< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/10/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الروايات الدالة على التشريع النبوي ق2

 تعرضنا في حديث الأمس الى أنواع التشريعات, فذكرنا مجموعة من الروايات الدالة على وقوع التشريع من النبي(ص) ونريد اليوم استعراض ما بقي من تلك الروايات الدالة على ذلك, إلا أننا لا قبل الشروع في ذلك لا بد أن ننوه الى حقيقة مفادها: ربما يتساءل البعض بأن ما عرضنا له بالأمس, من بيانٍ لأنواع التشريعات هو ليس من مسائل الفقه ليبحث في أبوابه؟

 نقول أن ذلك لا يهمنا كثيرا, وذلك لأن هذه التساؤلات ناشئة بسبب عدم معهوديتها في الابحاث الفقهية التقليدية, علما أننا نرى كثيراً من المسائل تبحث في أبوابٍ لا تمت لها بصلة من قريب أو بعيد كمسألة الحسن والقبح الكلامية وحجية القطع المبحوث عنهما في علم الأصول.

 لذلك فأن الملاك الذي نعتمده لبحث مثل هذه المسائل هو: أن البحث في عملية الاستنباط الفقهي إذا توقف على معرفة مسألة من المسائل فلا شك أننا سوف نبحثها بحثا مفصلا حتى لو كانت تلك المسألة خارجة عن حقيقة الموضوع المعقود من أجله البحث.

 أما ما تبقى من الروايات الدالة على وقوع التشريع من النبي فهي:

 الرواية الأولى: ما ورد في فروع الكافي المجلد الخامس ص9: (عن فضيل بن عَيَاض قال سألت الصادق(ع) عن الجهاد أسنة هو أم فريضة ؟ فقال الجهاد على أربعة أوجه، فجهادان فرض ، وجهاد سنة لا تقام إلا مع الفرض ، وجهاد سنة ، فأما أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله عز وجل وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض، وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلا مع فرض فان مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب وهذا هو من عذاب الأمة، وهو سنة على الامام وحده أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم، وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنها إحياء سنة ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شئ).

 الفيض الكاشاني(ره) في ذيل هذه الرواية في كتاب الوافي المجلد 15, ص58 يقول: (الفريضة ما أمر الله به في كتابه وشدّد أمره, والسنة ما سنّه النبي(ص) وكلاهما واجب, وليس بتلك المثابة من التشديد, يعني أن فرض الله أشد من فرض نبيكم وسنة نبيكم).

 والمفهوم من كلامه (ره) أن الفروض المشّرعة من قبل الله تعالى غير قابلة للتسامح أو التغيير بخلاف الفروض الثابتة عنه(ص) فان ذلك ممكن فيها, وهذا من أهم الأجوبة المفسِّرة والمبيِّنة للتساؤل عن الفرق بين التشريعين ـ بعد فرض كونهما دالان على الوجوب ـ .

 الرواية الثانية: ما ورد في فروع الكافي أيضا, المجلد الرابع ص379 الحديث السابع: (سألت أبا عبد الله الصادق عن رجلٍ طاف بالبيت أسبوعاً طواف الفريضة ثم سعى بين الصفا والمروة أربعة أشواط ثم غمزه بطنه فخرج فقضى حاجته ثم غشي أهله, قال: يغتسل ثم يعود فيطوف ثلاثة أشواط ويستغفر ربه ولا شيء عليه قلت فإن كان قد طاف بالبيت طواف الفريضة فطاف أربعة أشواط ثم غمزه بطنه فخرج فقضى حاجته فغشي أهله, فقال: أفسد حجه وعليه بدنه ويغتسل ثم يرجع فيطوف أسبوعاً ثم يسعى ويستغفر... الى أن يقول: قال قلت: كيف لم تجعل عليه حتى حين غشي أهله قبل أن يفرغ من سعه كما جعلت عليه هدياً حين غشي أهله قبل أن يفرغ من طوافه, قال: إن الطواف فريضة وفيه صلاة, والسعي سنة من رسول الله, قلت: أليس الله يقول: «إن الصفا والمروة من شعائر الله»

قال بلى ولكن قد قال فيهما «ومن تطوع». فعلل (ع) الفرق بينهما بالتطوع, أي: لو كان السعي فيهما كالطواف لما عبر عنهما بقوله «ومن تطوع ».

 ولذا العلامة المجلسي يقول: أن الطواف مأمور به في القرآن, بخلاف السعي فأنه وإن ذكر في القرآن إلا أنه لم يُؤمر به من الله تعالى, بل أن من أمر به رسول الله (ص).

 الرواية الثالثة: ما ورد في فروع الكافي المجلد الثالث ص272, (عن زرارة قال أبو جعفر: فرض الله الصلاة وسن رسول الله عشرة أوجه, صلاة الحضر والسفر, وصلاة الخوف على ثلاثة أوجهٍ, وصلاة كسوف الشمس والقمر, وصلاة العيدين, وصلاة الاستسقاء والصلاة على الميت) ويتضح من خلال هذه الرواية أن هذه الصلوات مما يتسامح فيها لأنها من السنن التي سنها رسول الله (ص) وحالها كحال الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية التي أضافها رسول الله (ص).

 وتبين مما تقدم أن للرسول (ص) شأن آخر غير شأن الإبلاغ والبيان وهو التشريع. وبذلك يتضح معنى التبيين في قوله تعالى «لتبين للناس ما نزّل إليهم» أنه غير مختص بالتبليغ فقط, بل شامل للتشريع أيضاً.

 وبعد إن اتضح هذا الأصل لا بد أن نجيب على مجموعة من التساؤلات أهمها:

 الأول: هل الزيادات التي صدرت من النبي الأكرم بأمر من الله تعالى أم لا؟ فان كانت بأمر من الله فلا فرق حينئذٍ بينها وبين ما شرع الله, وإن قلنا ليست بأمر الله فكيف ينسجم هذا مع قوله تعالى«وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى»؟

 نقول: أن ما شرعه الرسول ليس بأمرٍ من الله, إلا أن ذلك لا يتعارض مع إرادة الله ومشيئته, وغير منافٍ لقوله تعالى «وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى», وذلك لأن المراد من الوحي هنا هو الاجازة والاقرار لما فعله الرسول (ص), لأن قوله وفعله حقٌ لا شائبة فيه.

 الثاني: ما هي جهة الاشتراك والامتياز بين هذين النحوين من التشريع؟

 نقول جهة الاشتراك هي: أن كلا التشريعين على حدٍ واحدٍ من ناحية الامتثال ولا فرق بينهما, فكما يجب الالتزام لامتثال النحو الأول, كذلك يجب الالتزام لامتثال النحو الثاني.

 وكذلك أن كليهما جزء من الشريعة ولا فرق في جزئية أحدهما عن الآخر, فحينما نريد أن نعد أجزاء الشريعة, نعد التشريع الصادر من النوع الأول والثاني على حد سواء دون أي فرق بينهما.

 أما جهة الاختلاف والامتياز فهي: عدم التسامح والتساهل في أحكام النوع الأول ـ الإلهيةـ , والتسامح والتساهل في أحكام النوع الثاني ـ النبويةـ .

 وبذلك يتبين أن الأحكام الولائية الصادرة من النبي(ص) وأهل البيت(ع) ليست جزءً من أجزاء الشريعة الأساسية كما هو الحال في النحو الأول والثاني, فحينما نريد أن نعد أجزاء الشريعة وأحكامها وقوانينها لا نعد منها الاحكام الولائية وقوانينها؛ لأنها ليست من سنخ تلك الاحكام, وهذا ما جرى في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) فمن عدها من الاحكام الولائية, لا يعدها حينئذٍ من الأجزاء الأساسية للشريعة.

 ولنا حينئذٍ أن نتساءل: أن الخمس هل هو من النوع الأول أم الثاني أم الثالث؛ لأن النتائج والثمرات إنما تترتب عندما نعرف أيَ نوعٍ من أنواع التشريع هو, فهل هو: من التشريع الإلهي الذي لا يتبدل ولا يتسامح فيه, أم أنه من التشريع النبوي الذي يمكن ذلك, أم أنه ليس من هذين التشريعين, بل من الاحكام الولائية الخاضعة في تشريعها للشرائط والظروف المعينة.

 ويتبين من خلال الفرق بين أنواع التشريع معنى الروايات الواردة في سهو الركعات في الصلاة والسعي في الحج وغير ذلك, ومما ورد بهذا المجال: الرواية الواردة في أصول الكافي, كتاب الحجة, باب التفويض الى رسول الله ص266 الحديث الرابع: يقول: (الله فرض أحد عشر ركعة ورسول الله أضاف عليها ستة ركعات, فأجاز الله (عزّ وجلّ) له ذلك, فصارت الفريضة سبعة عشر ركعة, ثم سن رسول الله النوافل, أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله (عزّ وجلّ) له ذلك والفريضة...الى أن يقول: وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان, وسنّ رسول الله صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثليّ الفريضة فأجاز الله (عزّ وجلّ) له ذلك وحرم الله (عزّ وجلّ) الخمر بعينها وحرم رسول الله المسكر من كل شراب فأجاز الله, وعاف رسول الله أشياء وكرهها ولم ينهه عنها نهي حرامٍ إنما نهى عنها نهي إعافةٍ وكراهة ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيي وعزائمه, إن الله يحب أن يؤخذ برُخصه كما يؤخذ بعزائمه, ولم يرُخص لهم رسول الله فيما نهاهم عنه نهي حرامٍ ولا في ما أمر به أمر فرضٍ لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام, لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول الله لأحدٍ تقصير الركعتين... الى أن يقول الامام: فوافق أمر رسول الله أمر الله ـ وهذا يدل على أنه (ص) »ما ينطق عن الهوى« أي: كل ما يقوله مطابق للواقع ونفس الأمرـ ونهيه نهي الله (عزّ وجلّ) فوجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى).

 الثالث:

هل أن التشريع الثابت له (ص) هو من اختصاصاته أم أنه شامل لأوصيائه (ع), علما أننا نرى كثيرا من الأمور مختصة به(ص) كصلاة الليل وغيرها من المسائل؟

 نقول: أن الأصل في ذلك هو الاختصاص, إلا إذا قام دليل على الخلاف, إلا أن هناك نوعين من الأدلة يدلان على الشمول هما: الأدلة العامة والأدلة الخاصة.

 وتفصيل الحديث فيهما متروك الى بحث الغد إنشاء الله.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo