< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/10/24

بسم الله الرحمن الرحیم

أدلة شمول التشريع للائمة المعصومين (ع)

 كان الكلام في التساؤلات التي عرضنا لها في درس الأمس ووصل بنا المقام الى التساؤل الثالث الذي كان مفاده: هل أن الشأن الثابت للنبي (ص) في التشريع مختص به أم أنه شامل للأئمة الذين من بعده, وقلنا إجمالا في مقام الجواب بأنه يوجد عندنا أدلة عامة وأدلة خاصة على شمول أهل البيت بذلك, ونريد اليوم أن نبين أن الأدلة التي تدل على ذلك يمكن تقسيمها الى أدلة تدل على الشمول لبعضٍ من الائمة (ع), وأخرى تدل على الشمول للجميع.

 ولا بأس بالإشارة الى أن هناك بحثاً كلامياً مفاده: أنه إذا ثبت شأنٌ لأحد المعصومين (ع) فهل يثبت لغيره من الائمة أم لا؟ تفصيل ذلك موكول الى الابحاث الكلامية المختصة.

 أما الأدلة التي دلت على ثبوت هذا الشأن لغير رسول الله فمن أهمها:

 الآية61 من سورة آل عمران قال تعالى: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين* فمن حآجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين». ويوجد في هذه الآية عدة أبحاثٍ منها:

 الأول: التفسيري, فيقال هنا كيف يصح أن يطلق الجمع في الآية ويراد المفرد, وهذه من أهم الاشكالات التي استشكل بها على الآية الكريمة, أي: كيف يطلق لفظ نسائنا ويراد في ذلك السيدة الزهراء فقط؟ ومن الاشكالات كذلك ما يقال أن إطلاق لفظ النساء في لفظ(نسائنا) لا ينسجم مع إرادة البنت, حيث لا علاقة في اللغة بين النساء والبنت؟

 والجواب على هذين الاشكالين ليس من محل بحثنا وإجابتهما موكولة الى الابحاث اللغوية والعقدية فيطلبا من هناك.

 أما فيما يتعلق بالآية الكريمة فقد اتفقت كلمة علماء المسلمين بأن رسول الله (ص) عندما خرج الى المباهلة قد أخذ معه علي وفاطمة والحسن والحسين والروايات الواردة في ذلك كثيرة, منها:

 الرواية الأولى: ما ورد في صحيح مسلم, الجزء الرابع ص213 ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال لي معاوية ما منعك أن تسب أبا تراب فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله فلن أسبه, لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حُمر النعم سمعت رسول الله يقول له وخلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان, فقال له رسول الله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي, وسمعته يقول لأعطين الراية - يوم خيبر- رجلاً يحب الله... إلى أن يقول: فتطاولنا لها فقال ادعوا لي علياً إلى أن جاء ولما نزلت هذه الآية «فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبناءكم» دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: فقال: اللهم هؤلاء أهلي...) ومعلوم في اللغة بأن هذه ـ اللهم هؤلاء أهلي ـ من أهم موارد الحصر.

 ووردت هذه الرواية في سنن الترمذي بتحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد ناصر الألباني اللذان يعدان من أكبر علماء المدرسة السلفية المعاصرة.

 ووردت رواية أخرى مفصلة بهذا المجال في سنن الترمذي تحقيق الارنؤوط في المجلد الخامس ص251 حيث يقول: ( عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (ص) علي وفاطمة فقال: هؤلاء أهلي...الخ), ولم يستطع الارنؤوط مناقشة هذه الرواية, علما أنه قد ناقش كل الروايات الواردة في سنن الترمذي وعلق عليها.

 وغير ذلك الكثير من الروايات الدالة على هذه القضية, إلا أننا نشير الى ما ذكره الارنؤوط في مسند أحمد, الجزء الثالث ص160 يقول حيث يقول عنها: إسناده قوي على شرط مسلم, وأخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي وابن عاصم والبزار والحاكم الشاشي والطبراني في الكبير الى عشرات الطرق. ولا بد أن أبين حقيقةً مفادها: أن الخبر الواحد الصحيح حجة في العقائد عند كثيرٍ من علماء المذهب السلفي المعاصرين منهم, وبعضٌ من السابقين.

 أمّا ما يتعلق بهذه الرواية عند الشيعة فهي واردة بعشرات المصادر, فأشار إليها السيد الطباطبائي في الميزان المجلد الثالث وذلك في ذيل الآية 61 من آل عمران ص231 بقوله: وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر فقد رواه الشيخ في أماليه ورواه أيضا...الى أن يقول: ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بأسانيده...الخ.

 فتبين أن الرواية متفق عليها عند جميع المسلمين, الا أننا مع ذلك نجد محمد عبده الذي يعد من ابرز أقطاب النهج الأموي في كتابه تفسير المنار, المجلد الثالث ص282 حينما ينقل كلامَه تلميذُه محمد رشيد رضا بقوله: قال الأستاذ الإمام: الروايات متفقة على أن النبي(ص) اختار للمباهلة علياً وفاطمة ووليديهما, ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط, ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة, ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة ونساءنا لا يقولها العربي ويريد منها بنته...الخ.

 وما سار عليه محمد عبده سار عليه سلفي آخر معاصر هو محمد بن صالح العثيمين في ذيل الآية 61 من سورة آل عمران بقوله: فقال بعض المفسرين أن المراد بقوله بـ (أبناءنا) الحسن والحسين, وبـ (نساءنا) فاطمة بنت الرسول، وبـ (أنفسنا) علي ابن أبي طالب, فيكون العدد أربعة غلي والحسن والحسين فاطمة, أما هؤلاء... إلى أن يقول: وهذا القول لا شك أنه مخالف لظاهر الآية, والموافق له ما ذهب إليه محمد رشيد رضا في تفسيره المنار من أن المراد بنسائنا نساء المؤمنين وأنفسنا رجال المؤمنين, الا أن أكثر المفسرين يختارون القول الأول, لحديثٍ ورد في ذلك... الى أن يقول: وقال إن الآية لا تنطبق عليهم لكن الحديث الوارد في ذلك يدل على أن لها أصلاً ولا شك أن آل البيت يدخل فيهم هؤلاء الأربعة, لكنه انطباقه ـ هؤلاء الأربعة ـ على الآية في النفس منه شيء.

 والدخول في هذا البحث تفصيلا يخرجنا عن محل البحث, لكننا لا بد أن نشير الى نكتتين:

 الأولى: أن مصداق الآية علي وفاطمة والحسن والحسين وليس الآية مفسرة بهم, وهذا مما يقع فيه الخلط كثيرا.

 الثانية: أن الأديب الزمخشري الذي هو دون شكٍ أدق من محمد عبده والعثيمين بعد أن يذكر هذا الأمر بشكل تفصيلي وينقل الروايات المؤيدة له, يقول: وفيه دليلٌ لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء.

 ويتضح من خلال ما تقدم أن كل ما ثبت لرسول الله من الشؤون ثابت لمن هو نفسه ـ أمير المؤمنين ـ, الا ما خرج بالدليل ( لا نبي بعدي) التي هي من شؤون النوة أو خاتم النبيين والمرسلين.

 وأريد الاشارة هنا الى البعض الذي يقول بأحقية الأول للخلافة لصحبته رسول الله(ص) مستدلا لذلك بقوله تعالى «إذ يقول لصاحبه لا تحزن», نقول أن الآية ليس فيها دلالة على ذلك, فلم يبقَ سوى الروايات لإثبات هذه الدعوى وحينئذٍ نقول من الأولى بالخلافة من بعد رسول الله نفسه أم صاحبه؟ والجواب أوضح من الشمس في رابعة النهار, بالاضافة الى دلالة قوله تعالى «وأنفسنا»

ولا تحتاج في دلالتها على أحقية أمير المؤمنين بالخلافة الى كثيرٍ من التأمل.

 أما القسم الثاني من الروايات التي تحدثت عن أن هذا المقام غير مختص بالرسول, بل هو ثابت للأئمة (ع) كذلك, فهي متعددة, منها:

 الأولى: ما ورد في بحار الأنوار المجلد الأول ص241, كتاب العلم, الحديث 32 الرواية:

 (قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق(ع) فسألته عن مسألة فأجابني, فبينا أنا جالس إذ جاء رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني, ثم جاءه رجل آخر فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ففزعت من ذلك وعظم علي فلما خرج القوم نظر إليّ فقال يا فلان كأنك جزعت قلت: جعلني الله فداك إنما جزعت من ثلاثة أقاويل في مسألة واحدة فقال: يا ابن أشيم إن الله فوض إلى سليمان ابن داود أمر ملكه فقال «هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب» وفوض إلى محمد(ص) أمر دينه فقال: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وإن الله تبارك وتعالى فوّض إلى الأئمة منّا وإلينا ما فُوض إلى محمد(ص) فلا تجزع) ومضمون الرواية واضح جلي في دلالته على أن ما فُوض إلى رسول الله فقد فُوّض لأئمة أهل البيت (ع)).

 الثانية: ما ورد في أصول الكافي, كتاب الحجة باب التفويض إلى رسول الله والأئمة (ع) والرواية طويلة الذيل نكتفي بما نريده في المقام: (دخلت على أبي عبد الله الصادق(ع)فسمعته يقول إن الله (عزّ وجلّ) أدب نبيه على محبته فقال «وإنك لعلى خلق عظيم» ثم فوض إليه فقال (عزّ وجلّ) «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي وأئتمنه فسلمتم وجحد الناس فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله (عزّ وجلّ) ما جعل لأحدٍ خيراً في خلاف أمرنا).

 الثالثة: ما ورد في بصائر الدرجات, الجزء الثاني ص 237 الحديث1364 (إن الله أدب رسوله ثم قال: فما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلينا).

  وبهذا يتبين أن هذا الشأن غير مختص بالرسول (ص), بل شامل للائمة(ع), وبذلك يتفتح لنا باب جديد من المعرفة المتعلقة بتشريعات أهل البيت (ع) وخصوصياتها وضوابطها.

التساؤل الرابع:

هل أن هل أن هذا الشأن ـ التشريع ـ الثابت للنبي وأهل البيت ثابت لغيرهم أم لا؟

 نقول: أن شأن التشريع ـ الثابت بعنوان أنه جزءٌ من الشريعةـ الذي ثبت له(ص) ولهم (ع),لم ولن يثبت لأحدٍ غيرهم أبدا, سواء في ذلك قلنا بولاية الفقيه أم لا.

 علماً أن هذا الشأن قد ثبت في البدء لله, لكن بدليل الاطاعة ثبت للرسول وآل البيت ويدل على ذلك:

 أولا: النصوص الواردة وهي كثيرة, من أبرزها:

 ما ورد في بصائر الدرجات, الجزء الثاني ص242: (قال أبو عبد الله (ع) لا والله ما فوّض الله إلى أحدٍ من خلقه إلا إلى رسول الله(ص) وإلى الأئمة عليه وعليهم السلام).

 ثانيا: أن الأصل في التشريع ثابت لله فقط, إلا إذا قام دليل على الخلاف, وقد قام الدليل على ذلك, لكنه منحصر بالرسول وآل البيت.

 وبهذا يتم الكلام عن القسم الأول و الثاني من التشريعات ووصل بنا الكلام الى:

 القسم الثالث: وهي التشريعات الصادرة من الرسول(ص) أو الامام(ع) بعنوانه إماما وقائداً للمسلمين لا بعنوان أنه مبلغا أو مشرعاً للأحكام الثابتة في الشريعة, و يعبر عن هذه الأحكام ـ القسم الثالث ـ بالولائية أو السلطانية أو الحكومتية.

 ومن أهم ما يميز هذه الاحكام, أنها لا تعد جزءً أو حكماً ثابتاً في الشريعة, وهذا ما لم ينوه إليه الكثير من فقهائنا أعلى الله مقامهم, فلم يبينوا لنا الاحكام الصادرة الثابتة ـ التي هي جزء من الشريعة ـ عن الاحكام التي هي ليست كذلك.

 وهذا ما نجده عند علمائنا حينما يبحثون قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار) حيث لم يبينوا لنا أي قسم من التشريعات هي, فهل هي من القسم الأول أو الثاني أو الثالث من التشريعات, وهذا ما يترتب عليه الأثر الكبير, فإنها إن كانت من القسم الأول فسوف تكون حاكمة على كل المسائل الفقهية التي يمكن فيها الضرر, أما لو كانت من القسم الثالث فلا يمكن أن تكون حاكمة على أي مسألة من مسائل القسم الأول.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo