< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/11/09

بسم الله الرحمن الرحیم

في بيان الاتجاه الثالث القائل بكيفية حصول الامامة السياسية

 كان الكلام في الأمس يدور حول كيفية تحقق الامامة السياسية وولاية الأمر, وقلنا في المسألة اتجاهات ثلاث, بينا الأول والثاني, ونريد الشروع اليوم ببيان الثالث, إلا أننا وقبل البدء بذلك لا بد من بيان مقدمة مفادها: أن المفردات الدالة على الامامة السياسية المستخدمة في القرآن الكريم متعددة, منها: مفردة الأمر الواردة في كتاب الله «أولي الأمر منكم» وكذلك الولاية, وكذلك الخلافة بمعناها السياسي لا الوجودي والاسمائي والتكويني والشرعي.

 أما ما ورد من ذلك في كلمات ونصوص أهل البيت فهو كثيرٌ وكله مستخدم بمعنى الامامة السياسية فمن أبرز ذلك على وجه الإجمال:

 ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) في الخطبة 196 حيث يقول: (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة) فواضح أن الخلافة التي يقصدها الامام هنا هي السياسية؛ لأنها لو كانت الخلافة الوجودية أو التكوينية فهي بكل تأكيد غير مرتبطة برغبة الامام. أما مراده من الولاية هنا هي الولاية السياسية «إنما وليكم الله» بقرينة قوله(ع) ( ولكن دعوتموني إليها وحملتموني عليها) المعبر عنها أحيانا في نصوص آل البيت بلفظ المُلك كقول أمير المؤمنين (ع) في الخطبة رقم 5 (فإن أقل يقولوا حرص على المُلك).

 وكذلك ما ورد عنه (ع) في الخطبة الشقشقية حيث أطلق الأمر وأراد الامامة أو الشأن السياسي وذلك بقوله (فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون), وقد يستخدم لفظ السلطان كما قال (ع) (سلبوني سلطان ابن أمي) وهذه النص من أوضح النصوص الدالة على ثبوت الامامة له بالنص والتعيين لا بالانتخاب والشورى؛ لأن الأمر لو كان يثبت عن طريق مبايعة الأمة لما عبر الامام عن ذلك بسلب السلطان؛ لأن السلب لا يتحقق إلا بعد ثبوت الحق.

 ولابد من الإشارة هنا أن الامام (ع) قد أشار في بعض كلماته الى حقيقة وجدانية لا تحتاج الى كثير من التأمل, هي: أن الأمم والبشرية بصورة عامة تحتاج الى أمير وقائد يدير أمورها وشؤونها حتى لو كانت تلك الأمم بدائية وساذجة فنراه يقول(لابد للناس من أمير... الى أن يقول: ويجمع به الفئ ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي...الخ).

 أما فيما يتعلق بالاتجاهات الثلاث فقد بينا بالأمس الاتجاه الأول والثاني لكننا نعيد الكلام فيهما على وجه الإجمال:

 الأول: القائل بثبوت ولاية الأمر لكل من حصل على ذلك, بأي طريق كان, ولو بحد السيف.

 ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه بأن الطاعة والامتثال لولي الأمر لازمة وواجبة بمعنى: أن المخالف لأوامر الولي يعد عاصيا مرتكبا للحرام حتى لو كان الولي فاسقا فاجرا مبتدعا.

 وهذا الاتجاه مخالف للقرآن الكريم بكل تأكيد؛ لأن القرآن الكريم بيّن وميز لنا بين إمامة الحق والباطل بقوله: « وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا » و«

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » والملاحظ أنهم لا يقولون بهذا التفريق.

 الثاني: القائل بثبوت الامامة لمن حصلت له البيعة, وحينئذٍ يلزم الأمة إطاعة أوامره ونواهيه. وهذا الشأن لم يثبت لرسول الله بدليل قرآني أو غيره, بل أنه (ص) بعد تبليغ التشريعات الإلهية للأمة, وجدت الأمة ضرورة وجدود الولي لها فانتخبت لذلك رسول الله(ص).

 فإن قيل أن ثبوت هذا الأمر ليس من صلاحيات الأمة؟ أجاب أصحاب هذا الاتجاه بقولهم: أن ما تقولونه صحيح,فهذا الأمر من صلاحيات الله سبحانه وتعالى لكنه عز وجل فوض ذلك للأمة, فهي التي يجب عليها أن تنتخب لتختار بذلك أميرا لها.

 الثالث: القائل بثبوت الامامة السياسية وولاية الأمر بتنصيبٍ وجعلٍ من الله «إني جاعلك للناس إماما»

دون أن يكون للأمة أي دور أو اختيار في ذلك«ما كان لهم الخيرة من أمرهم», فليس من حقها الجعل والعزل؛ لأن ذلك عهد الله ولا يُنال عهده إلا منه عز وجل.

 أما ما يقال من أن الامامة لو كانت ثابتة بالتنصيب والجعل ـ من الله ـ لأمير المؤمنين (ع) لكان(ع) قد بينها في نهج البلاغة, إلا أننا نرى عدم بيان ذلك, الكاشف عن عدم ثبوتها وجعلها من الله.

 نقول إن ما اُفيد باطلٌ ومردودٌ وذلك:

 1ـ أن كثيرا من خطبه (ع) لم تذكر في نهج البلاغة.

 2ـ إن التأريخ يخبرنا بأن السيد الشريف الرضي كتب نهج البلاغة حين دعي الى مؤتمر

 التقريب بين المذاهب, فالخطب والكلمات التي اختارها لذلك ينبغي أن لا يكون فيها ما هو باعث على الفرقة وخدش الخواطر.

 إلا أننا ومع ذلك نجد في كلامه (ع) ما يشير الى هذه الحقيقة ـ ثبوت الامامة بالجعل والتنصيب ـ منه:

 ما ورد في نهج البلاغة, الخطبة رقم 2 قال: (ولا يُقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد, ولا يُسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين وعماد اليقين وإليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة) ولم يقل هم الأحق بالولاية؛ لكي لا يقال أن الغير ثابت له الحق كذلك إلا أنهم أحق به من غيرهم, بل الحق لم يثبت إلا لهم(ع).

 وكذلك ما ورد في نهج البلاغة, الكتاب رقم 62 يقول: (فلما مضى(ص) تنازع المسلمون الأمر من بعده فو الله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي) لثبوت الحق له وإلا لو لم يكن له حق لما عبر بـ أمسكت يدي, إلى أن يقول: (حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محو دين محمدٍ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله < وهذا يكشف أن المناصرة التي كان يوليها (ع) كثيرا من الاهتمام آنذاك كانت للإسلام فحسب, وليس للأول والثاني كما يدعي البعض, لأنه لم يتعامل معهما بأي شكل من الاشكال, البتة.

 وكذلك ما ورد عنه (ع) في نهج البلاغة الخطبة رقم 172 يقول: >وقد قائل إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص, فقلت: بل أنتم والله لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب وإنما طَلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه< ويرمي (ع) بذلك الى الحق الذي أعطاه إياه الله سبحانه وتعالى حينما قال للنبي (ص) «بلغ ما أنزل إليك من ربك».

 من هنا قد يقول قائل لو كان الأمر ثابت من الله تعالى فلماذا نجد إصرارا كبيرا من الامام (ع) يطلب فيه البيعة من الناس؟

 نقول: لأن تسلّم ذلك الحق لا يكون إلا بأحد طريقين: إما بالقوة والسيف, وهذا ليس من أخلاقهم وسجاياهم (ع) كما هو معروف.

 وإما بالبيعة, الواجبة على الأمة, إلا أننا لو فرضنا أن الأمة لم تبايع, فهل يا ترى على الامام أن يجرد سيفه وينتزع البيعة من غاصبيها أم أنه يسكت الى أن يولى الأمر؟ وهذه هي الإشكالية التي وقع فيها البعض حين تصور أن سكوت الامام(ع) عن حقه هو إقرار منه بعدم ثبوت الامامة له. وهذا الأمر بدون شك غير صحيح؛ لأن ثبوت الامامة له كان بالتنصيب والجعل, لا أن البيعة هي المؤسس الرئيس لحصول الامامة, فالأمر بالبيعة للإمامة له (ع) كالأمر بالصلاة والصوم والحج.

 أما النص الوارد عن رسول الله (ص) في المحجة البيضاء للسيد بن طاووس الذي يقول: (فإن ولوك في عافيةٍ وأجمعوا عليك بالرضا فقم في أمرهم, وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه فإن الله سيجعلك مخرجا) ـ والذي يستدل به البعض على عدم ثبوت الامامة, فهو غير صحيح؛ لأن الامامة كما أوضحنا حاصلة بالتنصيب والجعل لا البيعةـ. فهو من الدلائل الواضحة على أن الطريق الأرجح لاستلام الامامة هو البيعة, لذا نجد أمير المؤمنين (ع) وفي أكثر من موضع يصر على أن بيعته حصل فيها الإجماع والشمول, منها:

 قوله (ع): (وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعبة) وهذا بخلاف ما حصل للخليفة الأول الذي عُبر عن خلافته بأنها فلتة وقى الله المسلمين شرها, وخلافة الثاني التي حصلت بالتنصيب من الأول, والثالث الذي انتخبه أقل من خمس.

 وفي المقام هناك دراسة مفصلة للكاتب أم مالك الخالدي بإشراف حسن بن فرحان المالكي الذي جمع كل الروايات الثابتة بأحسن الأسانيد الكاشفة عن صحة بيعة الامام علي(ع), والزيف الذي حصل في خلافة الذين قبله.

 ومنها: أيضا ما ورد عنه (ع): (أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما إني لم أرد الناس حتى أرادوني, ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما مما أرادني وبايعني وإن العامة هم الذين بايعوني).

 ومنها: ما ورد عنه (ع) (وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجربين, بل طائعين مخيرين).

 ولنا بعد هذا البيان أن نتساءل: هل نسبة البيعة الى الامام نسبة الاستطاعة الى الحج أم نسبة الوضوء الى الصلاة؟

 نقول حينما جاء الأمر الإلهي قائلا «يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة» لا يمكننا التعذر للصلاة بعدم الوضوء ليها؛ لأن عدم الوضوء لا يسقط التكليف عنا, لأن وجوب الصلاة والأمر بالامتثال باقٍ, أي: عندما لا نصلي سنكون عصاةً مرتكبين للحرام مستحقين للعقاب. والأمر هنا بخلاف الأمر للحج, المشروط بالاستطاعة, وذلك لأن عدم الاستطاعة مسقط لوجوب الحج, ليس ذلك فحسب, بل أن السعي لتحصيل الاستطاعة غير واجبٍ كذلك.

 من هنا يظهر أن وجوب البيعة للامام كوجوب الوضوء للصلاة, فيجب على الأمة أن تسعى للمبايعة للامام, إلا أننا وجدنا أن مؤامرة قد حصلت ضد أمير المؤمنين حاكتها أيادٍ معروفة بالحقد والبغضاء للرسول والرسالة وأهل البيت.

 ولا يخفى أن هناك روايات كثيرة عبرت عن الذين لم يبايعوا بتعبيرين معروفين هما الكفر والارتداد وذلك لأنهم لم يمتثلوا الأمر الإلهي القائل: «بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته»الذي بلغه الرسول ولم تطعه الأمة.

 والحديث تفصيلا عن هذا البحث يأتي في البحث اللاحق إنشاء الله

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo