< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/11/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الاحكام الولائية وما يلاحظ عليها ق2

 عرضنا في حديث الأمس الى مجموعة من الأسئلة وكان من أهمها:

 الأول:

ما يتعلق بالإمامة السياسية للرسول وأهل البيت ويعدّ هذا التساؤل من أهم الاسئلة التي وقع فيها البحث في المعارف العقدية والفقهية, حيث يترتب عليه كثيرٌ من الآثار.

 أما الآثار التي تترتب على البعد الكلامي والعقائدي نترك البحث فيه الى محله.

 أما الآثار التي تترتب على البعد الفقهي فأهمها هو: أنه إذا ثبت أن للنبي شأناً وراء شأن التشريع والنبوة والرسالة, فلابد لنا حينئذٍ أن نعرف تلك التشريعات التي صدرت منه(ص) باعتباره إماماً وقائداً لا مشرعاً ومبلغاً عن الله.

 ولا يخفى أننا قد بينا بالأمس أن منصب النبوة والرسالة قد جعلا للنبي(ص) من قبل الله تعالى فهما في حقيقة الأمر أمران تشريعيان لا يمكن أن يتحققا بدون الجعل والتنصيب, وليس للعلم وعلو المقام دخل في ذلك ما لم يحصل التنصيب منه عز وجل.

 ولنا حينئذٍ أن نتساءل هل جعلت الإمامة السياسية للنبي الأكرم(ص) أم لا؟

 قد يقول قائل كما بينا بالأمس: أن وظيفة النبي بيان التشريع والتبليغ فقط, دون إقامة الدين بين الناس وحثهم على تطبيقه ـ أي أن الإمامة السياسية غير ثابتة للنبي ـ, فللأمة الاختيار في الامتثال وعدمه وليس من حق النبي أن يسعى الى تحقيق ذلك بالقوة والإكراه.

 إلا أن هذا الكلام غير سديد لما دل من الآيات على ثبوت الإمامة السياسية له(ص), ومن أهمها:

 الآية 124 من سورة البقرة:« قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ», فيمكن أن نستفيد من الآية عدة مباحث هي:

 الأول:

«قال إني جاعلك» تكشف الآية الكريمة وبوضوح على أن الإمامة مجعولة من الله تعالى شأنها في ذلك شأن النبوة والرسالة كما بينا. ولا دخل للأمة في تحقيق ذلك تعيينا أو انتخابا.

 الثاني: أن الإمامة عهد وشأن إلهي فحسب, ولا دخل للأمة في ذلك, وهذا ما دلت عليه بعض النصوص الواردة عندنا, فعن أمير المومنين(ع) قال:( قال لي ـ أي رسول الله ـ إن الله أمرني بولاية علي فولايته ولايتي وولايتي ولاية ربي, عهد عهده إليّ ربي الخ...).

 أما من يحتج بآية «وأمرهم شورى بينهم» فهو في الحقيقة جاهل لا يفرق بين الشأن الإلهي وشأن الأمة.

 الثالث: أن الإمامة التي جعلها الله لإبراهيم باقية في ذريته لا تخرج عنها الى قيام الساعة ـ في فرض بقاء ذريته ـ لكن ضمن الشرط الذي حدده الله وهو عدم الظلم «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»

وهذا خير دليل على وجود الإمامة واستمرارها الى حيننا هذا, ويدل على ذلك الكثير من الروايات الصحيحة, علما أنه لا يوجد أي دليل على وجود الإمامة في ذرية أخرى غير ذريته(ع).

 من هنا يمكننا أن نجيب على ما يثار: من أن الآية غاية ما تدل عليه ثبوت الإمامة لإبراهيم(ع) ولا يمكن الاستدلال بها لا ثبات إمامة أهل البيت(ع), فلا توجد للآية أي علاقة بذلك؟

 نقول: أن استدلالنا بالآية مبتنٍ على أن الإمامة مستمرة في ذرية إبراهيم(ع), ولم يكن استدلالنا قائم على أن الآية فيها دلالة على إمامة أهل البيت(ع).

 الرابع: «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»

أي أن الظالم لا يمكن أن يكون إماما في الإمامة الابراهيمية, والمراد بالظالم هنا هو كل من صدر منه ذنب ولو لآنٍ ما, وهذا يكشف بدوره عن أن الامام لابد أن يكون معصوما لكي يستطيع أن ينال الإمامة الإبراهيمية.

 وهذا المعنى فهمه علماء كلا المدرستين, أما علماء مدرسة أهل البيت فالمحققون منهم أجمعوا على أن الآية دالة على العصمة.

 أما المدرسة الأخرى فمن أبرز علماءها الذين فهموا هذا المعنى وأشاروا إليه الفخر الرازي فبعد ذيل هذه الآية المباركة قال:(فإن قيل ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة قلنا: أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً, وأما نحن فنقول مقتضى الآية ذلك, إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة)؛ وذلك لعلم منه أن اعتبار الباطن سوف يطيح بكل أمرٍ ومؤامرة حدثت بعد وفاة الرسول(ص).

 وفي المقام بيان لطيف ينقله العلامة الطباطبائي عن بعض أساتذته للاستدلال بالآية على العصمة مفاده: أن الناس على أربعة أنحاء ـ بحسب التقسيم العقلي ـ من حيث الإيمان والكفر هي:

 أولاً:

أن يكون الشخص ظالماً من أول حياته الى آخرها.

 ثانياً:

أن يكون الشخص في أول حياته غير ظالم وفي آخرها ظالمٌ.

 ثالثاً:

أن يكون الشخص في أول حياته ظالم وفي آخرها ليس كذلك.

 رابعاً:

أن يكون الشخص غير ظالم من أول حياته الى آخرها.

 ولا شك أن إبراهيم(ع) لا يمكن أن يطلب الإمامة لمن ينطبق عليه النحو الأول والثاني, أم النحو الثالث فقد اسقطته الآية الكريمة لتحقق الظلم منه في بداية الحياة, فلم يبق إلا النحو الأخير الذي هو معنى العصمة.

 أما الآن فنريد أن نقف على العصمة التي جعلت لإبراهيم لنعرف حقيقتها ومعناها ويوجد في ذلك عدة احتمالات هي:

 الأول: أن يكون المراد من الإمامة في الآية« إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»

الرسالة, أي: جاعلك رسولا, وهذا الرأي غير سديد ولا تدعمه الأدلة, بل أنها على خلافه وذلك:

 1ـ أثبت التأريخ أنه كان في آخر حياته.

 2ـ أن المخاطبة حصلت بعد أن ثبتت له النبوة والرسالة.

 الثاني: أن يكون المراد من الإمامة في الآية« إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»

القدوة والأسوة, أي جعلتك أماماً ليقتدى بك, وهذا الرأي غير صحيح أيضا؛ لوجود التلازم بين النبوة والقدوة لقوله تعالى: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة», فلا معنى حينئذٍ لأن يكون إبراهيم نبياً لا يقتدى به.

 الثالث: أن يكون المراد من الإمامة في الآية« إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»

واسطة الفيض الإلهي, أي: إن الله سبحانه وتعالى حينما يريد أن يفيض على أحد من عباده فإن ذلك الفيض لا يمكن أن يصل للعبد مباشرة, بل بواسطة المعصوم, فإبراهيم هو واسطة الفيض في وقته وزمانه.

 وهذه النظرية وشواهدها التفسيرية يحتاجان الى فهم عميق ودقيق نشير الى موضعين يمكن تحصيل ذلك من خلالهما:

 أولاً: في كلمات السيد الطباطبائي(ره) لأنها من ابتكاراته ولم أجدها بحسب تتبعي الخاص في كلمات غيره من الاعلام.

 ثانياً:

تعد هذه النظرية من أهم أصول ومفاتيح تفسير السيد الطباطبائي(ره), ففي الجزء الرابع عشر في ص304 في ذيل الآية 73 من سورة الأنبياء وهي قوله تعالى «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات» يقول:(فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم, في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أن النبي رابطٌ بين الناس وبين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي وتنشر منه وبتوسطه الى الناس وفيهم, والإمام دليل هاد للنفوس الى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس الى الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة الخ...).

 ويشير الى نفس هذا البحث في الجزء الأول في ذيل هذه الآية المباركة ص 272 حيث يقول: (فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم).

 وهذه الاحتمالات الثلاث الآنفة الذكر لا تنفعنا بشيء في المقام, من هنا نجد إنكاراً لثبوت الإمامة السياسية للرسول(ص), ـ وإن أمكن أثباتها من خلال بعض النصوص أو الأدلة كآية المباهلة وحديث الغدير( من كنت مولاه فهذا علي مولاه)ـ ؛ وذلك لأنهم يعلمون جيداً أن ثبوت الإمامة السياسية لرسول الله(ص) يلازم ثبوتها لأمير المؤمنين(ع), فما كان منهم إلا أن يقولوا بعدم ثبوتها للرسول(ص), بل فسروا قول النبي( أولى بالمؤمنين من أنفسهم) بأن الأولوية هنا هي بمعنى المحبة والمودة والطاعة وبيان الاحكام الى غير ذلك من الأمور حتى يتخلصوا بذلك من وصول الإمامة السياسية ـ الثابتة للرسول ـ الى أمير المومنين(ع).

 ويتضح من خلال ما تقدم أن الطريق الوحيد لإثبات الإمامة السياسية للائمة الأطهار هو ثبوتها لرسول(ص) وحينئذٍ يمكن القول بأنها يمكن أن تثبت لفقهاء عصر الغيبة أما مع عدم ثبوتها للأئمة فثبوتها للفقهاء من ضرب المحال لا محالة.

 الرابع: أن يكون المراد من الإمامة في الآية« إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»

الإمامة السياسية, أي: إقامة الدين وفرض حدود الله سبحانه تعالى بين الناس.

 ومؤدى هذا الاحتمال لم أجده, إلا في كلمات السيد عبد الأعلى السبزوراي(ره), ففي كتابه مواهب الرحمان في تفسير القرآن, المجلد الثاني ص10 يقول:(والإمامة هي الزعامة الإلهية والرئاسة الربانية على الناس, والإمام هو القوة المجرية لأحكام الله تعالى, وتدبيراته في خلقه من حيث التشريع, فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية ولا ريب أنها أعلى مقامات الإنسانية أمين الله تعالى في خلقه, وأمين الخلق بينهم وبين الله فلابد أن يكون أعلم الناس بأحكام الله وأتقاهم وأعقلهم وأسوسهم في ترتيب أمور العباد وتنظيم البلاد بما يفاض عليه من الله تعالى كما في نبينا الأعظم وإبراهيم...الخ) من هنا يعلم أن إبراهيم(ع) في البدء كان مأمورا بإبلاغ الشريعة ثم بعد ذلك وكما تكشف هذه الرواية قد اُمر بتطبيق الشريعة والسعي الى إقامة حدودها.

 وللكلام تتمة.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo