< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الدليل الثاني

كان الكلام في حرمة الفعل الـمُتَجَرَّى به ، وقلنا أنه إستدل على الحرمة الشرعية بأدلة ذكرنا منها الدليل الأول بتقريبيه ، وتبين مما تقدم عدم تمامية كِلا التقريبين ، وبهذا نصل الى أنَّ الدليل الأول لإثبات حرمة الفعل الـمُتَجَرَّى به غير تام.

الدليل الثاني: التمسك بقاعدة الملازمة بَين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، إذ يُدعى وجود ملازمة بين حُكم العقل بالقبح وحكم الشرع بالحرمة ، وحيث أنَّ العقل يحكم بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به بحسب الفرض فلابد أن يحكم الشارع بحرمته .

وتمامية هذا الدليل تتوقف على إثبات أمور ثلاثة :

الأمر الأول : هو حُكم العقل بقبحِ الفعل الـمُتَجَرَّى به ، ولابد من إثباته لأنَّ موضوع الملازمة هو ما حَكمَ العقل بقبحه وباللازمة نُبثت حرمته الشرعية .

الأمر الثاني : تسليم الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، بمعنى أنَّ كل ما حكم العقل بقبحه لابد أن يحكم الشرع بحرمته.

الأمر الثالث : عدم وجود ما يمنع من تطبيق هذه الملازمة في محل الكلام ، حيث اُبرزت بعض الوجوه التي تعتبر موانع من تطبيق الملازمة في محل الكلام ، فلابد من إزاحة هذه الموانع حتى يتم هذا الدليل.

أما الأمر الأول _ وهو هل يحكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به أو لا _ فسيأتي البحث عنه قريباً في الأمر الثاني ، والآن نفترض بنحو الأصل الموضوعي أنَّ العقل يحكم بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به.

أما الأمر الثاني هل هناك ملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ؟

بمعنى أنَّ كل ما يحكم العقل بقبحه أو بحُسنه لابد أن يحكم الشرع بحرمته أو وجوبه حكماً شرعياً مولوياً ، الكلام عن هذه الملازمة تارة يقع بناءً على المبنى المشهور والمعروف الذي يقول أنَّ الحُسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع ، وليسا أمرين تشريعيين حَكَمَ بهما العقلاء.

العقلاء يحكمون بهما لكن لا يُراد بذلك إلا إدراكهما ، وهما أمران واقعيان في الأشياء ، فالعقلاء يدركون حُسن العدل وقبح الظلم ، لا أنَّ حُسن العدل تشريع من تشريعاتهم التي تبانوا عليها لحفظ النظام مثلاً ، بل العقلاء يدركونهما كإدراكهم سائر الأمور الواقعية الأخرى ، وهذا معناه أنَّ الحُسن في العدل أمرُ ثابت و واقعي بقطع النظر عن إدراك المدرك له وكذلك قبح الظلم ، وليس حُسن العدل وقبح الظلم من تشريعات العقلاء بحيث لا واقع لهما وراء تشريع العقلاء بل لهما واقع يدركه العقلاء ويرتبون الآثار على هذا الإدراك.

فتارة نتكلم عن الملازمة بناءً على المبنى المعروف والمشهور في المسألة ، وأخرى نتكلم على مبنى الفلاسفة والذي وافقهم عليه المحقق الأصفهاني كما تقدم ، الذي يقول أن الحُسن والقبح ليسا من الأمور الواقعية إطلاقاً ، ولا واقع لهما وراء بناء العقلاء وتطابق أراءهم ، فحُسن العدل وقبح الظلم مما تطابقت عليه أراء العقلاء ولولا ذلك لما كان العدل حسناً ولا كان العدل قبيحاً ، فهو يدخل في التأديبات الصلاحية والآراء المحمودة _ كما قرأنا في المنطق _ التي لا واقع لها وراء تطابق أراء العقلاء ، فإذن دور العقلاء بالنسبة الى الحُسن والقبح هو دور الـمُشرِّع لا دور المدرك إذ لا واقع لها وراء تطابق أراءهم وبنائهم ، فالكلام تارة على المبنى المشهور والمعروف وأخرى على المبنى الآخر ..

ونقدم الآن البحث عن الملازمة بناءً على الرأي الآخر ، فعلى هذا المبنى ذكر المحقق الأصفهاني _ الذي إختار هذا المبنى _ في بحث الإنسداد بأنَّ الكلام في الملازمة تارة يكون عن أنَّ ما يحكم العقل هل يمكن للشارع أن يحكم بخلافه أو لا ، هذا هو البحث الأول.

والبحث الثاني يتفرع على إختيار الإحتمال الثاني في البحث الأول ، إذا قلنا أنه لا يمكن أن يحكم الشارع على خلاف ما حكم به العقل فينفتح البحث الثاني ، وهل يحكم الشارع على وفق ما حَكَمَ به العقل أو لا ؟

وهذه مسألة أخرى ، فقد نقول أنَّ الشارع لا يحكم على خلاف ما يحكم به العقل ، ولكن هل يحكم الشارع مولوياً على طِبق و وِفق ما يحكم به العقل أو لا ؟

والبحث الثالث في الملازمة بالعكس ، أي الملازمة بين ما حكمَ به الشرع وما حكمَ به العقل ، بمعنى هل كل ما يحكم به الشرع لابد أن يحكم العقل على وفقه أو لا حكم له في موارد الحكم الشرعي ، هذا بحث ثالث.

وهذا الأخير ليس محل كلامنا ، لا نريد أن نتكلم عن الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي ، فإذا حكم الشارع بوجوب الصلاة هل يحكم العقل بحُسنها أو لا ؟ هذا ليس محل كلامنا ، كلامنا في الملازمة بين ما حكم به العقل هل يحكم به الشرع أو لا ، فإذا حكمَ العقل بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به هل يحكم الشارع بحرمته أو لا ؟

فالكلام يقع في مرحلتين :

المرحلة الأولى : في ما ذكره المحقق الأصفهاني ، هل يمكن للشارع أن يحكم بخلاف ما حكم به العقل أو لا ؟ هذه مسألة .

المرحلة الثانية : إذا قلنا لا يمكن أن يحكم الشرع بخلاف ما حكم به العقل ، فهل يحكم الشرع على طِبق ما حكم به العقل أو لا ؟ هذه مسألة ثانية .

أما المرحلة الأولى فقد ذكر المحقق الأصفهاني أنه لا يمكن أن يحكم الشرع بخلاف ما يحكم به العقل في موارد المدركات العقلية ، وإستدل عليه بأنَّ الحكم العقلي بحسب الفرض لا يختص به عاقل دون عاقل على المبنى الثاني _ مبنى الفلاسفة _ فكل العقلاء تطابقت آراءهم عليه ، ومن الواضح أنَّ الشارع هو أحد العقلاء بل رئيس العقلاء ، فإذن بما هو عاقل يرى ما يراه العقلاء ، فإذا رأى العقلاء حُسن العدل وقبح الظلم وحكموا بذلك فهو يرى ذلك أيضاً ، فكيف يُعقل أنَّ الشارع بما هو شارع يحكم بخلاف ما تطابقت عليه أراء العقلاء ، بمعنى أن يحكم بقبح العدل الذي تطابقت أراء العقلاء على حُسنه ، أو يحكم بحُسن الظلم الذي تطابقت أراء العقلاء على قبحه هذا غير معقول ، لأنّ المفروض أنَّها من التأديبات الصلاحية والآراء المحمودة التي تطابقت عليه أراء العقلاء كلهم فقد إفترضنا ضمناً الشارع منهم ، فهو أيضاً يرى حُسن العدل فكيف يحكم بحرمته !

لا يعقل أن الشارع يرى حُسن العدل ومع ذلك يحكم بحرمته ، أو يرى قبح الظلم ويحكم بوجوبه ، فنفس إفتراض أن هذا مما تطابقت عليه أراء العقلاء يستدعي أن يكون الشارع واحداً منهم وإذا كان كذلك فلا يُعقل أن يحكم بخلافهم.

والمحقق الأصفهاني صاغه على شكل برهان بما حاصله :

إنّ الحكم بالخلاف من قبل الشارع إما أن يكون مع بقاء الشارع حاكماً بما يحكم به العقلاء وإما مع إفتراض إنسلاخه عن هذا ولم يبقَ حاكماً بما يحكم به العقلاء ، وكلٌ منهما محال ، أما على الأول فلا يعقل أن يحكم بخلاف ما حكمَ به أولاً ، فإنه يحكم بحُسن العدل فيكفَ يحكم بخلافه وحرمته ، فإنَّ معناه أنه يحكم بقبح ما يراه حسناً أو يحكم بحسن ما يراه قبيحاً وهذا غير معقول.

وأما على الثاني _ تجرده عن ما يحكم به العقلاء _ فأصل هذا الإفتراض غير معقول لأن حيثية العاقلية للشارع أمرٌ ثابت لا يمكن إفتراض تجرده عنها ، فالنتيجة لا يمكن للشارع ان يحكم بخلاف ما يحكم بعه العقل .

وأما المرحلة الثانية فبعد الفراغ عن أنّ الشارع لا يمكن أن يحكم بخلاف ما يحكم به العقلاء يقع الكلام في أنه هل يحكم الشارع بما هو شارع على طبق حكم العقلاء أو لا ؟ وهذا هو الذي ينفع المستدل في محل الكلام ، فإذا ثبت أن العقل يحكم بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به يَثبتُ أنَّ الشارع يحكم بحرمته فيثبت المدعى ، هذه هي النقطة المهمة ، هل الشارع يحكم على طبق ما يحكم به العقلاء أو لا ؟

هنا ذكر المحقق الأصفهاني كلاماً يُفهم منه أنه يرى أنَّ الشارع لا يحكم على وفق ما يحكم به العقلاء بحسب مبناه ، بل يرى عدم إمكان أن يحكم الشارع حكماً موافقاً لما يحكم به العقلاء ، وذكرَ في مقام توضيح ذلك مقدمة فيها أمور :

الأمر الأول : أنَّ التكليف الشرعي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي عند المكلف للتحرك ، وهذا معناه في كل موردٍ يُعقل فيه إيجاد الداعي عند المكلف يكون التكليف فيه معقولاً ، وفي كل مورد لا يُعقل فيه إيجاد الداعي عند المكلف للتحرك لا يكون التكليف فيه معقولاً ، مثلاً في موارد عدم القدرة على الفعل لا يمكن إيجاد الداعي عند المكلف فالتكليف هنا غير معقول ، وأما إذا كان مقدوراً فيكون التكليف معقولاً.

الأمر الثاني : أنَّ التكليف الشرعي لا يمكن أن يكون محركاً _ أي خالقاً وموجداً للداعي _ على كل تقدير ولجميع المكلفين إلا بلحاظ ما يترتب على موافقته من الثواب وعلى مخالفته من العقاب ، هذا هو الذي يحرك جميع المكلفين وعلى جميع التقادير ، فالتكليف الذي فيه هذه الخصوصية يصلح أن يكون داعياً في جميع الأوقات ولجميع المكلفين ، أما إذا فرضنا تكليفاً لا يترتب عليه إلا المدح والذم ، فمثل هذا التكليف لا يصلح أن يكون داعياً للتحرك لجميع المكلفين وفي جميع الأوقات ، فمعظم المكلفين لا يتحركون عن تكليفٍ لا يترتب على مخالفته العقاب ، ويتحملون مجرد ترتب الذم من دون عقاب ، نعم يصلح لخلق الداعي في كثيرٍ من المؤمنين ، ولكن كثير من الناس لا يتحركون عن ذلك .

وبعد أن ذكر هذه المقدمة قال :

تارة نقول إنَّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو نفس إستحقاق المدح والذم دون إستحقاق الثواب والعقاب ، فمعنى تطابق آراء العقلاء على حُسن العدل وقبح الظلم هو تطابق آراءهم على إستحقاق المدح وإستحقاق الذم لا غير .

وأخرى نقول إنَّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو كلٌ منهما فالحَسن يستحق فاعله المدح والثواب والقبيح يستحق فاعله الذم والعقاب .

فإذا قلنا بالثاني فيكون الحكم العقلي كافٍ في الدعوة للتحرك من قِبل الشارع بإعتبار أنَّ الشارع من العقلاء والمفروض أنَّ أراءهم تطابقت على أنَّ العدل يوجب إستحقاق الثواب وأنّ الظلم يوجب إستحقاق العقاب ، ومعه لا مجال لجعل التكليف الشرعي لفرض حصول الداعي ، والتكليف على هذا التقدير لا يزيد شيئاً على تطابق آراء العقلاء ، ويكون ذلك محركاً للمكلف نحو الإتيان بالعدل وترك الظلم ، فجعل التكليف لغرض جعل الداعي في نفس المكلف لا مجال له ، بل هو تحصيل للحاصل وغير معقول.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo