< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/10/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الخمس: أثر الزمان والمكان, والشروع ببيان أنواع التشريعات.

 ذكرنا في درس الأمس الجهات الأربع المتعلقة بزيارة الحسين(ع), وقلنا أن الاعلام قد اختلفوا في حكم هده الزيارة, ولنا أن نذكر مرة أخرى هذه الجهات التي هي:

 الأولى: انقسم فقهاؤنا في هذه الجهة الى قائلٍ بالوجوب مطلقا - في كل الأزمنة والأمكنة - والى قائل بالاستحباب مطلقاً .

 ونريد هنا أن نتكلم في العنوان الأولي, الذي على أساسه قال فقهاؤنا بالوجوب و الاستحباب مطلقاً, بغض النظر عن الظروف الحاكمة لتلك الزيارة في أنها مؤاتيةٌ كما في الأزمنة التي لا تمانع من ذلك أم غير مؤاتية كما في أزمنة بني أمية أو بني العباس أو أي حكومة تمنع وتقمع الزيارة.

 الثانية: إن القائل بوجوب الزيارة قال بذلك حتى مع وجود الضرر والوقوع في الهلكة,

أما القائل بالاستحباب فقال أن الزيارة مشروطة بعدم الضرر والهلكة.

 الثالثة: الخلاف الذي وقع حول أفضلية زيارة الحسين (ع) أم زيارة الرضا(ع), فمن قال بأفضلية زيارة الامام الحسين قال بذلك مطلقاً, ومن قال بأفضلية زيارة الامام الرضا قال بذلك مطلقا أيضاً. دون التوجه منهما الى الظروف والشرائط المحيطة.

 الجهة الرابعة: ما قيل عن ثواب الزيارة في أنها تعادل حجة أو حجتين أو أكثر من ذلك, فبعض الاعلام ربط ذلك الثواب بمعرفة الزائر للإمام الحسين(ع), فقال كلما كانت المعرفة بنحو أعلى كان الثواب بنحوٍ أكثر.

 وممن يذهب الى هذا المعنى العلامة المجلسي ففي كتاب البحار المجلد 101 ص44 يقول: (لعلّ اختلاف هذه الأخبار في قدر الفضل والثواب محمولةٌ على اختلاف الأشخاص والأعمال وقلّة الخوف والمسافة وكثرتهما فإن كل عملٍ من أعمال الخير يختلف ثوابها باختلاف مراتب الإخلاص والمعرفة والتقوى وسائر الشرائط التي توجب كمال العمل...الخ), فكلامه واضح في رجوع قسط من الثواب الى أحوال السائل وقسطه الآخر الى الظروف والشرائط المحيطة بالزيارة.

 بعبارة أخرى: لو فرضنا أن شخصا واحداً ذات معرفةً محددة بالإمام قد زاره في وقتين مختلفين من حيث الشرائط والظروف ففي وقتٍ كانت زيارته محفوفة بالمخاطر والأضرار, وفي وقتٍ آخر لم تكن زيارته كذلك, فهل يا ترى له نحوٌ واحد من الثواب؟

 القائل بالوحدة, يجرد الثواب عن الظروف والشرائط المحيطة بالزيارة, أما القائل بتعدد الثواب فليس كذلك.

 ويتبن بذلك أن المتعدد والمتغير هو الظروف والشرائط المحيطة لا شخص الزائر, وهذا الذي نريد الوقوف عنده كثيراً؛ لأنه يمثل المفتاح الرئيسي لفهم الكثير من المعارف الدينية,

 ولمعرفة تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع يمكن مراجعة كتاب الوافي للفيض الكاشاني حيث أنه عرض لذلك في المجلد الرابع عشر ص1483 بقوله: (وأما اختلاف الأخبار الواردة في مقدار فضل زيارته (ع) على الحجة والعمرة وغيرهما فتارةً ورد أنها تعدل حجة وأخرى أفضل من عشرين حجة وعشرين عمرة أو مائة أو ألف وغير ذلك, فلعلّ الوجه فيه اختلاف الناس في عرفان حقه وحرمته وتفاوت درجاتهم في إخلاص النية)فهو لا يربطها بالعوامل الخارجية وإنما يربطها بالشخص نفسه.

 ونحن نعتقد فيما يتعلق بهذا المورد وما يماثله أن الزيارة قد تكون واجبة في ظروفٍ معينة وقد تكون مستحبة في ظروف أخرى. علما أن المشخّص لذلك هو الفقيه والمتصدي.

 من هنا فأن الحكم بوجوب زيارة الحسين(ع) أو باستحبابها خاضع بطبيعته الى الوضع الحاكم آنذاك, فان أراد الحاكم إطفاء هذا النور تعينت الزيارة ووجبت وإن كانت محفوفة بالخوف والمخاطر, والتضحية حينئذٍ في ذلك تكون عنوانا للجهاد - الذي عادة ما تكون المخاطر واحتمالية القتل من لوازمه - والشهادة لا إلقاءً للنفس في التهلكة. أما القول بالاستحباب فهو في الموارد التي لا تكون كذلك.

 والقول بالوجوب مع احتمال القتل والمخاطر لا يتنافى مع قاعدة لا ضرر ولا ضرار وذلك لأجل الحفاظ على ضرورة مهمة من الدين.

 أما الجهة الثانية من البحث: فكلامنا فيها عين الكلام المتقدم في الجهة الأولى فالظروف والشرائط هي المحددة لذلك فلو كانت الظروف حاكمة لوجوب الزيارة لحفظ تلك الضرورة فلا إلقاء في التهلكة, بل أن العنوان والمورد سيكون من موارد الجهاد.

 أما الجهة الثالثة: فنقول أن تعيين الأفضلية خاضع لما نعقتده من مبنى, فالظروف قد تحكم بأفضلية زيارة الحسين(ع) تارة, وأفضلية زيارة الرضا(ع) أخرى, والكلام جارٍ في كل الزيارات.

 ومما يؤيد ما نذهب إليه ما ورد عن عبد العظيم الحسني, قال: (قلت لأبي جعفر(ع) - الجواد- قد تحيّرت بين زيارة قبر أبي عبد الله (ع) وبين قبر أبيك بطوس فما ترى؟ فقال لي: مكانك, ثم دخل وخرج ودموعه تسيل على خديه فقال زوار قبر أبي عبد الله كثيرون وزوار قبر أبي بطوس قليل), فالواضح من كلامه أن الشرائط والظروف هي التي جعلته (ع) يقول بزيارة الامام الرضا (ع) لا زيارة الحسين(ع), أما لو غضضنا النظر عن الظروف والاعتبارات المحيطة لكان الحكم بالأفضلية تابع لتفاضل الائمة فيما بينهم(ع).

 ومما يؤيدنا فيما نعتقده - أن الظروف والشرائط هي الحاكمة في تعيين الأفضلية-, الطباطبائي التبريزي, وذلك في تعليقٍ له على كلام السيد نعمة الله الجزائري وذلك في المجلد الرابع من الأنوار النعمانية, ص263 بقوله: (هذا ما أدى إليه نظر المصنف - الجزائري - تمسكاً بظاهر الحديث المذكور ودلالته باعتبار التعليل المذكور فيه على استحباب زيارة الرضا على زيارة الحسين ولكن من يمعن النظر إلى هذا الحديث ويتأمل تأملاً صادقاً فيه مع لفت النظر إلى الأحاديث الأخرى يظهر له أن هذا الاستحباب ليس على إطلاقه, بل في زمانٍ قلّ فيه زائر الإمام الرضا, ورغَب عنه الناس لبعض العوارض الطارية والعلّل الحادثة كما في بعض الأحاديث التي أشرنا إليها, إذن فلا منافاة بين الحديث المذكور في المتن - الدال على أفضلية زيارة الإمام الرضا- وبين ما يدل على أفضلية زيارة الحسين (ع) إذا خلت عن الاعتبارات الطارية والأحوال العارضة... إلى أن يقول: مما تقتضيه الظروف والأحوال وأوضاع الزمان وصروف الدهر ومن هنا نعرف أن هذا لا يختص بزيارة الرضا, بل يعمّ زيارة كل إمام, وتستدعي خصوصية الأزمان فإن زيارته وقت إذ أفضل من زيارة من يَفْضُلُه عليه, وزيارته على زيارته فما فضيلة زيارة واحد من الأئمة بمؤونة ما يضم إليها من الاعتبارات والخصوصيات... إلى أن يقول: فما فهمه المصنف كغيره من أفضلية زيارة الرضا على زيارة الحسين مطلقا من غير تقييدٍ بما يظهر من مجموع الروايات كما ذكرنا, فهو على خلاف ما يقتضيه النظر الدقيق).

 أما الجهة الرابعة من البحث: لاشك أنها قد اتضحت من خلال البيان الذي تقدم, حيث أن تعدد الثواب كما أنه مرتبط بمعرفة الزائر للإمام(ع), كذلك هو مرتبط بالظروف والشرائط المحيطة, فكلما كانت الظروف أكثر تعقيد وأشد مخاطرا كان الثواب أعظم, وكلما كانت أقل من ذلك كان الثواب أقل بالتأكيد.

 ولنا أن نتساءل هنا أن الاحكام المتعلقة بالزيارة الصادرة من الرسول(ص) أو الائمة(ع) بغض النظر عن اختلافها وتنوعها هل هي من قبيل الاحكام التشريعية الأصلية كالصلاة والحج والصوم, أم أنها صدرت منهم (ع) باعتبارهم ولاة للأمر؟

 الجواب على ذلك يتوقف على بيان أنواع التشريعات الصادرة عنهم(ع), حيث أننا سوف نبين أن الاحكام الصادرة عن الرسول أو الائمة ليست على شكل ونوع واحد, بل أن سنخ أحدها يختلف عن حقيقة سنخ التشريع الآخر, فالأحكام الصادرة بالعنوان الولائي تختلف عن الاحكام الصادرة بأصل التشريع.

 أما أنواع التشريع فهي:

الأول:

هي التشريعات الصادرة من النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) والتي تُعد جزءاً من الدين, فعندما نريد أن نعدد الاحكام نقول هي من قبيل: وجوب الصلاة والصوم والحج, وحرمة الكذب والغيبة والنميمة والربا وغير ذلك من الاحكام الثابتة في القرآن والتي بين تفاصيلها, وحدودها, وشرائطها, وأركانها, النبي (ص) والائمة(ع).

 ولنا أن هنا أن نبين نكتة مفادها: أن السنة الشريفة من أفعال وأقوال وتقريرات الرسول وأئمة أهل البيت هي المبينة المفصلة والمبينة للدين, وما دل على ذلك من الآيات قوله تعالى: «وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحي

» وهنا بحث كلامي يفيد: بأن الآية تكلمت عن النطق فقط, فكيف يمكن تعميم ذلك ليشمل الفعل والتقرير؟

 نقول في ذلك على وجه الاجمال أن القرآن الكريم يقول: «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» فهل الحرمة هنا متعلقة بالأكل فقط, أم أنها شاملة لكل التصرفات المتعلقة بذلك, خصوصا إذا ما عرفنا أن بعض الأموال ليس مما يؤكل؟

 الحق أنها شاملة لكل ذلك, أما ذكره للأكل فلأنه أوضح المصاديق في ذلك, والكلام هو الكلام في النطق وذلك لأنه أوضح من الفعل والتقرير في عالم التشريع.

 فالرسول الأعظم قد أخبر عنه القرآن الكريم بأنه: «وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحي» والذي هو كذلك - أي لا ينطق ولا يفعل ولا يقرر إلا عن وحي يوحى - قال له القرآن في سورة النحل «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم» والمراد بالذكر في الآية الكريمة هو القرآن الكريم.

 فرسول الله(ص) لابد أن يبين لنا ما نُزّل إلينا من الذكر, ولا بد حينئذٍ أن نلتزم بكل التعاليم التي يبينها لنا من أوامر ونواهي, بل الطاعة في ذلك لازمة؛ لقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وقوله: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول». وحول هذه الآية وقع بحث كلامي مفاده: إنه لماذا تكررت الإطاعة للرسول دون أولي الأمر؟

 نقول: هناك أبحاث مفصلة وأجوبة متعددة لهذه الاشكالية تُطلب من مضانها إلا أننا نذكر بعض الوجوه لذلك على وجه الاجمال:

 الأول: أنه كرر ذكر الاطاعة للتأكيد, إلا أن هذا الجواب غير مقبول؛ لأن الأصل في ذلك هو التأسيس لا التأكيد.

 الثاني:

أن الاطاعة لا تكون إلا للمشرع, فذكرت الآية بعد طاعة الله طاعة الرسول(ص).

 وهذه الكلام متعلق بنكتة سوف نبينها في بحث الغد إنشاء الله حيث سنبين أن التشريعات الصادرة من الرسول هل هي بيانٌ لما نزل به الوحي أو أنه هو المشرع لها من دون إبلاغٍ وتنزيلٍ من الوحي, أي أن التشريع الصادر منه (ص) هل هو حاصل بسبب ولايته التشريعية دون دخل الوحي بذلك؟ وهل أن ذلك في الحقيقة ثابت له (ص), وحين ثبوته له هل ينتقل الى الائمة المعصومين الذين من بعده, أم أن ذلك من مختصات النبوة, ولو فرضنا ثبوت ذلك فهل تشريع الرسول والائمة كالتشريع الثابت بالأصل أم أنها تشريعات ولائية قابلة للتغير والتبديل, كما أننا لا بد أن نلتفت الى التشريع الصادر من الرسول لمعرفة نوعه وتشخيص حقيقته لأن التشريعات يختلف حقيقة بعضها عن البعض الآخر , وهذا ما سنذكره مفصلا في قادم الابحاث.

 فالقرآن الكريم لكي يبين عظمة طاعة الرسول نراه يقول: «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله» و«ومن يطع الرسول فقد أطاع الله» وبهذا الصدد كثير من الآيات.

 أما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة كذلك, منها:

 ما جاء في مسند أحمد المجلد الحادي عشر, ص57, رقم الرواية6510 (عن عبد الله بن عمر بن العاص قال كنت أكتب شيء أسمعه من رسول الله(ص) أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله(ص), ورسول الله(ص) بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا, فأمسكت عن الكتاب, فذكرت ذلك لرسول الله(ص) فقال: أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق).

 و يستفاد من الرواية أمران:

الأمر الأول:

أن كل ما صدر من النبي(ص) هو حق, وهذا من الثابت عندنا دون شكٍ أو ريب.

الأمر الثاني:

أن النبي(ص) كان يأمر بالكتابة, وهذا يلزم منه أن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد كتبا في حياته(ص).

 ومما ورد في ذلك أيضا ما جاء في صحيح سنن الترمذي قال: (ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عنّي وهو متكأ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدناه فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه, وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله).

 ونختم حديثنا لهذا اليوم بالمقولة التي أسس لها الخوارج في صدر الإسلام التي تقول (كفانا كتاب الله) التي لم يقل بها أحد من المسلمين سواهم, وهذه المقولة ينقلها البربهاري في كتابه شرح السنة بقوله: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة), ونجد مثل هذه الآراء قد انتشرت في الآونة الأخيرة داخل الوسط الشيعي, فنرى البعض لا يقبل بشيءٍ من الموروث الروائي الموجود؛ معللا ذلك إما بضعفه أو دسه أو مجهوليته, وهذا الاتجاه في الحقيقة غير صائب وصحيح؛ وذلك لأن السنة الشريفة هي المكمل والمتمم للقرآن الكريم, ولا يمكن تصور أحدهما بدون الآخر (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا..), فالاعتقاد بالقرآن دون العترة والسنة اعتقاد باطل, كما أن الاعتقاد بالعترة والسنة دون القرآن باطل أيضاً, والصحيح هو الذي يعتقد بجميع ذلك.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo