ومن هنا تلاحظ أنّ مشكلتـنا مع صاحب الكفاية ليس في تصحيح الصلاة، فإنها عنده صحيحةٌ بأكثر من دليل، وإنما في عدم إيمانه بوجود أمْرٍ بالصلاة في حال مزاحمتها بالأهمّ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo