< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/12/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مفهوم العدد الخاص

مفهوم العدد الخاص

إختلف الأصوليّون في حجّيّة مفهوم العدد ، ومثاله ما وَرَدَ في التهذيـب عن محمد بن يعقوب (وعن الكافي) عن علي بن ابراهيم عن أبـيه عن اسماعيل بن مرار عن يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا : ( خمسة أشياء ذكية ممّا فيها منافع الخلق : الإنـفحة والبـيضة والصوف والشعر والوبر )[1] ضعيفة السند لجهالة اسماعيل بن مرار ، مع أنها أكثر من ذلك كالقرن والظفر والسنّ واللبن من الميتة وفأرة المسك المذكّاة وجلد المَيتة المدبوغ ـ كما في الروايات الصحيحة وبها قال عدّة من أعاظم فقهائـنا ـ ، وفي باب المسوخ تلاحظ بعضَ الروايات تَذكُرُ المسوخَ بأنها ثلاثةَ عشر وتذكرها بأسمائها ، ثم يأتينا روايات أخرى تذكر بعضاً آخر من المسوخات ، وقد يحصل عندنا بعضُ تعجّب وتساؤل عن سبب ذِكْرِ الثلاثة عشر مع أنها أكثرُ من ذلك ! وورد في بعض الروايات حصْرُ الكبائرِ في سبع ، وذكرَتْها بأسمائها ، ثم تَرَى في بعض الروايات أنها أربعون أو أكثر !!

فقد ذهب جمعٌ من محققي الأصوليـين إلى حجية مفهوم العدد ، بل قال شيخنا الشهيد الثاني في تمهيده إنه مذهب أكثر الأصوليـين ، وممّن قال بحجيّة مفهوم العدد : السيد علي الطباطبائي (توفي سنة 1231 هـ ق) [2] .

وقال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام (مفهوم العدد ليس بحجّة)[3] !! وكذا قال بعدم حجيّته الحرُّ العاملي ، قال : (إنّ مفهوم العدد ليس بحجة اتفاقاً من علمائنا ، ومَن كان عنده عشرة دراهم جاز أن يقول عندي سبعة دراهم)[4] ، وكذا قال بعدم حجيّته السيد محمد بن علي صاحب الرياض في كتابه (المناهل) . وكذا أنكر حجيّةَ مفهوم العدد السيد علي الموسوي القزويني (توفي 1298 هـ) [5] ، والسيد محمد هادي الميلاني[6] .

فأقول : لا شك في أن تحديد الموضوع بعدد خاص ـ كما في قولنا جِئني بعشرة رجال أو جِئني برجالٍ عشرة ـ لا يدل على انـتـفاء طبـيعيّ الحكم عَمّا عداه ، فإذا قيل : (صُمْ ثلاثة أيام من كل شهر) فإنه لا يدل على عدم استحباب صوم غير ثلاثة أيام بملاك آخر ، أي أنه لا يعارض الدليلَ على استحباب صوم أيام أُخَر ، وكذلك إن قال المولى (تصدّقْ بخمسة دراهم أو بدراهم خمسة) فهذا لا ينافي قولَه في جلسة أخرى (تصدّقْ بخمسة دراهم أو بعشرة دراهم) . نعم ، إذا دلّ العدد المذكور في موضوع الحكم إذا دلّ على توقّف طبـيعي الحكم على العدد المذكور كان لجملة العددِ مفهومٌ .

بـيانُ ذلك : قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (4) )[7] ، فهل لهذه الآية الكريمة مفهومٌ ؟! وموثّقة عمّار عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر ؟ فقال (عليه السلام) : ( تغسله ثلاث مرّات ) ، سُئِلَ : أيُجزيه أن يصبّ عليه الماء ؟ قال : ( لا يجزيه حتّى يدلكه بـيده ويغسلَه ثلاث مرّات )[8] هل لها مفهوم ؟! وكذا سائر التحديدات الشرعيّة مثل ما ورد في تحديد مسافة السفر ، ومقدار الكرّ ، وبلوغ الصبـي والفتاة ، وتحديد الزكاة ، ومقدار الرضاعة المحرّمة ، وتحديد الديّات والعقوبات كمقدار القطع ... هل لها مفهوم أم لا ؟

الجواب : ذِكْرُ العددِ في الشرع فيه تفصيلٌ ، فتارةً يُفيد حصرَ طبـيعيّ الحكمِ بموضوع معيّن وعدد معيّن فيكون للعدد مفهوم ، وتارةً لا يفيد ذلك ، وتارةً يُفهم منه الحصرُ من جهة الأكثر ، وتارةً يُفهم منه الحصر من جهة الأقلّ ، بمعنى أنه لا يجوز الأكـثر كما في باب العقوبات كمسألة الجلد ومسألة القطع ، وقد لا يجوز الأقلّ كما ورد في مسألة عدد الغسلات في أواني الخمر هو أيضاً للتصريح بالعدد ولأصالة عدم حصول التطهير بأقلّ من ذلك .

وما يهمُّنا في هذا البحث هو أنْ نقول بأنّ هتين المسألتين ـ الجلْد والتطهير ـ أشبهُ شيءٍ بالوصف ، ولذلك لا يكون لها مفهوم ، لأنّ قولك (إجلدْهُ ثمانين جلدة) لا يدلّ على حصر طبـيعي الحكم على عدد معيّن ، فهي بمثابة قولنا (إركع ركوعاً واحداً وسجدتين) و (صَلِّ إلى القبلة) ، وهكذا جملٌ لا مفهوم لها ، رغم أنها تمنع من الزيادة أو النقيصة . وبتعبـير آخر : عدمُ جواز الجلد أكثر ممّا ورد في الشرع هو لأصالة عدم جواز الجلد ، وهذا ليس مفهوماً ، وكذا قولُك (إغسل أواني الخمر ثلاث مرّات) يعني عدمَ وجوب الزائد ، وهو بمثابة قولك جِئْني بكتاب وكقولك جئني بعشرة كتب ، فلا يوجد في مدلولها المطابقي أيُّ دليل على انحصار طبـيعي الحكم بعدد معيّن . وعدمُ الإكتفاءِ بأقلّ من ثلاث غسلات ليس هو من باب وجود مفهوم لهذه الجملة ، وإنما هو من باب عدم الإمتـثال . مثال آخر : لو قال لك المولى "إضربْ فلاناً عشرين ضربة" فهو بمثابة قولِه "أكرِمْ زَيداً" أي أنه يجب أن يَدخل في جملة اللقب ، فلن يكون لها مفهوم أصلاً .

وقد يكون ذِكْرُ العددِ ـ في تعداد الكبائر ـ من هذا الباب ، إنْ كان ذِكْرُ عددٍ معيّن لا ينافي ذِكْرَ عددٍ أكبرَ منه ، ولذلك قال علماؤنا بأنه قد لا يفيد الحصرَ ، وقالوا قد يكون ذِكْرُ السبعةِ في بعض الروايات ـ وفي موضع آخر يُذكَرُ أربعون كبـيرة ـ هو من باب ذِكْرِ الأهمّ أو من باب ذِكْرِ أكبر الكبائر أو ذِكْرِ الجنس الأعلى لها التي تـنزل تحتها سائر الكبائر الأربعين.

وتارةً يكون للعدد مفهوم ، كما لو أفادنا المدلولُ المطابقي انحصارَ طبـيعي الحكمِ بموضوع معيّن وعدد معيّن ، وذلك كما في مثال التقصير ، فإنك تفهم من أدلّة التقصير أنّه لا يجوز التقصير أصلاً ولأيّ سبب ولأيّ ملاك إلاّ إذا بلغْتَ المسافةَ الفلانيّة ، فإذا بلغْتَ المسافةَ فإنه لا يجوز مطلقاً إلاّ التقصيرُ ولا يصحّ إلاّ التقصيرُ . وهذا هو مراد العلماء من المفهوم في هذه المسألة . فعلى هذا الأساس علينا أن ننظر إلى كلّ القضايا التي فيها أعداد . فمثلاًُ في قضيّة الزكاة ، أنـت تفهم من أدلّة الزكاة أنه لا يجب عليك الزكاةُ أصلاً ولأيّ سبب إلاّ إذا بلغ النصاب كذا وكذا ، وهكذا الحال في كلّ المسائل .

والنـتيجةُ هي أنّ العَدَدَ يَدِلُّ على المـفهوم إذا أفاد المدلولُ المطابقيُّ توقّفَ طبـيعيّ الحكمِ على موضوع معيّن وعدد معيّن، وفي غير ذلك لا يدلّ على المـفهوم .

 


[6] في كتابه، السيد محمد هادي الميلاني محاضرات في فقه الإمامية : كتاب الصلاة، صلاة المسافر، ص20 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo