< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد ال‌عبیدان‌القطيفي

قواعد الفقهيه

42/09/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: قاعدة الالزام/مقاماتها /المقام الثاني

تقدم الكلام حول قاعدة الالزام وأشرنا بصورة اجمالية الى مدى أهمية القاعدة المذكورة وأثرها في عملية الاستنباط وقلنا بأن الحديث عنها يتم عبر مقامات وقد تقدم الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني: الشواهد القطعية التي يمكن استعراضها في المقام لأثبات القاعدة وقد أشرنا في ما تقدم ان القواعد الكبروية التي يعتمد عليها في أبواب فقهية متعددة تحتاج الى شواهد قطعية للركون اليها والاعتماد عليها في مقام الفتوى وتلك الشواهد القطعية تكون مستقات من الكتاب الكريم او من السنة القطعية او من حكم العقل او من حكم العقلاء والا فلا

اما إذا كانت القاعدة مختصة بباب واحد كقاعدة الطهارة فيكفينا وجود الدليل على ثبوتها ولا يحتاج في مقام اثباتها الى توفر الشواهد القطعية، بينما بعض القواعد الفقهية الأخرى كقاعدة الفراغ والتجاوز والتي نلتزم بجريانها في الأبواب الفقهية كافة فان ذلك يستوجب توفر الشواهد القطعية عليها والقاعدة محل البحث كذلك

وقد أشرنا ان الاعلام قد وسعوا دائرة جريان القاعدة ولم يلتزموا باختصاص جريانها بباب دون باب بل قد بنوا على تعدد موارد الجريان في أبواب متعددة وهذا يجعلها من القواعد الكبروية التي تحتاج الى شواهد قطعية

الشاهد الأول: ما يمكن ان يذكر الإشارة الى بعض الآيات القرآنية التي يمكن ان تصلح شاهدا على اثبات هذه القاعدة من ذلك قوله تعالى ﴿لكم دينكم ولي دين﴾[1] وتقريب الاستدلال بهذه الآية على المدعى ان يقال: لقد دلت الآية الشريفة على إقرار النبي الاكرم (صل الله عليه واله) الكفار على دينهم وذلك يعني ان كل اهل ملة ملتزمون بما التزموا به وان خالفوا الفرد المخاطب في ما يلتزم به فأهل اليهودية ملزمون بما يلتزمون به من احكام وكذا اهل النصرانية الخ

وان كان الطرف المقابل إليهم لا يلتزم بما يلتزمون به لكن يكونون ملزمين بما الزموا أنفسهم به ويكون للمخاطب الزامهم بما قد التزموا به فهذا مدلول الآية وهو عبارة عن إلزام كل فرد بما يلتزم ومن ثم ترتب الأثر على ذلك.

لكن لا يخفى عدم تمامية التقريب المذكور حيث ان الآية المباركة واردة في خطاب النبي الاكرم (صل الله عليه واله) مع كفار مكة ومقتضى ما ذكر في تقريب دلالتها الالتزام بجواز عبادة الاصنام وهذا مما لا يلتزم به أحد، فلابد ان يكون المقصود من الآية امر اخر غير هذا المعنى

والحق ان يقال: بان مفاد الآية المباركة والله تعالى اعلم هو استخدام المولى تعالى مع هؤلاء نوع من أنواع التحقير والتهديد يعني كأنه يقول لهم ابقوا على ما أنتم عليه وسترون ما يحل عليكم من البلاء والعذاب نتيجة بقائكم على ما أنتم عليه وسوف ترون ما ابلغتكم اليه، وعليه تكون الآية القرآنية اجنبية تماما عما نحن بصدده

ومع فرض عدم قبول ما ذكرت بان تقول ليس في الآية القرآنية قرينة من قريب او بعيد تشير ان الخطاب فيه تحقير او تهديد لهؤلاء بان بقائكم على ما أنتم عليه يقضي باستحقاقكم للعقوبة بل الآية واضحة أنتم تعملون على طبق ما تعتقدون وانا اعمل على طبق ما اعتقد فلا يكون في البين ما يمنع

أقول: يمكننا ان نمنع دلالة الآية القرآنية على ما تقررون بوجود محذوف مقدر في المقام بان يقال معنى الآية هكذا لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني ففي المقام كلمة الجزاء محذوفة وقدرة وهي متصيدة من خلال السياق القرآنية بملاحظة الآيات الأخرى، وان ابيت وقلت ان الأصل عدم التقدير لانه يحتاج الى كلفة ومؤونة وهي غير متحققة في المقام

قلت يمكن التمسك بالمدلول اللغوي لكلمة الدين فانه بحسب المعنى اللغوي بمعنى الجزاء فيكون معنى الآية ولكم جزائكم ولي جزائي فيكون المقام إشارة الى الجزاء وليس الى الدين، وان ابيت فيكفينا ان هذه ان نقول ان هذه الآية مجملة بعد تكثر الاحتمالات المتصورة عليها ما يصعب ترتيب أثر.

النتيجة ان الشاهد الأول الذي يمكن ذكره في المقام لأثبات المدعى اتضح عدم صلاحيته للدلالة على المطلوب

الشاهد الثاني: قوله تعالى ﴿لست عليهم بمصيطر﴾[2] تقريب الاستدلال بها ان يقال ان مفاد الآية انه لا مجال لأحد على أحد فلا يمكنه ان يسيطر عليه ليلزمه بما التزم به فلذا قبل الشارع المقدس من كل فرد حكمه على ما التزم به هو فيلزم به من خلال التزامه بذلك

جواب: ان الآية المباركة في مقام بيان ان النبي الاكرم (صل الله عليه واله) ليس له السيطرة على هؤلاء الكفار حتى يلزمهم على الدخول في الإسلام وليست الآية واردة في مقام الإقرار لأهل الملة على ملتهم ففرق بين موضوعين

ثانيا لو سلمنا بتمامية دلالة الآية بالتقريب المذكور للزم من ذلك محذور لا يمكن الالتزام به وهو إقرار الكفار على كفرهم والمفروض ان هذا ممنوع لا يقول به أحد لانه يلزم من ذلك لغوية الرسالة والبعثة

ثالثا لو رفعنا اليد عن الامرين السابقين وقبلنا تقريب دلالة الآية فان مدلولها مدلول قاعدة الإقرار وليس مدلولها مدلول قاعدة الالزام فان كل من ارتكب شيئا فيعامل على طبق اقراره الذي اقر به

الشاهد الثالث: قوله تعالى ﴿وما انت عليهم بجبار﴾[3] تقريب الدلالة ان يقال ان نفي الجبر عن النبي ص دليل واضح على افساح النبي ص لكل احد حرية القرار في اتخاذ المسلك الذي يريد وهذا من أوضح الشواهد على الزام اهل الملل السابقة بمللها

جواب: الآية المباركة ليست في مقام البيان من هذه الجهة أصلا وانما الآية في مقام التسلية والتسرية عن النبي ص لما يلاقيه من كفار مكة فتشير الى رسول الله ص فتقول له لست انت الا مبلغ لرسالة السماء ولست جبارا حتى تكون ملزم واخذ بالقوة وبالشدة للأخرين في ما يعتقدون وما يلتزمون وهذا يعني ان الآية اجنبية عن مدلول القاعدة

ثانيا سلمنا بدلالة الآية الا اننا نقول ان مفادها سيكون مفاد قاعدة الإقرار وليس الالزام وسيتضح مدى الفرق بين القاعدتين ان شاء الله

الشاهد الرابع: الآية المباركة قوله تعالى ﴿لا اكراه في الدين﴾[4] والمقصود بالدين عبارة عن عقيدة التوحيد وهي التي يتفق عليها جميع الأنبياء والمرسلين واوصيائهم، فسواء فسرنا الدين بمعنى عقيدة التوحيد او فسرناها بشريعة النبي الاكرم ص سيكون تقريب دلالة الآية هكذا

ان يكون المراد من الآية ان مسألة الدخول في الدين الإسلامي من الأمور الاختيارية ولا اكراه لشخص على لزومه بالدخول فان شاء ان يدخله او اختار غيره ومقتضى هذا التخيير قبول الشارع المقدس لما يتعبد به هؤلاء فعندها يلزمون من خلال ما يلتزمون به

وبعبارة أخرى تقريب دلالة الآية على المدعى من خلال مرحلتي أولهما اختيار الدين قضية ارادية اختيارية للأسنان، وثانيهما إذا انتخب الانسان دينا صار ملزما بأحكام ذلك الدين وأصبح مطالب بامتثال أوامره

جوابه: ان مفاد الآية هو ان اعتناق الإسلام ليس من الأمور الإلزامية بل هومن الأمور الاختيارية التي يدخل الانسان فيها بكامل ارادته واختياره وهذا أجنبي عن التقريب المذكور للاستدلال به على المدعى فالمقام مقام اختيار وببيان اخر للعلامة الطبطبائي يمكن مراجعتها في مسألة العقيدة اختيارية يمكن ان يعتقدها او لا

الشاهد الخامس: الآية المباركة قوله تعالى ﴿ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه﴾[5] لا أساس ان لا يكون المنع من قبول دين اخر منهم دليل على المنع من غيره فلا دلالة للآية على ترك ما يكون الانسان عليه من التعبد على ملة وان شأت قلت ان الآية تقول اذا انتخبت دين اخر غير الإسلام لن يقبل منك فانك غير مجبور على انتخاب الإسلام ولكن لو انتخبت غيره لن يقبل منك ومعنى ذلك سوف تكون ملزم بذلك الدين

أقول: الآية بهذا التقريب خلاف الفهم العرفي فان الظاهر منها والله اعلم رفض كل دين غير الإسلام وهذا يشير الى بطلان كل دين غير الإسلام والمقصود من الإسلام في المقام عبارة عن عقيدة التوحيد

الشاهد السادس: قوله تعالى ﴿وليحكم اهل الانجيل﴾ وقوله تعالى ﴿انا أنزلنا التوراة﴾ على أساس ان هاتين الآيتين ظاهرتان في ان الله تعالى قبل لكل اهل ملة بالعمل على طبق ملتهم والزامهم بذلك ليحكم اهل الانجيل يعني بأنجيلهم وهذا إقرار لأهل الانجيل بهذا الامر ولزام لهم وأيضا إنزال التوراة نوع من أنواع التعبد فيكون إلزام لهؤلاء من هذا الجانب، ولكن بان ان هاتين الآيتين لا تدلان على هذا المعنى بل هما اجنبيتان، اقصى ما تدلان إلزام المخالف والامر على خلاف هذا الجانب

توضيح ذلك اما الأولى ان اهل الانجيل يحكمون بحكمهم قبل ان ينسخ برسالة النبي الاكرم (صل الله عليه واله) ولا دليل في الآية على انه إلزام لهم بذلك وعلى التنزل والقبول فأننا نقرر ان الآية أقرب الى قاعدة الإقرار من قاعدة الالزام

اما بالنسبة الى الآية الثانية فهي واردة بخصوص الحكم المرتبط بأمة موسى ع وبيان ان الأنبياء الذين اطاعوا الله في العمل بذلك هم الذين أسلموا وليس لها مدخلية من قريب او بعيد بما نحن فيه بل لا ربط لها بما ذكر بالتقريب أصلا

ثانيا لو قيل ببقاء تلك الاحكام الموجود في التوراة فنقول ان مردها الى ما لم يحصل فيه نسخ من قبل الشريعة المحمدية على من جاء بها واله أفضل الصلوات والتحيات

والنتيجة ان شيء مما يذكر كشاهد قطعي على القاعدة من الكتاب الكريم لم ينهض للدلالة عليها وبذلك يكون هذا اول الموانع من قبولها.

واما بالنسبة الى السنة القطعية فليس فيها شيء يشير الى قاعدة الالزام أيضا حكم العقل على خلاف قاعدة الالزام فان العقل يحكم في مثل موارد المطلقة ثلاثا والتي يشك في انتفاء الزوجية وبقائها فان العقل يحكم بلزوم الاحتياط والتورع والموال التي يشكل في استحقاق الانسان لها وعدمه فان العقل يحكم بلزوم التوقف وهكذا فان العقل في هكذا موارد يحكم بالتوقف والاحتياط ويمنع من الاقدام، واما بالنسبة الى العقلاء فهم أيضا ليس لهم مرتكز على ذلك حتى يقال ان السيرة العقلائية شاهدة على قبولها.

فالنتيجة التي نخرج بها في المقام الثاني هي فقدان الشواهد القطعية المساعدة على دعم القاعدة واثباتها والتي توجب ارتقاء الامر للوثوق والاطمئنان بها وتطبيق العمل بها

ان قلت كما ذكره السيد السبزواري (قده) ان قاعدة الالزام هي قاعدة تسهيلية امتنانيه نظامية جارية في جميع الملل والأديان فهي معتبرة مالم يوجد ردع من الشارع المقدس منها ولذا نرى العقلاء يرتبون أثر على المعاملة الموقعة من قبل طرف قد اقر على نفسه بتمامية ذلك على وفق دينه وملته فتى ما وجد لهذه المعاملة المقتضي وفقد المانع رتب الأثر عليها وهذا شاهد على قاعدة الالزام

قلت حصل خلط عنده قده بين قاعدتي الالزام والاقرار فما افاده من تباني العقلاء وجريان ارتكازاتهم انما هو في خصوص قاعدة الإقرار دون قاعدة الالزام على انه لو قيل انه لا يوجد ارتكاز عقلائي حتى في جانب الإقرار لم يكن في ذلك ضير

والحاصل لا يوجد عندنا شواهد مساعدة على مثل هذه القاعدة وبالتالي هذا يصعب من الاعتماد عليها بل يمكن ان نقول بان الشواهد القطعية على خلاف القاعدة فانه مضافا لما ذكرناه بان مفادها مخالف لمفاد حكم العقل بلزوم التوقف والاحتياط توجد بعض الاخبار وان كانت احاد تصلح لتأييد عدم العمل بهذا الامر مثل رواية علي ابن حنظلة او رواية حفص ابن البختري او رواية عمر ابن حنظلة مما سيأتي ذكره عند الحديث عن مدرك القاعدة ان شاء الله.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo