< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : النهي عن المعاملة

فإنْ قلتَ : قد يتعلّق النهيُ عن المعاملة وتكون المعاملةُ صحيحةً ، كما في البَـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، فكيف تدّعي بطلانَ المعاملة مطلقاً إذا نُهِيَ عنها ؟!

قلتُ : النهيُ عن البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ليس نهياً عن ذات البـيع ، إنما هو نهيٌ غيري ، بمعنى أنه نهيٌ لأجلِ الذهاب إلى الصلاة ، أي لا لمبغوضيّة نفس البـيع ، وإنما هذا النهي إرشادٌ إلى وجوب الذهاب للصلاة فقط ، ولذلك لو فرضنا أنّ هذا البائع قليلُ الدِّين ، ولا يريد الذهابَ إلى الصلاة ، فبقي في دكّانه يـبـيع ، فإنه لا يَـبْعُدُ أنه يستحقّ عقاباً واحداً فقط ، وهو على ترك الصلاة ، لا عقابين ـ على ترك الصلاة وعلى البـيع ـ ولذلك فنحن نستبعد كونَ النهي عن البـيع نهياً تكليفياً ـ كالنهي عن شرب الخمر والزنا مثلاً ـ . وبتعبـيرٍ آخر : الصلاةُ لكونها محبوبةً نهَى المولى عزّ وجلّ عن البـيع ، وذلك بدليل أنه لولا النداءُ لصلاة الجمعة لما كان هناك نهيٌ عن البـيع ، فليس نفسُ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة مبغوضاً ـ كشرب الخمر وأكل الميتة ـ ، ولذلك لا أظنّ أنه يوجد فقيهٌ يُفتي ببطلان البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، ولذلك لا داعي للإستدلال على صحّة البـيع ـ بعد وضوح عدم وجود نهي ذاتي عن البـيع ـ بقوله تعالى (اَوْفُوا بالعُقُودِ ).

وأمّا إن تعلّق النهيُ بالمسبَّب ، أي بنـتيجة المعاملة ـ كالنهي عن المعاملة الربويّة وبـَيعِ كتب الضلال ـ فالذي نفهمُه هو عدمُ إمكان أن يَقبل اللهُ تعالى بصحّة المعاملة ويشرّعَها ـ أي يُشَرّعَ النقلَ والإنـتقال ـ وهو يُـبغِضُ نـتيجتَها ، فإنه تضادٌّ واضحٌ ومخالفٌ للمبغوضيّة . وبتعبـيرٍ آخر ، إذا كان الله تعالى يـُبغِضُ انـتقالَ كتب الضلال أو المصحفِ إلى الكافر ـ مثلاًـ فكيف يشرّع البـيعَ ويُقِرُّه ؟! وإذا كان يـُبغِض المعاملةَ الربويّة ويحبُّ إعدامَها فكيف يُشَرِّعُها ويُمْضِيها ويُوجِبُ على الإنسان أن يدفع الربا الآتي في المستقبل ؟! ألا ينبغي أن يَسلب المولى تعالى السلطنةَ من المُرابي على أخْذِ مالِ الربا وأن يسلب السلطنةَ من البائع على بـيع كتب الضلال والمصحفِ الشريف للكافرِ ؟! وكذا الأمر في كلّ الحالات التي يُـبغض الله تعالى نـتيجتَها ، كما في المعاملة على إضرار الناس ، وكما لو استأجر شخصٌ شخصاً ليَقتل آخرَ ظلماً وعدواناً فإجارتُه باطلةٌ لا محالة ، ولا يمكن أن يشرّع اللهُ تعالى هكذا معاملةً يَكرهُها، فإنّ ذلك مخالفٌ للحكمة ولغرضه وإرادته، وهذا أمر يجب أن يكون بديهيّاً .

فإن قلتَ : نـتمسّكُ بقوله تعالى ( اَوْفُوا بالعُقُودِ) في هكذا حالةٍ للقول بصحّة المعاملة .

قلتُ : تـنـصرف أذهانُ المتشرّعة عن التمسّك بهذه الآية في حال وجود نهْيٍ ومبغوضيّة للنـتيجة .

ونـتيجةُ هذا البحث برمّته هو أنّ النهي عن المعاملة يقتضي فسادَها ، فإنه لا يمكن عقلاً أن يَنهَى المولى تعالى عن شيء ثم يحكم بصحّته . وأمّا النهيُ عن البـيع عند النداء لصلاة الجمعة فليس هو نهياً تكليفياً نفسياً عن البـيع كما عرفتَ .

وهنا ملاحظات :

لا شكّ أنك تعلم أنّ الأصل العدمي يقتضي عدمَ حصولِ المعاملة ، وهذا هو المراد من قولهم دائماً بأنّ الأصل في المعاملة الفسادُ ، فلو شككنا في صحّة الزواج الفلاني ـ كنكاح الشغار مثلاً ، وهو أن يَعْقِدَ الرجلُ لغيره على ابنـته مثلاً ، ويجعل مهرَها نكاحَه لابنـة ذاك الرجل أو أخته ـ أو في صحّة الطلاق الفلاني ـ كطلاق العرب باللغة الإنكليزيّة مثلاً ـ فالأصلُ عدمُ حصولهما .

ورد النهيُ عن بـيع المكرَه فيكون البـيع باطلاً ، بخلاف بـيع المضطرّ الذي يصحّ بـيعُه بالإجماع ، لأنّ تشريع عدمِ صحّة بـيع المضطرّ يعني إيقاعَه في الحرج أو الضرر ، وهذا خلاف الإمتـنان ، ولك أن تُدخِلَ النهيَ عن بـيعِ المكرَهِ في النهي عن السبب ـ لأنه إجبار المالكِ على ما لا يريد وتصرّفٌ به من دون ولايةٍ عليه ـ وفي النهي عن المسبّب ـ لأنّه أخْذٌ لأموال الناس بغير حقّ وغصْبٌ لها ـ .

ورد في عوالي اللآلئ عن النبيّ (ص) أنّ اللهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه ، وطريقها طريق العامّة ، بل هي مرسلة عندهم ، لذلك لا يمكن الإعتماد عليها .

ذكرنا قبل قليل أنه إن كان النهيُ عن المعاملة إرشاداً إلى اشتراط شيء فيها ـ كأن يكون البائع مختاراً والمبـيعُ واضحاً ـ أو إرشاداً إلى مانعيّة شيء عن صحّتها ـ كمانعيّة الصغر والجنون والحَجْرِ عن صحّة البـيع ـ فلا شكّ ح في بطلانها .

وَرَدَ في الشرع بعضُ التعابـير التي يَظهر منها بوضوح إرادةُ بـيانِ بطلانِ المعاملة ، فهذه خارجة من بحثـنا ، وذلك من قبـيل ما ورد في الأخبار من أنّ أجرة الزانية سحتٌ وأجرة المغنيّة سحت وثمن الخمر سحت وثمن الميتة سحت وكذا ثمن النبـيذ والمسكر والربا بعد البـيِّنَة وأجْرُ الكاهنِ وما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة العاملين عند السلطان الجائر[1] فهذا يعني بوضوحٍ بطلانَ المعاملة ، لأنّ كونه سُحْتاً يَكشِفُ عن أنّ الطرف الآخر لم يتملّكِ الثَّمَنَ ، لذلك كان سُحْتاً ، وكذا وَرَدَ أنّ بعض الأشخاص محجور عليهم لبعض أسباب كالسفه والصغر ، فهذا أيضاً يعني بوضوحٍ بطلانَ معاملاتهم ، وإلاّ لم يكن للحجْرِ معنى ، لاحِظْ مثلاً روايةَ حمران عن الإمام الباقر (عليه السلام) ( والغلامُ لا يجوز أمْرُه في الشراء والبـيع ولا يخرج عن اليتم حتى يـبلغ خمس عشرة سنة ... )[2] فإنه ظاهر في بطلان المعاملة وعدمِ جواز القبض والإقباض والتسليم والتسلم كما لا يخفى .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo