< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/12/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مفهوم الجملة الغائيّة

مفهوم الجملة الغائيّة

قلنا أمس بأنّ المراد منه ما يستفاد من الجملة الغائيّة من مفهوم سلبـي بشرط توقّف طبـيعي الحكم على علّة منحصرة ـ وهي تحقّق الغاية ـ وذلك كما قلنا في الجملة الشرطيّة تماماً ، والمفهومُ هو أنه (إذا تحقّقت الغايةُ فإنّ طبـيعي الحكم يتغيّر) ، وما لم يثبت توقّفُ طبـيعي الحكم على بلوغ الغاية فلا مفهوم ، لما ذكرناه في الجملة الوصفيّة تماماً .

وسترَى أنّ الجملة الغائيّة قد تفيد توقّفَ طبـيعي الحكم على العِلّة المنحصرة ، وقد لا تفيد المفهوم ، ولذلك سنقدّم عدّةَ أمثلة على موضوعنا ، وسنصنّفُها ضِمن صنفين لينظرَ القارئُ متى يُفهمُ التوقّفُ المذكور ـ الذي يفيدنا المفهومَ المطلوبَ ـ ومَتَى لا يُفهمُ:

الصنف الأوّل ، ما يدلّ من الجملة الغائيّة على المفهوم ، وهي فيما لو أفادت معنى توقّف طبـيعي الحكم على علّة منحصرة:

قال الله تعالى ( وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ ـ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ حَتَّى يـبلُغَ أَشُدَّهُ )[1] ...

والصنف الثاني ، ما لا يدلّ من الجملة الغائيّة على المفهوم ، وهي فيما لو لم تُفِدْ معنى توقّف طبـيعي الحكم على علّة منحصرة :

مثال ذلك : قال الله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[2] ، فهل تَفهمُ من الآية الكريمة أنّ طبـيعي حرمة الأكل والشرب متوقّف على علّة منحصرة وهي بقاء النهار ، يعني أنه لا يجب الصيام في الشرع إلاّ في النهار ، كما لا يجب على الجارية الصلاةُ إلاّ إذا حاضت ؟ أم تفهم منها أنّ الله تعالى جَعَلَ وجوباً خاصّاً للصيام إلى الليل ، كما جَعَلَ وجوباً خاصّاً للصلاة في وقت الفجر والحجّ في أشهر الحجّ ؟ بمعنى أنه لا مانع من أن يجعل اللهُ تعالى وجوباً آخر للصيام في الليل بملاك آخر ؟

ما نَـفْهَمُه هو أنّ الظاهر من الآية الكريمة ونحوِها هو الثاني ، وهو أنّ الله تعالى جَعَلَ وجوباً خاصّاً للصيام في النهار ، ولا مانع من أن يجعل وجوباً آخر للصيام في الليل أيضاً ، كما جعل وجوباً آخر للصلاة بعد الزوال . نعم ، نفسُ مادّة المثال توهِمُ بأنّ المتوقِّف هو طبـيعي الحكم .

مثالٌ ثانٍ : قولُه تعالى ( البـيِّعانِ بالخَيار حتى يَفْتَرِقا )[3] ، فإنْ فهمْتَ من هذه الرواية توقّفَ طبـيعي جواز البـيع على بقائهما في نفس المجلس كان للرواية مفهوم ، وإلاّ فلا ، أي أنك إن فهمتَ معنى الإنحصار كان للرواية مفهومٌ ، وذلك بـبـيان أنك إنْ فهمتَ معنى (لا يكون خَيارٌ في البـيع أصلاً إلاّ إذا كان البـيِّعانِ باقِيـين في مجلس البـيع) كان للجملة مفهوم ، وبما أننا لا نفهم طبـيعي الحكم ولا الإنحصارَ فلن يكون هنا مفهوم .

وبتعبـير آخر : الحكمُ المذكور هو شخصُ الحكم ، وذلك بدليل أنه لا مانع من ورود أسباب اُخرى لخيار البـيع ، إذَن لا مفهوم لهذا الصنف من الجمل الغائيّة .

مثال ثالث : قال الله تعالى ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبـينَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبـيضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ )[4] ، فإنْ فهِمْنا توقّفَ طبـيعي جواز الأكل والشرب على بقاء الليل ـ أي إنْ فهِمْنا أنّ المراد هو (إنما يجوز الأكلُ والشربُ في شهر رمضان في الليل فقط ) ـ فللآية مفهومٌ ـ أي في النهار لا يجوز أصلاً ـ وإلاّ فلا ، وإنْ فهِمْنا معنى "قد جَعَلَ اللهُ جوازَ الأكلِ والشرب في وقت الليل ، فإذا تبـَيَّنَ لنا الفجرُ فقد جَعَلَ اللهُ الحرمةَ في الأكل والشرب ـ وذلك كما لو قال شربُ الخمرِ حرامٌ وأكْلُ الخُبزِ حَلالٌ ـ فلا مفهوم حينـئذ ، وبتعبـيرٍ آخر : إنْ فَهِمْتَ مِنَ الآية معنى (جَعَلَ اللهُ جوازَ الأكلِ والشرب في الليل في شهر رمضان ، وجَعَلَ الحرمةَ في نهار شهر رمضان) فلا مفهوم ، لأنّ الموضوع ح سيكون شخصيّاً ، وبالتالي حُكْمُه أيضاً سيكون شخصيّاً، وبما أنّ الفهم الثاني هو الظاهر ، فلا مفهوم إذن لهذه الجملة الغائيّة .

وقد يَتوهّم بعضُ الناسِ وجودَ مفهومٍ لبعض الجمل الغائيّة ، وفي الحقيقة أنّ ما ذُكِرَ لها من المفهوم إنما هي مداليل مطابقيّة وليست مداليلَ إلتـزاميّةً ، وذلك من قبـيل :

ما ورد في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبـي عبد الله (عليه السلام) قال : ( كلّ شيء فيه حلالٌ وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرامَ منه بعينه فـتـدعه )[5] صحيحة السند ، ومثلُها موثّقةُ عمّار المشهورة القائلة بأنّ ( كلّ شيء نظيفٌ حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك )[6] ، فقد يقال بأنّ العرفَ يفهمُ من هذه الرواية توقّفَ طبـيعي الحكمِ الظاهري على عدم معرفة الحرام الواقعي ، إذن للرواية مفهوم . ولكن هذا الإدّعاءُ غير مهمّ ، وذلك لأنّ المفاهيم المدّعاة هنا هي مذكورة بصراحة في الروايتين .

ملاحظة : لا ينبغي إيلاءُ أهميّة كبـيرة لكلمتَي (حتى) و (إلى) في هكذا مواضع ، بذريعة أنّ (حتى) تفيد دخولَ الغاية فيها مع ما قبلها ، وأمّا في حرف (إلى) فالغايةُ خارجة عمّا قبلها ، فإنه لا فرق في الأمثلة المذكورة ـ كما رأيتَ في الصنفين السابقين ـ بـين استعمال كلمة (حتى) وكلمة (إلى) ، فهُما ـ في الأمثلة المذكورة ـ يؤدّيان نفسَ النـتيجة . نعم ، إستعمالُ كلمة (حتى)[7] قد تكون واضحةً في أداء معنى دخول الغاية فيما قبلها ، ففي قول الله تعالى السابق ـ مثلاً ـ (وَابْتَلُوا اليَتَامَى ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) يعني : لا تعطوهم أموالَهم حتى تعلموا دخولَهم في سنّ النكاح وتعلموا دخولَهم في مرحلة الرشد ، وهو يقتضي لزومَ تحصيلِ العِلمِ ببلوغ مرحلة النكاح ومرحلة الرشد .

وقد لا تفيد كلمةُ (حتى) معنى دخول الغاية فيما قبلها ، كما في ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرامَ منه بعينه فـتـدعه ) ، ومثلها موثّقة عمّار ( كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك ) وذلك لأنه لا معنى لبقاء الحكم الظاهري مع معرفة الحكم الواقعي .

المهم هو أنّ هذا الموضوع لا ينفعنا فيما نحن فيه لأنّ كلامَنا هنا هو في المفاهيم ، وهذه الفائدةُ المذكورة في آية ( وَابْتَلُوا اليَتَامَى ) لا تؤثّرُ فيما نحن بصدده ، لأنّ بلوغ مرحلة (النكاح والرشد) يحصل في لحظةٍ واحدة ، وكذا الكلامُ في الطهر من الحيض ، فإنه يحصل في لحظة واحدة ، وكذا تبـينُ طلوعِ الفجر ، وحصولُ الإفتراق من مجلس البـيع . وبتعبـير آخر : لا فرق فيما نحن فيه ـ مِن بحْثِ المفاهيم ـ بـين ما لو قلنا نفسَ ما ذكَرَتْه الآيةُ وبـين أن نقول لا تعطوا اليتامى أموالَهم إلى بلوغهم سنّ النكاح ومرحلة الرشد ... لأنّ كلامنا إنما هو في فهْمِ توقّفِ طبـيعي عدم جواز إعطائهم أموالَهم على علّة منحصرة ـ مع غضّ النظر عن كون الغاية هي عدمُ بلوغِهم النكاح والرشد أو عدمُ عِلمِنا بـبلوغهم مرحلةَ النكاح والرشد ـ .

 


[7] لا شكّ أنك لاحظتَ مِن خلال جميع الأمثلة السابقة أنّ كلامنا إنما هو في (حتى) الجارّة دون (حتّى) العاطفة التي هي من قبـيل (أكلتُ السمكةَ كلَّها حتى رأسَها) أي حتى رأسَها أكلتُهُ، أي حتى الجزءَ الغيرَ متوقّع أكلتُه، و (مات الناسُ حتى الأنبـياءُ) أي حتى الأنبـياءُ ماتوا، أي حتى أقربُ الخلقِ إلى الله وأشرفُهم ماتوا، ومِثْلُهما (مات كلّ أبٍ حتى آدمُ) أي حتى آدمُ ماتَ ...

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo