< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/25

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع : حالات ارتـفاع القدرة

حالات ارتـفاع القدرة

قد تزول القدرةُ بالعصيان ، أي حتى تفوتَ القدرةُ على فِعْلِ المؤقّت في زمانه المرسوم ، ولو بتعجيز المكلّفِ نفسَه عن أداء الواجب المؤقّت ، كما لو دخل وقتُ الفريضة فأراق ماءَ الوضوء عن عِلْمٍ بعدم وجود ماء غيرِه ، أو تماهل حتى لم يَعُدْ يستطيعُ على الذهاب مع القوافل إلى الحجّ ، فهذا مُدانٌ شرعاً وعقلاً ، وبالتالي هو يستحقّ العقابَ عقلاً . وهنا نقول : إنّ العجز بسوء الإخـتيار لا ينافي العقابَ ، أي أنّ هذا الشخصَ الذي أوقَعَ نفسَه في العجْز لا يُقال له هو غير مختار فلا يستحقّ العقاب ، وإنما يقال له بأنك تستحقّ العقابَ . فلو أوقع نفسه من شاهق فليس له أن يقول (أنا الآن غيرُ قادر على الإمتـثال ولذلك فلا أستحقّ العقاب) ، وإنما يجب أن يقال له (بما أنك أوقعتَ نفسَك في العجز في بداية الأمرِ ، فإنّ اضطرارك الآن على السقوط إلى الأسفل لا ينافي استحقاقك للعقاب عند جميع العقلاء قاطبةً ، لأنك كنـت قادراً على الإبتعاد عن الوقوع في المَهلَكَة ، فوقوعُك الآن حرامٌ عليك فعلاً ، لأنه مبغوض تمام المبغوضيّة ، ولذلك فأنـت تستحقّ العقابَ عليه) ، وكذا لو أدخل نفسَه في أرض مغصوبة ، وأراد أن يخرج ، فليس له أن يقول (أنا الآن غير مُدان ولا أستحقّ العقابَ لأنّ خروجي أقلُّ مكروهيةً من بقائي ، ويَحكم العقلُ بلزوم خروجي لأنه أقلّ الضررين !! ) ، وإنما نقول له ـ كما قلنا فيمن ألقَى بنفسه من شاهق ـ (أنـت تستحقّ العقابَ على خروجك من الأرض ، حتى وإن كان الخروجُ واجباً عقلاً ، وذلك لأنه أقلّ الحرامَين ، ولكنْ خروجُك الآن هو بنفسه حرام ، لا أنه يَسقُطُ قُبْحُه وحرمته الفعليّة ، نعم تُسقُطُ بالضرورةِ الحرمةُ الفاعليّة ـ أي المحرّكة ـ لأنه لا يمكن الإمتـثال) . وإنما نقول بعدم سقوط الفِعْلِيّة في الأمور التي لا يُشترَطُ فيها القدرةُ الشرعيّة لأنّ الملاكَ ـ أي مبغوضيّة الفعل ـ يـبقَى محفوظاً حتى في حال سقوط القدرة على الحفاظ على النفس كما في إلقاء النفس من شاهق .

لذلك فنحن نـقول كما يقول سيّدنا الشهيد الصدر : (إنّ الإضطرار بسوء الإختيار لا ينافي العقابَ ، نعم هو ينافي التحريكَ) ، ولك أن تذكرها بصيغة اُصوليّة فتقول : (إنّ الإضطرار بسوء الإختيار لا ينافي الإختيارَ فِعْلاً ـ أي يقول له المعصوم وكلّ العقلاء أنت ألقيتَ بنفسك وباختيارك من شاهق فكأنك الآن لا تزال مختاراً رغم عجزك عن الإمتـثال فعلاً ـ وينافيه فاعليّةً) .

أمّا لو فُوجِئَ بسقوط القدرة وبالعجز عن أداء القدرة فلا إدانة قطعاً .

فَصْلٌ : هل يجوز عقلاً أمْرُ الآمِرِ مع عِلْمِه بانـتـفاء شرط التكليف ؟

هل يجوز أمْرُ الآمِرِ ـ ولو بنحو إعطاء قانون عام ـ مع عِلْمِ الآمِرِ بانـتـفاء شرط التكليف كالقدرة والعِلْم ، فقد يكون بعضُ المأمورين جاهلين بالحكم الشرعي ، فلا يمتـثلون من باب الجهل ، لا من باب المعصية ؟ وبتعبـير آخر : هل يمكن الإلتزام بجواز أمْرِ الآمِرِ مع علم الآمِرِ بانـتـفاء شرط التكليف كما إذا أراد الآمِرُ من الأمرِ بعضَ دواعٍ عقلائيّة ، كأنْ يريدَ إظهارَ شدّةِ أهميّةِ الأمر ، أو كأنْ يريدَ امتحانَ العبد ، ولا يريد الفِعْلَ جداً ؟

قبل الجواب على السؤال يجب أن نَذْكُرَ كلمتين :

الاُولى : إنّ المراد من الجواز هنا هو الجواز الوقوعي ، لا الجواز الذاتي ، فإنه يمكن للمولى أن يأمر عبدَه بالمستحيل ، كأن يأمره بالطيران في السماء ، إذن يجوز ذاتاً أن يأمر المولى عبدَه بالمستحيل ، لكنَّ الأمْرَ بالمستحيل لا يصدر ـ على مستوى الوقوع ـ من الآمِر الحكيم .

والثانية : ليس مرادنا من الأمر في هذا البحث هو الأمر الصادر من المولى للإستهزاء أو التعجيز أو السخرية أو التحدّي ونحو ذلك ، وإنما مرادنا من الأمر هنا هو الأمر الحقيقي المرادُ منه البعث الجدّي .

وبعد هذا نـقول في الجواب على السؤال السالف الذكر :

إنه لا شكّ في أنه يَقبح على المولى أن يأمر عبدَه بأمْرٍ مستحيلٍ عليه وهو يريد منه الإمتـثال وهو يعلم أنّ العبد سوف يَعجز عن امتـثال الأمر ، ولو لِجَهْلِه بالحكم الشرعي ، فإنه لا يمكن أن يأمر المولى الحكيمُ بفعلٍ مع عدم قدرة العبدِ عليه ، أو مع جهله بالحكم ، ولذلك نقول القدرةُ والعلم شرطان عامّان في مرحلة الإمتـثال . نعم ، يمكن أن يأمر المولى الحكيمُ عبدَه بفِعلٍ ـ وهو يَعلم بعدم قدرته عليه ـ وذلك لأسباب وجيهة ، كإظهار شدّة أهميّة الحكم ، فيكون الوجوب فعليّاً ولكن ليس منجّزاً ، وذلك كما ورد في قوله تعالى )وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً )[1] فإنّ الله تعالى يعلم أننا غيرُ قادرين على الإمتـثال ومع ذلك أمَرَنا ، وليس ذلك إلاّ لفوائدَ ، كإظهار شدّة أهميّة الحكم وفعليّتِه وأنهم مراقوا الدم ولا دِية لهم .

إذن في الجوابِ تفصيلٌ بـين الفعليّة والـتـنجيز ، بمعنى أنه يمكن أن يكون الحكم صادراً ويصيرَ فعليّاً ، حتى ولو كان المأمورُ عاجزاً أو جاهلاً ، إن كان يوجد أثرٌ للفعليّة ، فيمكن صدور هكذا حكمٍ بنحو الجديّة ولا لَغْوِيّة فيه ، ولكن لا يكون منجّزاً ، ولذلك نقول بعدم إمكان صدورِ الأمرِ التعجيزي بداعي الإمتـثال ، وإنما يشترط في التـنجيزِ العِلمُ بالحكم والقدرةُ على الإمتـثال ، فتكون الإرادةُ الجديّةُ عند المولى في مرحلة الفعليّة فـقط ـ دون مرحلة التـنجيز ـ ولذلك نقول لا لَغْوِيّة في صدور هكذا أحكام .

وبعد مراجعة كلمات القوم ـ من أيام السيد المرتضى وإلى أيامنا هذه ـ يظهر أنّ تفصيلنا هذا هو ما يؤمنون به جميعُهم ، وهو وجه الجمع بـين كلماتهم .

 


[1] التوبة : 36. . قال الله تعالى ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثـنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذَلِكَ الدِّينُ القَـيِّمُ، فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْـفُسَكُمْ، وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُـتَّـقِينَ )

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo