< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي/ما يمنع من تطبيق كبرى الملازمة/دفع الإعتراض على تقريب السيد الخوئي.

كان الكلام في الإعتراض على تقريب السيد الخوئي للمنع من جريان الملازمة في محل الكلام ، وقلنا أنه يمكن التأمل فيه بإعتبار أنه يمكن أن يُدعى أننا لا نتعقل هناك داعوية ومحركية للتكليف الثاني ليست موجودة بقطع النظر عنه حتى يُقال أنَّ جعله معقولاً وله فائدة وثمرة فلا يكون جعله لغواً ، وذلك بإعتبار أنه لا إشكال في أنَّ المفروض في المقام وجود تكليف شرعي وهو أقيموا الصلاة أو يحرم شرب الخمر مثلاً ، وهذا التكليف يخلق عند المكلف الداعي للتحرك بلا إشكال ، وهذا الداعي يوجد بتوسط الحكم العقل بقبح معصية تكليف المولى وحسن طاعته ، فإذا فرضنا أنَّ شارع جعل تكليفاً شرعياً آخر _ كما هو المراد إثباته _ مفاده وجوب إطاعة أقيموا الصلاة لأنَّ العقل حكم بحسن إطاعته وحرمة معصيته ، لأنَّ العقل حَكمَ بقبح معصية أقيموا الصلاة ، فيراد إثبات التكليف الشرعي الثاني بالملازمة ، والكلام في أنه هل يترتب على التكليف الثاني داعوية جديدة ليست موجودة بقطع النظر عنه أو لا ؟ هذا هو محل الخلاف .

السيد الخوئي يقول لا يترتب عليه داعوية ومحركية جديدة ، والمعترض يقول تترتب عليه داعوية ومحركية ليست موجودة بقطع النظر عنه .

الصحيح هو ما يقوله السيد الخوئي ظاهراً ، لأنَّ داعوية التكليف الثاني إنما هي بتوسط حكم العقل _ كما هو الحال في كل تكليف شرعي _ بحسن الطاعة وقبح المعصية ، وهذا هو نفس ما فرضنا وجوده بقطع النظر عن التكليف الشرعي الثاني ، ففرضنا أيضاً وجود تكليف شرعي بإقامة الصلاة ووجود حكم عقلي بحسن إطاعته وقبح معصيته ، وهذا التكليف الثاني ماذا يصنع ؟

أيضاً يدعو الى إقامة الصلاة ، لأنه يدعو الى إطاعة التكليف الأول ويحذر من معصيته وهو يعني يجب الإتيان بالصلاة ، فهو يدعو الى الفعل والعقل يحكم بحسن إطاعته وقبح معصيته ، فما يثبت بالتكليف الثاني فُرِضَ وجوده بقطع النظر عنه ، وهو هناك حكم من قِبل الشارع وحكم من قِبل العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية ، فإذن هذا التكليف الثاني لا يزيد شيئاً على ما هو المفروض وجوده في محل الكلام

الشارع دعا الى الفعل والعقل حَكمَ بحسن إطاعة الشارع وقبح معصيته ، وما يحصل بالجعل الثاني هو نفس هذا وليس شيئياً جديداً لم يكن موجوداً ، لأنَّ داعوية الحكم الشرعي إنما هي بتوسط حكم العقل ، فالتكليف الثاني المفترض وجوده إنما يحرك بتوسط حكم العقل وهو نفس ما فرضنا وجوده بقطع النظر عن التكليف الثاني ، فالتكليف الأول يدعو الى إقامة الصلاة والعقل يحكم بحسن إطاعته وقبح معصيته والتكليف الثاني لا يضيف شيئاً جديداً ، ولذا يمكن أن يقال أنَّ التكليف الثاني يكون بلا فائدة ولا أثر له ومن هنا يكون لغواً كما يقول السيد الخوئي .

وأما دعوى أنَّ ما يترتب على التكليف الثاني غير ما فرض وجوده بإعتبار تعدد الملاك ، فالتكليف الذي فرض وجوده ثابت بملاك المصلحة والمفسدة في المتعلق ، والتكليف الثاني الذي يُراد إثباته بالملازمة يثبت بملاك حسن الطاعة وقبح المعصية لأنه يدعو الى وجوب إطاعة التكليف الأول وحرمة معصيته ، وبتعدد الملاك يُتصور وجود فائدة في التكليف الثاني لأنه يثبت نفس التكليف ولكن بملاك آخر فتعددت ملاكات الإستحقاق ويتأكد الإستحقاق وهذه فائدة ، فلا يكون جعل التكليف الثاني لغواً وبلا فائدة .

أقول : الظاهر أنَّ هذه الدعوى غير تامة ، بإعتبار أنَّ المفروض في المقام هو أنَّ السبب الرئيسي في جعل التكليف الثاني هو الحفاظ على ملاك التكليف الأول ، لماذا يجعل الشارع تكليفاً شرعياً بوجوب إطاعة أقيموا الصلاة وحرمة معصيته ؟

يجعله للحفاظ على ملاك التكليف الأول لأنَّه يهتم بهذا الفعل ويريد الحفظ عليه وإيجاده في الخارج من قِبل المكلفين، فكأنه يرى أنَّ مجرد حكم العقل بحسن إطاعة وقبح معصية هذا التكليف لا يكفي فلابد من إيجاد حكم شرعي بوجوب إطاعة هذا التكليف وحرمة معصيته ، فهذا التكليف الثاني المدعى السبب في جعله هو الحفاظ على ملاك التكليف الأول ، بمعنى أن الذي دعا الشارع لإيجاده هو إهتمامه بذلك التكليف والحفاظ على ملاكه فيجعل حكماً بوجوب إطاعة أقموا الصلاة وحرمة معصيته لتأكيده ، وهذا يعني لا يوجد تعدد للملاك وأنَّ ملاك التكليف الثاني هو نفس ملاك التكليف الأول ، فملاك التكليف الأول هو المصلحة في الفعل والشارع يُريد الحفاظ عليها والإتيان بها من قِبل المكلفين ، وما فيه مفسدة يُريد تجنبه من قِبل المكلفين ، ولأجل تأكيد هذا ولأجل ضمان إتيان المكلفين بالأول وترك المكلفين للثاني يجعل التكليف الثاني ويقول تجب إطاعة أقيموا الصلاة وتحرم معصيته ، فالغرض منه الحفاظ على ملاك الدليل الأول ، إذن الملاك واحد ودعوى تعدد الملاك صورية ليس لها واقع .

وبعبارة أخرى : إنَّ التكليف الثاني روحاً وملاكاً هو نفس الدليل الأول ولا يحصل به شيء جديد من محركية وداعوية لم يكن موجوداً بقطع النظر عنه .

نعم هذا الإعتراض يمكن إيراده على من يدعي لغوية جعل الحكم الشرعي المولوي في مورد الحكم العقلي الواقع في سلسلة علل الأحكام الشرعية _ وليس هو محل الكلام _ من قبيل إدراك المصالح والمفاسد الملزمة مع عدم وجود ما يزاحمها ، أو إدراك العقل لقبح الظلم وحسن العدل ، هنا قد يُدعى لغوية الجعل الشرعي لأنَّ الداعوية موجودة بحكم العفل بالقبح وهو كاف في تحريك المكلف لترك الظلم فلا مجال لأن يجعل الشارع حرمة شرعية للظلم ، فحينئذٍ يجاب عنه بهذا الإعتراض ويقال أنَّ الحكم الشرعي يحقق شيئاً جديداً ليس موجوداُ بقطع النظر عنه وهو الداعوية الشرعية ومن الواضح أنها غير داعوية العقل التي تدعو للتحرك بلا إشكال ، ولكن إذا أضيفت الداعوية الشرعية إليها تشتد وتتأكد لأنَّ الداعوية الشرعية غير الداعوية العقلية فلا يكون جعل الحكم الشرعي لغواً .

وأما في محل كلامنا _ وهو الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية _ فلا يرد هذا الإعتراض لأنه بلا فائدة ولا يحصل به شيء جديد مما هو موجود قبل فرض الحكم الثاني .

ومن هنا يظهر أنَّ ما ذكره السيد الخوئي من أن الملازمة _ على تقدير القول بها _ لا تجري في محل الكلام لوجود المانع وهو اللغوية وعدم الفائدة هو الصحيح

الى هنا يتم الكلام عن هذا التقريب ، وقلنا إنَّ هناك تقريبات أخرى أعرضنا عن ذكرها ، وبهذا يتم البحث عن الدليل الثاني لحرمة الفعل الـمُتجرَّى به .

عرض وتذكير :قلنا في أن بحث التجري يقع في مقامات :

المقام الأول : في حرمة الفعل الـمُتجرَّى به شرعاً.

المقام الثاني : في قبح الفعل الـمُتجرَّى به عقلاً.

المقام الثالث : في إستحقاق العقاب على التَجرِّي.

ولا زلنا في المقام الأول وهو حرمة الفعل الـمُتجرَّى به ، وقلنا اُستدل على الحرمة بأدلة :

الدليل الأول : التمسك بإطلاق الخطابات الشرعية ، وأنها لا تختص بالخمر الواقعي مثلاً وإنما تشمل مقطوع الخمرية ، وأجبنا عنه .

الدليل الثاني : التمسك بالملازمة بين حكم العقل بالقبح وبين حكم الشرع بالحرمة ، وهو ما أتممنا الكلام عنه.

الدليل الثالث : الإجماع ، فيدعى أنَّ هناك إجماع على حرمة الفعل الـمُتجرَّى به ، ولا يوجد في معاقد الإجماع هذا العنوان ، لكن يُدعى أنَّ هذا يُستكشف من إتفاقهم على حرمة الفعل الـمُتجرَّى به وإن لم يرد بعنوانه في جملة من الموارد .

ذكر الشيخ الأنصاري في الرسائل موردين نذكرهما تبعاً له :

المورد الأول : ما إذا ظن المكلف ضيق الوقت فلا إشكال في أنه يجب عليه البدار ، فلو فرضنا أنه تجرأ ولم يأتي بالصلاة مع إعتقاده ضيق الوقت فهنا حكموا بإستحقاقه العقاب وأنه آثم وإن إنكشف سعة الوقت وصلى ، ومن الواضح أنه لا وجه للحكم بإستحقاق العقاب وكونه آثماً إلا حرمة الفعل الـمُتجرَّى به لأنه لم يصدر منه إلا التجري ، فلماذا إستحق العقاب و عُدَّ آثماً ؟ لابد أن يكون ما قام به حراماً شرعاً.

المورد الثاني : ما إذا سافر سفراً يظن معه الخطر والضرر ، قالوا يجب أن يتم الصلاة لأنَّ سفره سفر معصية حتى إذا تبين الخلاف وأنه لا يوجد خطر ولا ضرر ، وإعتبار سفره سفر معصية لا وجه له إلا حرمة التَجري لأن هذا المكلف لم يصدر منه إلا التجري ، فمن الحكم بأنَّ سفره سفر معصية نفهم منه أنهم يلتزمون بحرمة التجري وإلا لما كان هناك وجه لإعتبار سفره سفر معصية وبالتالي لا وجه لوجوب الإتمام عليه ، هذا هو المورد الثاني .

الذي يلاحظ على هذا الكلام :

أولاً : أنَّ الإجماعات في موارد من هذه القبيل لا تشِكف عن حكم الشارع لأنها إجماعات محتملة المدركية ، فإن هذه المسائل لها مدرك عقلي وهي مسألة إستحقاق العقاب على التَّجري أو عدمه ، وهل يحكم العقل بقبحه أم لا ، ولعللهم إتفقوا على ذلك إستناداً الى المدرك العقلي ، كما لو كانوا يرون أنَّ العقل يحكم بقبح التجري وبالملازمة يثبت حرمة الفعل الـمُتجرَّى به فحكموا بإستحقاق العقاب والإثم في المورد الأول ، وحكموا في الثاني أنَّ سفره سفر معصية إستناداً الى هذا المدرك العقلي ، ومثل هذا الإجماع الذي له مدرك عقلي لا يمكن أن يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام ، الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم بشروطه هو الإجماع في المسألة الفقهية الشرعية التي لا يكون لها مدرك إلا الشارع ، فإذا أجمعوا على إختلافهم وإختلاف أماكن تواجدهم وإختلاف عصورهم وإختلاف إجتهاداتهم على شيء لا مدرك له إلا الشارع يشكف هذا الإجماع عن أنهم أخذوه من الشارع.

ثانياً : أنَّ الثابت في المورد الأول هو إستحقاق العقاب ، ولنفرض أنهم إتفقوا عليه ولكن من قال أنَّ إستحقاق العقاب يُلازم الحرمة هذا أول الكلام ، كيف نستكشف من إتفاقهم على إستحقاقه العقاب حرمة الفعل الـمُتجرَّى به ، لا نستكشف ذلك إلا إذا كانت هناك ملازمة بين إستحقاق العقاب وبين الحرمة ، والحال أنَّ إستحقاق العقاب على التجري لا يلازم الحرمة الشرعية حتى نستكشف حرمة التجري من إستحقاق العقاب ، قد يثبت إستحقاق العقاب من دون أن تكون هناك حرمة شرعية كما قلنا سابقاً في الموارد التي يكون الفعل قبيح ذاتاً فإن الشارع لا يرضى بصدور الفعل منه ولو لم تكن هناك حرمة شرعية ، فإذا صَدر منه فهو تمردٌ منه وخروج عن مولويته فيستحق العقاب ، فإستحقاق العقاب لا يلازم الحرمة الشرعية ، قد يكون هذا في بعض الموارد كما إذا فرضنا أنه لا يوجد ملاك لإستحقاق العقاب غير الحكم الشرعي ، وأما في الموارد التي يحكم العقل بإستحقاق العقاب فيها أو بقبحها ففي هذه الموارد لا ملازمة بين إستحقاق العقاب والحرمة ، هذا في المورد الأول .

وفي المورد الثاني الذي ذُكِرت فيه المعصية في مسألة السفر مع ظن الخطر والضرر ، وهذا التعبير بــــالمعصية مذكور في كلمات البعض لا في كلمات الجميع حتى يقال بالإجماع على المعصية فلابد أن يكون ما صدر من المتجري حراماً ، بعضهم لم يعبر بالمعصية ، ومن هنا يمكن أن يُقال لا إجماع على كونه معصية حتى نستكف من الفعل الصادر من المتجري الحرمة الشرعية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo