< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/11/03

بسم الله الرحمن الرحیم

قرآءة في معنى الامامة الوارد في الآية وما يلاحظ عليه

 تكلمنا في حديث الأمس عن معنى الامامة الوارد في قوله: «إني جاعلك للناس إماما

قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» وقلنا يوجد في ذلك احتمالات أربع:

 الأول والثاني: أن يكون المراد من الإمامة الرسالة وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين من السنة, أو القدوة والأسوة, وهذان الاحتمالان باطلان بكل تأكيد وذلك:

 1ـ للقرائن اللغوية.

 2ـ للقرائن التاريخية..

 3ـ للقرائن المضمونية.

 4ـ للقرائن الخارجية الروائية.

 فالقرائن اللغوية من قبيل ما أشار إليه جملة من اللغويين بقولهم: أن لفظ إماما الوارد في الآية مفعول ثانٍ لقوله جاعلك, واسم الفاعل ـ جاعلك ـ لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي, بل أن عمله منحصر فيما إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال, فيفهم من الآية أن ذلك وعدٌ له بالإمامة, اُعطيَ إياه بعد ثبوت النبوة والرسالة له.

 مضافاً إلى ذلك فأن التأريخ أخبر وبوضوح أن الامامة أعطيت لابراهيم(ع) في آخر حياته, وما يؤيد ذلك قرينة «ومن ذريتي»؛ فأنه إذا لم تكن له ذرية فلا معنى لأن يطلب الإمامة لذريته, فطلبه الامامة لذريته دليل على وجود الذرية الكاشف عن كبره وثبوت الرسالة والنبوة له.

 ومن أهم تلك القرائن, القرائن الخارجية الروائية: وهي الروايات الواضحة بمؤداها التي أنبئت عن إعطاء الإمامة لإبراهيم بعد مقام العبودية والخُلة والرسالة والنبوة فلما جمعها الله له قال:«إني جاعلك للناس إماما}.

 ونصوص الروايات في المقام متعددة منها: الرواية التي وردت في أصول الكافي الجزء الأول ص426 (سمعت أبا عبد الله الصادق(ع) يقول: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولا وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماما, فلما جمع له الأشياء قال «إني جاعلك للناس إماما». فالإمامة غير النبوة و الرسالة جزماً.

 ونعتقد كذلك أن الامامة في الآية ليس بمعنى الأسوة والقدوة؛ لأنهما من لوازم النبوة والرسالة؛ فلا معنى حينئذٍ لأن يكون نبي من أولي العزم وهو غير قدوة وأسوة لأمته وأتباعه.

 لذا نجد السيد الطباطبائي(ره) يقول: (ولا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا) لأن هذا من تحصيل الحاصل.

 الثالث: أن يكون المراد من الإمامة هي الإمامة التكوينية المرتبطة بعالم «إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» فالسيد الطباطبائي يعتقد: أن الإمامة هنا هي الإمامة التكوينية, الملكوتية, الباطنية, التي لا علاقة لها بعالم التشريع والإمامة السياسية.

 لذا نراه بشكل واضح يقول: (لا معنى لأن يقال للنبي أنك رئيس تأمر وتنهى في الدين أو وصي أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله) فهذا مما لا معنى له في الآية ولأنه من لوازم النبوة والرسالة كما بينا.

 أما دليل السيد الطباطبائي على أنه المراد من الامامة في الآية هي الامامة التكوينية هو: لا يخفى على كل متتبع لمباني السيد الطباطبائي انه يعتمد في منهجه التفسيري تفسير القرآن بالقرآن من هنا وعندما أتى الى الآية «إني جاعلك للناس إماما» ووجد بعدها بآيتين آية أخرى تقول: «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا» والأمر في هذه الآية بحسب اعتقاده هو: «إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» فيتبين حينئذٍ أن المراد من الأمر هنا هو ما يتعلق بعالم التكوين لا التشريع.

 الرابع: أن يكون المراد من الامامة في الآية الامامة السياسية وهذا ما ذهب إليه السيد السبزواري ـ كما بينا بالأمس ـ وفسر لنا ذلك بقوله: ( هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية, ولا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية...الى أن يقول: فلابد أن يكون أعلم الناس أتقَ الناس أعقل الناس وهذا كما في نبينا الأعظم وإبراهيم...الخ). الا أنه (ره) لم يذكر الأدلة والشواهد المؤيدة لدعواه.

 ومن خلال البيان المتقدم لمعنى الامامة التكوينية والتشريعية, يتضح الخلط وعدم الدقة التي وقع فيهما الشيخ مكارم الشيرازي عندما أراد تفسير الامامة السياسية, وذلك في تفسيره الأمثل الجزء الأول ص263 حيث قال: (الإمامة بمعنى تحقيق المناهج الدينية بما في ذلك منهج الحكم بالمعنى الواسع للحكومة ، وإجراء الحدود وأحكام الله ، وتطبيق العدالة الاجتماعية, الى أن يقول: ومنزلة الإمامة مضافاً لما سبق تتضمن الهداية التكوينية) والخلط الذي وقع فيه هو: أنه كان يتكلم عن الهداية التشريعية وما أتى به من كلام العلامة الطباطبائي يتعلق بالإمامة التكوينية لا التشريعية. وهذا خلط بين المعنى الثالث والرابع لمعاني الامامة التي لا يمكن الجمع بينهما.

 ونريد

الآن أن نذكر الشواهد والقرائن الدالة على أن المراد من الامامة في الآية هي الامامة السياسية لا غير, فمنها:

 ما ورد في أصول الكافي الجزء الأول ص489 رغم أن هذه الرواية لا تصمد أمام الموازين السندية لضعف سندها الا أنه يمكن الأخذ بها بناءً على الاعتماد على المنهج الدلالي المضموني, فالرواية تقول: (كنا عند الرضا فاجتمعنا في الجامع بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها, فدخلت على سيدي فأعلمته خوض الناس فيهم فتبسم(ع) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم, إن الله (عزّ وجلّ) لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين, وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كَملا فقال (عزّ وجلّ) ما فرطنا في الكتاب من شيء وأنزل في حجة الوداع : «اليوم أكملت لكم دينكم وأتمتت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فأمر الامامة من تمام الدين) أي: لا دين بدون الامامة, أما ما يقال أن الامام هنا في مقام بيان الامامة التكوينية فهو مردود بقوله (ع): (وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمضِ(ص) حتى بين لأمته معالم دينهم, وأوضح لهم سبيله وتركهم على قصد الحق فمن زعم أن الله (عزّ وجلّ) لم يُكمل دينه ـ أي لم ينصب إماماً ـ فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر به) علماً أننا سوف نبين أن الكفر المذكور في الرواية من أي أنواع الكفر هو.

 ثم يبين الإمام (ع) مقام الامامة ومحلها في الأمة بقوله: (هل يعرفون قدر الإمامة ـ السياسية ـ ومحلها من الأمة فيقع فيها اختيارهم, إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم ـ يشير بذلك الى حادثة السقيفة ـ إن الإمامة خص الله (عزّ وجلّ) بها إبراهيم بعد النبوة والخُلة مرتبةً ثالثة) ولم يخص بها أحدٌ قبله من الأنبياء, بل كانوا أنبياء ورسل دون أن يكونوا مسؤولين عن إقامة الدين في حياة الناس. أما قوله (ع) خص بها ابراهيم بعد النبوة والخلة, فهذا دليل واضح على أن الامامة غير النبوة.

 ثم يقول(ع): (وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال إني جاعلك للناس إماما فقال الخليل سروراً بها ومن ذريتي, قال الله تبارك وتعالى «لا ينال عهدي الظالمين» فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالمٍ إلى يوم القيامة, وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بها بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: «ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين

*وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات»... الى أن يقول: (فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً). ويظهر من قوله (ع) أن الامامة السياسية الثابتة لا براهيم(ع) قد ثبتت لرسول الله(ص) وهذا ما يُعبر عنه بالإرث المعنوي«ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا».

 ثم قال(ع) بعد ذلك: (حتى ورثها الله تعالى النبي(ص) فقال جل شأنه »إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ« فكانت له خاصّة فقلدها علياً بأمر الله تعالى... الى أن يقول فهي في وَلَد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد(ص) فمن أين يختار هؤلاء الجهال).

 ثم يشير الامام (ع)هنا الى أن المراد من الامامة هنا هي الامامة السياسية وذلك بقوله: (إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد) وهذا المعنى نجده في كثير من الروايات مثل: (بني الإسلام على خمس ، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية) ثم قال (ع): (وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور...الخ). وهذا يعني أن الامامة هي إمضاء الحدود ومنع الثغور لا أنه يكتفى بالتوصية بذلك فحسب.

 ثم قال (ع) : (الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله) أي: يقيم الحلال في حياة الناس, ويقف سداً مانعاً أمام كل المحرمات والموبقات ويلبي كل شيءٍ فيه صالح الاسلام والمسلمين.

 من هنا نعرف أن اللازم على الفقيه القائم مقام الامام(ع) في عصر الغيبة الدفاع عن الاسلام فكريا وعقائديا ودينيا, والقضاء بين الناس بالحق, والسعي جاهدا للتعريف بمبادئ الدين السامية وأسسه النامية داعيا الى ذلك بالحجة القاطعة والموعظة الحسنة كما يقول (ع): (ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة) وأن لا يكون أسير فتاوى عفا عليها الدهر وقتلت جدواها السنون.

 أما الروايات التي دلت على بقاء الإمامة ـ التي كانت لإبراهيم ـ واستمرارها الى عهد الرسول والعهد الذي بعده فهي كثيرة نكتفي بواحدةٍ في المقام هي: ما ورد في الأمالي للشيخ الطوسي ص52 تقول الرواية: (عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله أنا دعوة أبي إبراهيم, فقلنا يا رسول الله فكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم, قال: أوحى الله (عزّ وجلّ) إلى إبراهيم إني جاعلك للناس إماما فاستخف إبراهيم الفرح فقال يا ربي ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله إليه: أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به, قال: يا رب وما العهد الذي لا تفي به؟ قال: لا أعطيه لظالمٍ من ذريتك, قال يا رب ومن الظالم من ولدي الذي لا يناله عهدك, قال من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً ولا يصح أن يكون إماماً قال إبراهيم وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام, قال النبي: فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي علي لم يسجد أحدٌ منا لصنم قطُ فاتخذني الله نبيا وعلياً وصياً وإماما).

 بقي أن نشير الى أمرٍ مفاده: أن كلاً من الاحتمال الثالث والرابع آنفا الذكر, يوجد ما يدل عليهما من القرائن, فالثالث تدل عليه القرائن القرآنية, والرابع تدل عليه القرائن الروائية, فما المرجح لنا حينئذٍ لأن نأخذ بالاحتمال الرابع دون الثالث؟

 هذا ما سنجيب عليه في قادم الابحاث بإذنه تعالى.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo