< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/03/02

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع : رسالةٌ في عِلْمِ الباري تعالى

المقدّمة

(ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ) [1]

يقول الله تعالى( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هو أَهْدَى سَبِيلاً )[2]

ويقول تعالى ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) [3] .

ويقول( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ ) [4] .

لا شكّ أنّ خلْقَ اللهِ تعالى للسموات والأرض هو أنسب ما يمكن عقلاً ، ولا يمكن إيجادُ أنسبَ منه على الإطلاق ، لأنّ الله تعالى خلق السموات والأرضَ على شاكلته ، أي على شاكلة كماله وحكمته ، فإن رأيت في خلق الرحمن من تفاوت فهو بنظرك القاصر وبالنسبة لك ، أمّا هو ـ بنفسه ـ فكامل وجميل ، حتى وإن استقبحتَه أنت ، كالحشرات والجراثيم ، ثم(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ) [5] يُلغي اللهُ تعالى ما يناسبك هنا ويخلق لك هناك عالماً مقدّساً يناسب نشأتك المقدّسة ...

واعلم أخي المؤمن أنّ الله تعالى حبّ محضٌ وعشق وحنان ، ليس عنده تشفّي وسوء وشرّ ، هو العفو المحض والرحمة البالغة ، متعال عن العدالة ، لأنه لو عدل لأهلك مَن في الأرض جميعاً . خلَقَ الخلْقَ ، فهم مظهر لأسمائه وصفاته ، أحبّ نفسَه وأسماءه وصفاتِه فخلق مظاهر لها .. وأحبّ ـ بمقتضى حكمته وكماله ـ أن يفعّل أسماءَه وصفاته ـ أي أن يُحَقِّقَها في الخارج ـ لأنّ الفعلي أكمل ممّا هو بالقوّة ، فخلق الخلق ، ليكون رحيماً بالفعل ، وعَفُوّاً بالفعل ، ورازقاً بالفعل ، بل المفيض من صفاته ، فخلق الخلق ليفعّل صفة الفيض التي في ذاته ...

واعلم أنّ الخلق عيال الله ، ولذلك كان أحبُّهم إليه أنفعَهم لعياله ... فإذا أمرك بالعفو فهو اَولى بذلك ...

وفي الآخرة ، بل عند احتضارك ، تظهر لك حقائقُ معاني هذه الكلمات وبواطنها ، فلا تظنّنّ بربّك ظنّ السوء ، وكن لله عاشقاً ، وفيه متفانياً ، قدِّمْ في سبيله النفس والنفيس كابراهيم الخليل )عليه السلام) الذي وهب وَلَدَه إسماعيل )عليه السلام) لربّه ، واستسلم لأمر ربّه ، لكنَّ اللهَ فَدَى ولده إسماعيل بكبش عظيم ، ولكن الحسين )عليه السلام) وهب ولديه لربّه وقُتلا بين يديه ، ثم اقتحم القتلَ في سبيل الله ...

 

وخَلَقَ الإنسانَ بحريّة واختيار ، كأحسن ما يمكن على الإطلاق ، وفَطَرَ الإنسانَ على التوحيد ، وأبواه ـ أي بيئته وبيته ومدرسته وو ـ ينصّرانه أويهوّدانه أو يمجّسانه ، قال تعالى( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[6] ، فله الشكر على ذلك ، شكراً فوق شكر الشاكرين ، لكن كيف خَلَقَ الله جلّ وعلا الإختيارَ عند الإنسان ؟ وما هو أحسن تقويم وشكلٍ في كيفية إعطاء الإختيار للإنسانِ ؟

اِختلف الناسُ في ذلك ـ بعد تسليم الكلّ بعِلْمه تعالى بكلّ موجود في العالَم ، صغيراً كان أو كبيراً ، ظاهراً كان أو خفيّاً ، هو العالم بالوجودات الأربع العينية والذهنية والكتبية واللفظية وبكلّ ما يترّتب على ذلك ولو بعد حين ـ وثارت ثائرتهم حول السؤال التالي :

هل أنّ الواجب تعالى يعلم بكلّ أفعال الناس الآتية في المستقبل حتى قبل خلق أرواحهم ؟ أي أنّ علمه تعالى بأفعالهم الآتية قديمٌ أزليّ ؟

أو أنه جلّ وعلا عَلِمَ بأفعالهم المستقبلية في مرحلة عالم الذرّ الأوّل بعدما اختبر الخلق هناك ؟ وما هو عالم الذرّ الأوّل ؟ وما هو الثاني ؟

أم أنه تبارك وتعالى لا يعلم بما سيفعله الإنسان سواء في عالم الذرّ أو في عالم الدنيا حتى بعد ساعة بدليل أنه مخيّر وأنّ الله تعالى لم يَجبله على خلق معيّن ولم يَجبره على عمل معيّن ؟! واللازمُ العقلي لهذا الإختيار هو عدم العلم بما سيفعله .

كلّ هذا بعد التسليم بأنّ هناك اُموراً مستقبليةً يعلمُها اللهُ جلّ وعلا قبل حصولها فيما لو كانت تمام العلّة معلومةً عنده تعالى ، وبناءً على هذا وردت الآياتُ والروايات الغيبية الكثيرة .

ثم كيف يتم (المحو) بناءً على عِلْمِ اللهِ تعالى بكلّ أفعال العِباد المستقبلية ؟ ألا يكون كلّه (إثباتاً) لعِلْمِه السابق ، وبالتالي سيُعَطّلُ قولُ الله جلّ وعلا (يمحو الله ما يشاء) ويبقَى قولُه يثبت !

في النظر الأوّلي يوجد احتمالان وفرضيّتان في كيفية إعطاء اللهِ تعالى الحريّةَ للإنسان :

فرضيّة أنّ الله تعالى وَجَدَ المصلحةَ ـ منذ الأزل ـ في إعطاء الحريّة لابن آدم في الحركة في هذه الدنيا بحيث لا يمكن ـ عقلاً ـ أن يَعرِفُ الواجبُ تعالى ماذا سيفعل الإنسانُ من باب أنّ عدم علمه هو من باب اللازم العقلي لاختيار الإنسان .

فهنا سؤالان ثبوتي وإثباتي :

أمّا الثبوتي فهو : هل يقدر عِلّةُ العِلَل أن يُعطيَ الحريّةَ للإنسان بحيث لا يمكن عقلاً أن يعرف ماذا سيفعل الإنسانُ في المستقبل أو بعد ولادته بعشرين سنة مثلاً ، طبعاً إلاّ إذا كانت تمام العلّة معلومة فح لا بدّ أن يعلم الباري تعالى باللوازم كما ورد في قوله تعالى( .. فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) الواردة فيمن عُلِمَ كَذِبُهم في عالم الذرّ وكما في روايات الغيب كعلامات الظهور مثلاً ؟

وثبوتاً أيضاً : هل هناك ـ كما ندّعي ـ ملازمةٌ عقلية بين الإختيار وبين عدم العلم بما يريد أن يفعله الإنسان ـ وهنا مورد البَداء ـ ، طبعاً إلاّ إذا كانت تمام العلّة معلومةً عند الباري تعالى بحيث يصير المعلول واضحاً ومعلوماً لدى واجب الوجود سبحانه وتعالى ـ وهنا مورد آيات وروايات الغيب ـ .

وأمّا السؤال الإثباتي فهو : هل فِعلاً أنّ الله تعالى وجد المصلحةَ ـ بمقتضى حكمته البالغة والأزلية ـ في أن يخلق اُناساً مخيّرين بحيث لا يمكن عقلاً أن يَعرف ماذا يريدون أن يفعلوا في المستقبل ؟ وما الدليل على ذلك ؟ هنا فرْضُ الكلام ، وهذه الفرضية هي ما نعبّر عنها بالطريقة الاُولى في الخلق . ثم سيأتيك دليلُنا على عالم الذرّ من الآيات والروايات الآتية.

وهذه الفرضيّة ـ والتي نعبّر عنها بالطريقة الاُولى ـ ذهب إليها ارسطوطاليس وأصحابُه وأتباعُه من المشّائين كالفارابي وأبي علي ابن سينا ، إذ أنهم ذهبوا إلى أنّ عِلْم الله تفصيلي متكثّر وهو زائد على ذاته تعالى([7] )، وذلك بتقريب أنّ لله تعالى علمين : (عِلْم) بذاته وبشؤونه ومظاهره التي لا تغيّر فيها ولا تبدّل كعِلْمه بأفعال الملائكة الغير متعلّقة بعالَم الإختيار ، و(عِلْمٌ) بأفعال الناس والجنّ المخيّرين ، والعِلْمُ الزائد على ذاته تعالى هو الثاني ، وسيأتي ـ في صلب البحث ـ مزيد بيان وتفصيل .

وفرضيّة أنّ الله تعالى خَلَقَ الخلْقَ بطريقة بحيث يمكن أن يعلم ، وبالتالي هو يعلم فعلاً قبل أن يخلق أرواح الناس ـ أي منذ الأزل ـ أو على الأقلّ عرفها من عالم الذرّ الأوّل ، بمعنى أنه وجد المصلحة في أن يوجدنا أوّلاً في عالم الذرّ الأوّل فيتمّ عقولنا ويعطينا تمام الإختيار ثم يعرض علينا وحدانيّته وربوبيّته وو.. ثم يعرض علينا ذلك مرّة ثانية قبل ميلادنا ، فمن صدَّقَ هناك صدَّقَ في الأرض ، ومن كذَّبَ هناك كَذَّبَ في الأرض بإختياره ـ بعدما وُلِدَ على فطرة الإسلام ـ إلاّ من فتح ـ هناك ـ بعض نوافذ قلبه إلى الله وخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، وبتعبير آخر : الله يعلم بعلّة استقامته أو انحرافه من عالم الذرّ ، قبل الدنيا ، فيعلم بالمعلول في الدنيا لا محالة ، ويعلم بما سيعملون اليوم وبعد مئة سنة ـ لأنّ كلّ ما هو ممكن عند الله فهو فعليّ ـ فلا محو ولا إثبات ولا بَداء في علمه ، وإنما الناس عنده كقطار السكّة معلوموا المسير والمصير ، بل يعلم الله تعالى كلّ حركات زيد الفلاني وسكناته حتى قبل فتق السموات والأرض بآلاف السنين ، وأنّ يزيداً لعنه الله سيقتل الحسين) عليه السلام) ، وذلك قبل أن يخلق اللهُ تعالى الأرضَ وما عليها بملايين السنين ، وبتعبيرنا العامّي : كيف ما راح الإنسان وجاء ووصل رحمه وتصدّق ودعا حتى لو انتحر هو معلوم عند الله قبل خلقه بملايين سنة ، ولو تزوّج المؤمن من الفاسقة والمؤمنةُ من الفاسق فإنّ المكتوب ما منه مهرب ... هذه الفرضية الثانية هي ما نعبّر عنها بالطريقة الثانية .

والسؤال المطروح على أساس هذه الطريقة الثانية هو : هل يمكن ـ أي عقلاً وثبوتاً ـ خلْقُ اُناسٍ مخيّرين بحيث يعلم الواجبُ تعالى ماذا يريدون أن يفعل أبناؤهم بعد ألف سنة مثلاً ؟ أو يعلم قَبْلَ خلق الأرض وما عليها بألف سنة مثلاً أنهم سيفعلون بعد مئة ألف سنة كذا وكذا ؟ أو قُلْ : هل ينسجم القول بالإختيار مع القول بالعِلْم المسبَق بالأعمال الإختيارية للمختار ؟ وكيف يعرف الباري تعالى ذلك ؟ هل من بيئته أم ماذا ؟

وقد كتبتُ هذه الرسالةَ ـ بطولها ـ لسببين :

الأوّل : لكثرة ما نسمع من عوامّ الناس أنّ المكتوب لا مفرّ منه ، وحينما ننصح الناس بعدم الفعل الفلاني ـ كالزواج من فلان الفاسق أوفلانة الفاسقة ـ يجيبوننا بأنّ (هذا قضاؤنا المكتوب في اللوح المحفوظ) ، وهذا أيضاً ما نراه في كتب العامّة وعلى ألسنتهم ! ومنهم وَصَلَ إلى عوامّ العلماء منّا أيضاً ! وسرعان ما يستدلّون على بطلان رأيك بالآيات والروايات ـ حتى المنامات ـ التي تتحدّث عن الغيب ، ولا يدرون أنهم يخلطون بين ما إذا كانت تمام علّة الحادث معلومة عند الواجب تعالى فستقع لوازمها ولو بعد حين ، وبين ما إذا لم تكن تمام علّتها معلومة عنده جلّ وعلا ، لا ، بل إنّ لازم كلامهم هو إنكار للمحو في لوح المحو والإثبات الذي أخبرنا الله عنه ، وإنما هناك إثبات فقط للأفعال التي طابقت المعلومات السابقة عنده تعالى ، فيقول الله ـ بلسان حاله ـ كنت أعلم أنه سيتصدّق وسيصل رحمه ، فهنا ثبتت معلوماتي وليس فيها نقص حتّى يكون هناك محو ، وهو بالتالي تكذيب لله تعالى ، معاذ الله . ولذلك ستعرف في هذه الرسالة أنّ الإختيار بيدك أنت ، فإن الله يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ بحسب عملك أنت ، ولله الرعايةُ في خلقه .

والثاني : لشدّة صعوبة الإيمان بما سنذكر ـ أي على مستوى التصديق ـ رغم بداهة نفس هذه المعلومة التالية ، لا ، بل لشدّة غرابة هذه الرسالة ـ أي على مستوى التصوّر ـ ، إذ أنّ الناس ـ لا ، بل أكثر علماء الدين أيضاً ـ سرعان ما سيواجهونك بأنّ هذا عين نسبة الجهل إلى الواجب تعالى ، وعِلْمُ علّةِ العلل تامّ وفعلي بلا شكّ ، وغيرُ هذا باطل بشكل واضح !! ولا يلتفتون إلى ما سنقول في هذه الرسالة من أنّ الطريقة الاُولى هي مشيئة الله في خلقه ، هو الذي أراد أن يعطيَ الحريّةَ لخلقه بهذا النحو بحيث يكون له البَداء والمحو والإثبات ولا يعتبر هذا عيباً في علم الله ، لأنّ اللهَ شاء ذلك ورأى المصلحةَ فيه ! ونحن لا نستطيع أن نخطّئ الواجب تعالى في اختياره للطريقة الاُولى بذريعة أنّ لازمَها الجهلُ بمستقبل أيام الناس وبأعمالهم الآتية ... فتجهيلُ علّةِ العلل كُفْرٌ بالله عزّ وجلّ ... لذلك أرجو من أصحاب السماحة والفضيلة أن يقرؤوا الرسالة بإتقان وتدبّر قبل أن يحكموا عليها .

إذن ، هنا عدّة أسئلة ، نحاول الإجابة عليها بالآيات والروايات في هذه المحاولة المتواضعة التي لن ترى مثلَها في كتب الأوّلين والآخرين من قَبْل نصير الدين إلى بعد صدر الدين ،

وما عَلِمْتُه مِن نفسي ، ولا اَنْتَجْتُهُ مِنْ فِكْري ،

إن هو إلاّ آيات وروايات وتفضّلٌ مِنَ العليم الحكيم ، واعلم أنك ما أوتيتَ من العلم إلاّ قليلاً ، قال الله تعالى(وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[8] ، فاقرأ ما أتلوه عليك ،

ولا تجزم بصحّة ما كنت تعتقد به ، وإنما اقرأ بتمعّن وتفكّر ثم احكم .

والسؤال الرئيسي في الرسالة هو :

هل خلَقَ اللهُ الناسَ على الطريقة الاُولى أم على الطريقة الثانية ؟

نعم ، هناك اُمور مهمّة جداً غير هذه المسألة الرئيسية لعلّها أهمّ من الموضوع المطروح تجدها في طيات هذه الرسالة .

 

الصحيح هي الطريقةُ الاُولى

دليلُنا على ذلك : الكتابُ والسنّة والعقل

 

وقبل الخوض في الأدلّة على نظريتنا لا بأس بذكر عدّة نقاط بديهيّة :

أوّلاً : لا شكّ في أنّ ذات الباري تعالى ثابتة في ذاتها ، بمعنى أنها غير متغيّرة ، ولا متحرّكة ، لا تزيد في ذاتها لأنّ الله تعالى هو كلّ الوجود ، ولا تنقص ، أو قُلْ لا ينقصها شيء ، هو تعالى الوجودُ كلّه ، بل هو باطن هذا العالم وظاهرُه وروحه وقوام وجوده ، ولا يخلو منه مكان ، وأنّ علمه بذاته لا يزيد ولا ينقص ، وسيأتينا بالتفصيل أنّ علم الله تعالى عِلْمان : علم لا يتغيّر ، وعِلْمٌ قابل للتغيّر وهو الناتج عن عمل الإنسان المختار ، فلا يضرّ الزيادة فيه أو التغيّر على ذات الله تعالى . وأنّ عدم علم الباري تعالى بما سيفعله المختار إنما هو من باب اللازم العقلي للإختيار ، فهو من نفس باب القول المشهور بأنّ العجز في المقدور لا في القادر ، وهذا محلّ كلامنا في هذه الرسالة المهمّة جداً .

ثانياً: لا نظنّ أنّ أحداً في العالمين ممّن يؤمن بالله العظيم يشكّ في إمكان أن يخلق علّةُ العللِ الإنسانَ ويعطيه الحريّةَ بحيث لا يمكن ـ عقلاً ـ أن يعرف ماذا سيفعل الإنسانُ في المستقبل أو بعد ولادته بعشرين سنة مثلاً .

ثالثاً : لا شكّ في أنّ كلّ إنسان يولد على الفطرة ، وأنّ أبوَيه ينصّرانه أو يهوّدانه أو يمجّسانه ، وهذا أمر مسَلّم عند المسلمين .

ورابعاً : لا شكّ أنك قد تناقش في دلالة آية أو رواية ، لكننا ـ في الاُمور العقائدية ـ لا نعتمد على شيء واحد وإن أفاد الإطمئـنان ، وإنما نعتمد على مجموعة أدلّة تفيد بمجموعها القطعَ واليقين بما ندّعي .

إذَنْ كلامُنا في إثبات الطريقة الاُولى المدّعاة فنقول :

أمّا دليلُنا من الكتاب الكريم :

فقوله تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ) [9] .

وهي صريحة بوجود لوحَين ( لوح المحوِ والإثبات ) و( لوح أمّ الكتاب ) والذي يعبّر عنه أيضاً بـ لوح القضاء المبرَم أو المحتوم أو اللوح المحفوظ . ولوحُ المحو لا يمكن عقلاً أن يصحّ على الطريقة الثانية ، وإنما ـ على الطريقة الثانية ـ يكون كلُّ شيء ثابتاً ومعلوماً قَبْلَ فَتْقِ السمواتِ والأرض ، بل قبل خلق أرواح البشر . فإنْ فَسّرتَ لوحَ المحو بالمحو الظاهري وبلحاظ الناس لكيلا ييأسوا فهذا كذب محض على الله تعالى ، وحاشا لله تعالى أن يخطئ بالتعبير ، وإن فسّرتَ لوحَ المحو عند النفوس العِلْويّة ـ أي ما دون الباري تعالى ـ فهذا أيضاً كذب محض على الله جلّ وعلا ، لأنه خلاف تصريح الله تعالى بأنّه هو الذي يَمحو وليس الملائكة .

وبتوضيح آخر : إذا فرضنا أنّ الواجب تعالى خلق الخلق على أساس الطريقة الثانية أي يعلم كلّ خطوة من خطوات زيد إلى أن يموت ، وأنه سيتصدّق ويدعو الله بطول العمر وسيصل رحمه وو ... فأين وكيف يحصل ح (المحوُ) ؟! وماذا سيمحو اللهُ تعالى ؟ طالما كلّ خطوة معلومة ، فسيحصل (إثبات) فقط ، للخطوات المعلومة مسبقاً .

ويقول جلّ وعلا( وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ )[10] وهي من قبيل الآية السابقة تماماً ، لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب تعالى قد محا المكتوب سابقاً وسجّل له عمراً آخر لأنه فعل كذا وكذا ، وهذا يكشف عن عدم العلم بأنه سيصل رَحِمَه ، وأنه لا يعلم بكلّ أفعال العباد مسبَقاً ، وبكلمة واحدة : الإنقاص في العمر لا يتلاءم مع علم الواجب الأزليّ بتمام أفعال العباد ، وبتعبير آخر : لا معنى لقوله تعالى( وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) إلاّ ما ذكرنا .


[7] راجع (أسرار الآيات) لملاّ صدرا الشيرازي/ المشهد الثاني في صفاته وأسمائه/ قاعدة في مراتب علمه تعالى بالأشياء إجمالاً وتفصيلاً ص86 . واَرسطاطاليس لفظة يونانية معناها محب الحكمة ويقال اَرسطو، وهو إحدى الشخصيات العالمية التي اشتهرت منذ قرون بعيدة، كان تلميذاً لأفلاطون(رئيس الحكماء) بعد أن خلفه على دار التعليم عند غيبته إلى صقلية . نظر في الفلسفة بعد أن أتى عليه من العمر 30 عاماً . كان بليغ اليونانيين وأجل علمائهم، كما كان من ذوي الأفكار العالية في الفلسفة، ويعرف بالمعلم الأول لأنه أول من جمع علم المنطق ورتبه واخترع فيه، وقد عظم محله عند الملوك حتى أن الملك الإسكندر الأكبر المعروف بـ ذي القرنين كان يمضي الأمور عن رأيه، عاش سبعاً وستين سنة، توفـّي في خلكيس عام 322 قبل الميلاد، وله كتب كثيرة في مختلف فروع العلم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo