< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/10/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الخمس: مباحث تمهيدية

في أول هذه الدورة من السنة الماضية بيّنا المراد من موضوع بحثنا في هذه الدروس, فقلنا: أننا نبحث في مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي, وذكرنا المراد من معنى المفاتيح مع ذكرنا لسبب تسمية هذه المباحث بعملية الاستنباط دون عِلم الاستنباط, وبينا كذلك سبب تقييدها بالاستنباط الفقهي, كما أننا اشرنا سابقاً بأن هذه الأبحاث ليست من قبيل الأبحاث الفقهية المتداولة التي تبدأ بباب من الأبواب وتسير بدراسته كما هو المعتاد في المباحث الفقهية, وكذلك ليست هي دراسة في القواعد الفقهية, لأن القواعد الفقهية وطريقة البحث فيها مما هو واضح وجلي وذلك كما يقع في قاعدة الفراغ أو التجاوز أو غيرهما من القواعد, كما أن البحث غير مرتبط بالقواعد الأصولية بالمعنى المتداول والمتعارف, علما أننا نعتقد أن ما نتعرض له من الأبحاث سوف يشكل مزيجا من المسائل لكن ببعدها التطبيقي؛ فعندما نؤسس لقاعدة من القواعد, سنبحث حينئذٍ عن مدى تأثيرها في عملية الاستنباط في المسائل والأبواب الفقهية.

 قد حاولنا في العام الماضي أن نقف عند تأثير الشروط والظروف الزمانية والمكانية على ما كنا فيه من أبحاث.

 ونريد في هذا العام أن نتمم المسير الذي بدأناه في العام الماضي ونطبقه على مسألة الخمس لكن ذلك يتوقف على عدة مقدمات نذكر بعض منها على وجه الاجمال وهي: أن من أهم المقدمات التي ينبغي الوقوف عندها هو معرفة التشريعات الصادرة في الكتاب أو النصوص الواردة عن النبي وأئمة أهل البيت (ع) هل أنها على نحوٍ واحد من التشريع أم لا, وبيان الثمرة المترتبة على ذلك؟

 بعد ذلك ندخل لبحث الخمس لنعرف حقيقته ونوع الحكم فيه وأن الوجوب أو التشريع الثابت فيه من أي أنواع التشريع هو, فنحن نعلم أن هناك مجموعة من التشريعات غير قابلة للتغيير أو التبديل أو الزيادة والنقصان فعندما شرّع الرسول الصلاة الرباعية فليس لأحدٍ أن يغير في ذلك, كما لا دخل للزمان والمكان في تغيير مثل هذه الأحكام.

 وحيث أننا نجد أن هناك مجموعة من التشريعات صدرت من الرسول الأكرم لا بعنوان التشريع الأساسي في الشريعة, بل صدرت بعنوان الحكم الولائي؛ لتنظيم شؤون حياة المسلمين, فهل حال هذه الأحكام كحال التشريعات الأولية الأساسية الثابتة في الشريعة أم لا؟

 من الواضح أن هذا النوع يختلف عن النوع الأول من التشريعات؛ لأن هناك مجموعة من التشريعات قد صدرت من النبي باعتبار أنه قاضٍ في مسائل النزاع والخصومة, وهذا ما سنقف عنده تفصيلا حين بيان أنواع التشريعات الصادرة من الرسول وأئمة أهل البيت(ع) أو بعض ما ورد من هذه الأحكام في القرآن الكريم, حيث سينفعنا ذلك في باب تعارض الأدلة, فعندما يكون هناك تعارض لا بد أن نعرف أن هذا التشريع عندما صدر هل كان مشروطاً ومقيداً ببعض الشروط والقيود أم لا, فان كان كذلك فالتشريع الذي بعده متى يكون معارضاً له ومتى لا يكون كذلك, فمثلاً الخمس فيما زاد على مؤونة السنة هل هو حكم تشريعي كالصلاة والزكاة أم انه حكم ولائي صدر عن الائمة(ع).

 أما طرح مثل هذه القضية؛ فلأن الاعلام وجدوا أن مثل هذا الأمر لم يكن موجوداً في زمن الرسول ومن بعده من الائمة(ع) الى زمن الإمام الصادق(ع), حيث لا أثر في كلماته لا على مستوى التشريع ولا على مستوى الجباية, بخلاف ما هو موجود في مسألة الزكاة من الاهتمام بها والأمر بجبايتها, الذي يكشف عن تشريعها ووجودها في ذلك الوقت.

 وهذا ما شغل ذهن الفقهاء كثيرا, في انه لماذا أن مسألة الخمس لم نراها إلا في زمن الإمام الصادق(ع), وهذا ما أضطر البعض الى القول بأن الخمس قد شرع في زمن الرسول لكن بيانه وإظهاره أُوكل الى زمن الصادق(ع), وقال بعض آخر غير ذلك وهكذا..

 ولنا هنا أن نشير الى نموذجين فقهي وأصولي يظهر منهما تأثير الزمان والمكان في الحكم الشرعي, وهذا ما يمثل المحور الأساسي في عملية الاستنباط الفقهي, علما أن ذلك مشار إليه من بعض الاعلام لا انه مغفول عنه, لكنه لم يؤسس له على نحو نظرية متكاملة.

 فالمثال الفقهي هو فيما يتعلق بزيارة الإمام الحسين(ع), فحينما نأتي الى الروايات الواردة في ذلك نجد أنها تعرضت لجهاتٍ أربع هي:

 الأولى: وجود مجموعة من الروايات ظاهرة بأن الزيارة فريضة حالها كحال أي فريضة من الفرائض الأخرى, لكن لم يعين في ذلك عدد المرات التي ينبغي أن تكون عليها الزيارة, وحينئذٍ نرجع الى الأصول لنرى أن الأمر هنا دال على الوحدة أم التكرار.

 الثانية:

أن وجوب تلك الفريضة ثابت على نحوٍ حتى لو لزم منها الضرر وإلقاء النفس في التهلكة, بخلاف بقية الفرائض, فالحج مثلا نجده مشروط بتحقق الأمن وعدم الضرر وغير ذلك.

 الثالثة:

أن زيارة الإمام الحسين(ع) هي الأفضل أم زيارة الإمام الرضا(ع)؟.

 الرابعة:

أن الثواب المذكور في الروايات لهذه الزيارة بعضه يعادل حجة واحدة وبعضه يعادل تسعة أو عشرة حجات وهكذا.

 ولنا هنا أن نعالج الجهات الأربع المزبورة مع ذكر معالجات بعض الفقهاء لذلك:

 أما الجهة الأولى: الدالة على أنها فريضة, فالروايات في هذا المجال كثيرة منها:

 ما ورد في بحار الأنوار الجزء101, ص3 ففي هذا الباب يقول: إن زيارته واجبة مفترضة مأمورٌ بها وما ورد من الذم والتأنيب والتوعّد على تركها وأنها لا تترك للخوف ...الخ, وجملة من هذه الروايات معتبرة, لا أقل أنها إن لم تكن متواترة بالمعنى فهي مما يُطمئن بصدور بعض مضامينها, وذلك؛ لأن مبنانا في ذلك يختلف عن المبنى الذي يراه السيد الخوئي, فنحن نؤمن بالمزاوجة والجمع بين المنهج السندي والدلالي والمضموني.

 الرواية الأولى:

>عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه أفضل الصلاة والسلام) قال: مُرُ شيعتنا بزيارة الإمام الحسين (ع) إلى أن قال وزيارته مفترضَة على من أقر للحسين بالإمامة من الله (عزّ وجلّ)<.

 الرواية الثانية:

>عن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال: مُرُ شيعتنا بزيارة قبر الحسين فإنّ إتيانه مفترضٌ على كل مؤمن<.

 الرواية الثالثة:

>لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله لأنّ حق الحسين (ع) فريضة من الله واجبة على كل مسلم<. وروايات أخرى بهذا المضمون أيضاً.

 من هنا نجد أن بعض فقهائنا ذهب الى وجوب الزيارة, وذهب بعضهم الآخر الى القول بأن مثل هذه الروايات مخالفة للضرورة الفقهية المسلّمة بين المسلمين.

 فالرأي الأول: ذهب إليه جملة من أعلامنا الإخباريين كالعلامة المجلسي & حيث نراه يقول في ص10 من الجزء 101: >ثم اعلم أن ظاهر أكثر أخبار هذا الباب وكثير من أخبار الأبواب الآتية وجوب زيارته (ع) بل كونها من أعظم الفرائض وآكدها..., إلى أن يقول: ولا يبعُد القول بوجوبها في العمر مرةً مع القدرة, ـ باعتبار أن القدرة شرط عام موجود في كل تكليف وغير مختص بزيارة الحسين ـ وإليه كان يميل الوالد العلاّمة, وسيأتي التفصيل في حدّها ولا يبعُد القول به أيضاً والله يعلم<.

 أما الرأي الثاني: فذهب اليه بعض من فقهائنا الأصوليين وهو على خلاف ما قيل في الرأي الأول فنرى الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء في كتابه (الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطأ الأخباريين) يقول: >ومنها قولهم - أي الأخباريين- بوجوب زيارة سيد الشهداء لبعض أخبارٍ ظاهرها ذلك, وفيه أن ذلك على خلاف طريقة المسلمين فإن الواجب من السفر مقصورٌ عندهم على الحج, ثم يلزم على كلامهم أن وجوبه أشد من وجوب الحج لعدم توقفه على الاستطاعة ـ لقوله تعالى «لمن استطاع إليه سبيلا» أما وجوب زيارة الحسين فلا يوجد فيه مثل هذا الشرط ـ , فالروايات واضحة ومطلقة في المستطيع المالي وغيره ؛ لأن الوجوب بدني لا مالي, ولو قيل بالمالية للزم إلحاقه بالحقوق المالية الملازم للوازم أخرى يشير إليها كاشف الغطاء.

 وهذا الكلام مما أشار إليه صاحب الجواهر وابن إدريس والشهيد وجملة أخرى من الفقهاء الذين قالوا بعدم الوجوب.

 إلا أن ما ذكر ليس تاماً من الناحية الفنية, فلو فرضنا أن المسلمين عندهم ضرورة فقهية على عدم الوجوب, إلا أن ذلك لا يؤثر؛ لأن كثيراً من الأمور لا يوجد عليها ضرورة فقهية, بل أن الضرورة الفقهية قائمة أحياناً على خلافها, إلا أننا نراها واجبة.

 إلا أن المسألة قد طرحت عندهم بعنوان المستحب الأكيد مستفيدين ذلك من روايات الوجوب؛ حيث أنهم يرون أن بعض المسائل التي تأتي بلسان الوجوب, يراد لها الاستحباب المؤكد لا الوجوب نفسه, فان تمت هذه القرينة ثبت المراد وان لم تثبت فلابد من البحث عن دلائل أخرى لرفع اليد عن مثل هذه الظهورات.

 أما الجهة الثانية:

وهي التي أشارت الى الوجوب حتى لو لزم من ذلك الوقوع في الهلكة فالدال على ذلك من الروايات هو:

ما ورد في الجزء101, ص9 الرواية رقم31, المنقولة عن معاوية بن وهب وقبل أن أنقل الرواية لابد من أن أبين نكتةٍ مفادها: أن الروايات الخاصة لا تنقل إلا عن طريق طبقة محددة من العلماء الرواة, وهذا يكشف بدوره أن الائمة (ع) لم يكونوا يذكروا المسائل الخاصة لكل أحدٍ من الرواة, أما الرواية فهي: >عن معاوية بن وهب عن الصادق (ع) قال, قال لي: يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين لخوف, فإن من تركه رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعوا له رسول الله وعليٌ وفاطمة والأئمة (ع)<.

 فالحث الشديد الموجود في الرواية على الزيارة المراد تحقيقه حتى مع احتمال الهلكة لا ينسجم مع ما يذهب إليه الفقهاء من رأي, فنراهم في ذلك يقولون بأن مثل هذا السفر, سفر معصية, بل لا يجوز فيه حتى القصر في الصلاة, وهذا تخصيص لتلك الأدلة فلا بد حينئذٍ للتخلص من ذلك أن نحمل الأدلة على وجهٍ آخر؛ من هنا نجد أن المجلسي يقول: >لعلّ هذا الخبر بتلك الأسانيد الجمّة محمولٌ على خوف ضعيف<؛ لعدم وجود المخرج لذلك؛ لأن الضرورة الفقهية قائمة على أنه لا يجب, حينما يكون هناك خوف.

 وتمام هذا الوجه وعدمه مما سنعرض اليه مفصلا عند عرضنا للجهات الأربع, وحينها سنبين رأينا في ذلك.

 أما الجهة الثالثة من البحث:

وهي ما وقع الكلام فيها عن أفضلية أي الزيارتين, فوقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك, فذهب البعض الى أفضلية زيارة الامام الرضا(ع) على زيارة الحسين(ع) واستدل على ذلك برواياتٍ منها: ما ورد في البحار المجلد102 ص38: >عن ابن مهزيار قال: قلت لأبي جعفر(ع) جعلت فداك زيارة الرضا أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين (ع) فقال: زيارة أبي أفضل<, وذلك لأن أبا عبد الله الحسين يزوره كلُّ الناس- من الزيدية والإسماعيلية وغيرهم- أما الإمام الرضا(ع) فلا يزوره إلا الاثنى عشرية, وكذلك فأن من قال بالإمام الرضا فقد قال بباقي الأئمة , فلذا نراه(ع) ـ الجواد ـ يقول: > وذلك أن أبا عبد الله يزوره كلُّ الناس وأبي (ع) لا يزوره إلا الخواصّ من الشيعة< أي القائلين بالأئمة الاثني عشر (ع) أما الشيعة الزيدية أو الإسماعيلية فلا يزورونه.

 من هنا ذهب البعض إلى أفضلية زيارة الامام الرضا(ع) ومنهم السيد نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية ففي الجزء الرابع من كتابه ص263 نراه يقول: ومن هنا قال الجواد زيارة أبي أفضل من زيارة جدي أبي عبد الله الحسين لأن جدي يزوره كلُّ أحد وأما أبي فلا يزوره إلا الخاص من شيعتنا, وذلك أن الشيعة تفرقت فرق متعددة والخاص من الشيعة ـ الاثنا عشرية ـ هم الذين يزورون الإمام (ع).

 إلا أن ما عليه الرأي الأكثر هو أفضلية زيارة الإمام الحسين(ع) واستدل على ذلك بتفاضل الأئمة فيما بينهم, فقال المشهور أن أصحاب الكساء أفضل من باقي الأئمة(ع), الا أن الحق أن مسألة التفاضل بين الائمة لا تدل على ذلك؛ لأن فيها سبعة أقوال أو أكثر, فجعل البعض الامام الحجة في الأفضلية بعد أصحاب الكساء, بل حاول البعض أن يفضله على بعض أصحاب الكساء, والروايات في هذه المسألة متعددة ومختلفة وتحتاج الى مزيد بحث وتفصيل, وكونهم(ع) من نور واحد لا ينافي الروايات الثابتة القائلة بالتفاضل كرواية >وعلي وأبوهما خير منهما< فالقدر المتيقن أن علي ابن أبي طالب (ع) أفضل من جميع الأئمة (ع), بل أن بعض النصوص تقول: >وله ثواب أعمالهم<.

 أما ما يتعلق بأمر الزيارة فأني أعتقد أن المسألة نسبية وغير مطلقة, فتختلف من زمان الى زمان ففي زمان ما قد تكون زيارة الامام الرضا(ع) هي الأفضل لكن في زمان آخر قد تكون زيارة الحسين(ع) هي الأفضل وهذا ما ينطبق على زماننا هذا حيث أني أعتقد أن أفضل زيارة الآن هي للإمامين العسكريين(ع) وذلك لأن الظروف والشروط هي ما يقتضي ذلك في الوقت الراهن.

 أما الجهة الرابعة: وهي فيما يتعلق بثواب زيارة الحسين(ع) ففي البحار المجلد رقم

101 ص28 يوجد خمسة أحاديث في فضل زيارته(ع) نذكر بعض منها:

 الأول: > عن الرضا (ع) قال: إن زيارة قبر الحسين, , تعدل عمرةً مبرورةً متقبلة<.

 الثاني: >إن الحسين وكل الله به أربعة آلاف ملك... إلى أن قال فقلت له: بأبي أنت وأمي روي عن أبيك في الحج والعمرة قال: نعم حجة وعمرة حتى عدّ عشر <.

 الثالث: ربما يكون السائل في الرواية هو أحد أزواج الرسول حيث تقول الرواية >لماذا تحبه هكذا يا رسول الله, قال: ويلك كيف لا أحبه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني أما أن أمتي ستقتله فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجةً من حججي, قالـت: يا رسول الله حجةٌ من حججك؟ قال: نعم, وحجتين من ذلك, قالت: يا رسول الله حجتين منها؟ قال: نعم، وأربعة منها, قال, فلم تزل تزاده ويزيد ويضعّف حتى بلغ تسعين حجةً من حجج رسول الله بأعمالها<.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo