< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/11/23

بسم الله الرحمن الرحیم

في أهم الفروق بين التشريع الأول والثاني

 كان الكلام في المبحث الثاني الذي يتحدث عن جهات الاختلاف والامتياز بين النوع الأول والثاني من التشريعات, وقلنا أن أحكام النوع الأول ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان, بخلاف أحكام النوع الثاني فأنها متغيرة غير ثابتة, وخاضعة في ذلك الى تغير الزمان والمكان.

 ولابد لنا هنا من بيان حقيقة مفادها: أن للشارع المقدس رأي في الاحكام التشريعية من النوع الثاني ـ الولائية ـ قد فوضه الى ولي الأمر؛ ليتخذ فيه الحكم المناسب بحسب ما يراه, وفقا لما تقتضيه الضرورة والمصلحة, فالأصل في الحكم الولائي بدواً هو الإباحة, والمكلف مخير في ذلك بين الفعل والترك, إلا أن الضرورة قد تقتضي التحريم في وقتٍ والوجوب في آخر.

 وهذا ما عبر عنه السيد الشهيد (ره) بمنطقة الفراغ في الشريعة وتحدث عنه تفصيلا في كتاب اقتصادنا ص300 حيث يقول: (وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضروريا لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن. فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه فقد يكون القيام بعمل مضرا بالمجتمع وكيانه الضروري ، في زمان دون زمان ، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة، ومحددة لحريات الأفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع ، وفقا للمثل الإسلام في المجتمع).

 وكذلك يقول (ره): في ص725 (ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة. وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة ، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعين نقصا أو إهمالا ، وإنما حددت للمنطقة أحكامها يمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف. فإحياء الفرد للأرض مثلا عملية مباحة تشريعيا بطبيعتها ، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقا لمقتضيات الظروف).

 ويشير العلامة الطباطبائي الى ذلك بشكل أوضح في كتابه الميزان المجلد الرابع ص121 وذلك في دفعه للإشكال القائل: كيف يمكن للأحكام الثابتة أن تستجيب للمتطلبات المتغير في جميع العصور ومواكبتها؟ فنراه (ره) يقول: (وأما الأحكام المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زماناً وزماناً وتتغير سريعاً كالأحكام المالية والنظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة, فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف في بيته وفيما أمره إليه فلوالي الأمر أن يعزم على أمور من شؤون المجتمع في داخلة أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية, يراعي فيها صلاح حال المجتمع الخ...).

 ويقول كذلك في كتابه مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي, ترجمة خالد توفيق, ص111: (يحتاج الإنسان إلى أحكامٍ متغيرةٍ هي التي نطلق عليها صلاحيات ولي الأمر, وهذا الأصل في الإسلام يلبي احتياجات الإنسان المتغيرة في كل عصر وزمان... إلى أن يقول في ص116 أن أحكام الإسلام الثابتة التي يطلق عليها اسم الشريعة الإسلامية وهذا إنشاء الله بعد ذلك لا مجال لتغييرها أو تبديلها حتى من قبل أولياء أمور المسلمين فهي باقية دائما وواجبة التنفيذ أبدا مهما كانت الشروط والأوضاع. أما الأحكام المتغيرة في الإسلام فهي قابلة للتغيير تبعاً لما يستجيب لتحولات التكامل الاجتماعي في حياة الإنسان الخ...).

 ومن خلال ما تقدم من بيانٍ يتضح أن وظيفة الفقيه المفتي تختلف كليا عن وظيفة ولي الأمر؛ لأن المفتي يتحدث عن الاحكام الثابتة في الشريعة فقط, أما ولي الأمر فوظيفته إعطاء التشريعات المتعلقة بإدارة حياة المجتمع.

 وعنوان المفتي وولي الأمر قد يجتمعان في مصداقٍ واحد وذلك كما في المعصوم في زمن الحضور وفي الفقيه الجامع للشرائط الذي يكون مفتيا ووليا للأمر معاً.

 وقد يفترقان وذلك كما في عصر الغيبة كأن يكون الفقيه المفتي غير الفقيه المتصدي لولاية الأمر.

 ولا ينبغي الإغفال هنا عن أن نحو مدخلية الزمان والمكان في الاحكام الولائية يختلف كليا عن نحو مدخلية الزمان والمكان في الاحكام الثابتة.

 الفرق الثاني:

أن التشريعات من النحو الأول جزء ثابت من الشريعة(حلال محمد حلال إلى يقوم القيامة, وحرامه حرام إلى يوم القيامة), بخلاف التشريعات من النوع الثاني فأنها ليست جزءً من الشريعة لأنها قد تتغير من وقت لآخر.

 من هنا ينبغي للفقيه التمييز والتفريق بين النوعين من تلك الاحكام لكي يعرف هل أن هذا الحكم من الثابت اللا متغير أم من المتغير اللا ثابت.

 الفرق الثالث:

إن حقيقة النوع الأول من التشريعات هو الإخبار عن واقعٍ معين, أي: عندما يقول رسول الله الربا حرام أو الصلاة واجبة فهو يخبر عن حكمٍ واقعي ثابت في لوح الواقع تابع في ذلك الى المصالح والمفاسد التي حددها الشارع المقدس, علما أن هذا النوع من التشريعات من وظائف الفقيه المفتي الذي قد يصيب الواقع باجتهاده وقد يخطئ, بخلاف حيثية الإفتاء والتبليغ الموجودة عند المعصوم فأنها مصيبة للواقع دائماً.

 أما الاحكام من النوع الثاني فهي في الحقيقة إنشاء للحكم؛ لإيجاد واقعٍ معين, لا أنه إخبار عن واقع متحقق.

 وما يترتب على هذا الفرق بين النوعين من الأحكام: أن المكلف لا يجب عليه إطاعة الفقيه المفتي حينما يعلم أن ما أخبر به غير مطابقٍ للواقع, بخلاف الاطاعة في النوع الثاني فهي واجبة دائما؛ لعدم وجود واقعٍ مُخبر عنه. بل إنشاء للأحكام فقط؛ فيجب على المكلف حينئذٍ الاطاعة في ذلك ولا يجوز له المخالفة.

 وهذا المعنى قد صرح به السيد الخميني في الرسائل ص50 بقوله: (وهذا المقام غير مقام الرسالة والتبليغ، فإنه بما انه مبلغ ورسول من الله ليس له أمر ولا نهى، ولو أمر أو نهى في أحكام الله تعالى لا يكون ذلك إلا إرشادا إلى أمر الله ونهيه، ولو خالف المكلف لم يكن مخالفته مخالفة رسول الله بل مخالفة الله تعالى لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بالنسبة إلى أوامر الله ونواهيه ذا أمر ونهى بل هو مبلغ ورسول ومخبر عنه تعالى، كما أن أوامر الأئمة عليهم السلام ونواهيهم في أحكام الله كذلك, إلى أن يقول: وأما إذا أمر رسول الله أو نهى بما انه سلطان وسائس يجب إطاعة أمره بما انه أمره، فلو أمر سرية أن يذهبوا إلى قطر من الأقطار تجب طاعته عليهم بما انه سلطان وحاكم فان أوامره من هذه الجهة كأوامر الله واجب الإطاعة وليس مثل هذه الأوامر الصادرة عنه أو عن الأئمة إرشادا إلى حكم الله بل أوامر مستقلة منهم تجب طاعتها ومنه قوله تعالى «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم». هذا هو الفارق الثالث.

 الفرق الرابع: إن للتشريعات من النوع الأول عقوبات مرتبطة بذاتها تتحقق عند المخالفة وعدم الامتثال وذلك كما في قوله تعالى «الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» و«والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم, يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم, هذا ما كنزتم». وجدير بالذكر أن المخالفة للنوع الأول من الاحكام هي مخالفة لله سبحانه وتعالى وليس لمبلغ الاحكام الذي هو الرسول أو الامام.

 أما التشريعات من النوع الثاني فليس لها عقوبات مرتبطة بذاتها, أي أن حالها يختلف عن حال التشريعات من النوع الأول من حيث العقوبة والجزاء.

 ولنا حينئذٍ أن نتساءل ما هو الضمان الذي على أساسه يمكن امتثال الاحكام من النوع الثاني حين قولنا بعدم وجود العقوبة المترتبة على ذات التشريع عند المخالفة وعدم الامتثال؟

 نقول: إن العقوبة وإن لم تكن ثابتة ومرتبطة أخرويا بنفس التشريع, إلا أن ذلك لا يعني عدم ثبوتها أصلاً, بل هي ثابتة, لكن بلحاظٍ وحيثيةٍ أخرى وهي التمرد والعصيان على أوامر الولي المفترض الطاعة «قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول», ومما ينبغي أن يعلم أن الحث على إطاعة الرسول وأولي الأمر الموجود في الآية الكريمة إنما هو للاحكام التي هي من النوع الثاني لا الأول؛ لأن الاحكام من النوع الأول تكون المخالفة فيها لله سبحانه وتعالى لا للرسول أو الامام الذي شأنه في ذلك هو التبليغ والبيان.

 إذن فمخالفة الاحكام من النوع الثاني لا تستتبع عقوباتٍ بذاتها بل بما أنها مخالفة لأوامر الولي المفترض الطاعة, بخلاف النوع الأول من التشريعات المستتبعة للعقوبة حين مخالفتها.

 فمثلا لو فرضنا أن الخمس من مصاديق النوع الأول من التشريعات أي حاله في ذلك حال الزكاة والصلاة والحج فعدم الامتثال هنا بعدم إعطاء الخمس يلازم العقوبة الأخروية المرتبطة بنفس التشريع.

 أما لو فرضنا أنه من مصاديق التشريع من النوع الثاني فعدم الامتثال بعدم الإعطاء لا يلازمة عقاب أخروي مرتبط بنفس التشريع, بل أن العقاب الملازم لعدم الامتثال هو بسبب عدم امتثال أوامر الولي المفترض الطاعة.

 ولنا أن نتساءل هنا أن العقوبة المترتبة على مخالفة أمر الولي المفترض الطاعة ـ المعصوم ـ في التشريعات من النوع الثاني هل تترتب على أوامر من يقوم مقامه من فقهاء عصر الغيبة ـ أي الفقيه المضطلع والعارف بجميع أمور الدين ومسائله, لا مسائل الحلال والحرام فقط ـ أم لا؟

 نقول على وجه الاجمال بوجود أدلة تثبت أن العقوبة الثابتة على مخالفة أمر الامام المفترض الطاعة ثابتة للفقيه الجامع للشرائط أيضاً. وسنعرض لتلك الأدلة في قادم الابحاث إنشاء الله.

 ولنا أن نتساءل أيضاً أن الحاكم الذي يصل سدة حكم البلاد عن طريق انتخاب الشعب, فهل يكون ذلك الانتخاب مبررا شرعيا له لثبوت الاطاعة وحصول العقاب على المتمرد والمخالف, أم لا بد له في ذلك من حصول الإذن من الامام أو من القائم مقامه في زمن الغيبة؟

 لا دليل لدينا على ثبوت مثل هذا الأمر للحاكم أو الرئيس. علما أن المدرسة الأخرى قد ثبت لها مثل هذا الأمر وإن كان الوصول لذلك بطريق غير مشروع كالانقلاب العسكري أو حد السيف.

 وللكلام تتمة

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo