< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/11/25

بسم الله الرحمن الرحیم

تطبيقات النوع الثاني من التشريعات

ـ

الاحكام الولائية

ـ

في الروايات

 بينا في حديث الأمس بعض الفروق الأساسية بين التشريعات من النوع الأول والثاني, ونريد اليوم أن نتطرق الى بعض التطبيقات التي وقع فيها الكلام بين فقهاء الطائفة في أن هذه التشريعات من أي نوع هي؟ علما أن النتيجة المترتبة على ذلك هي أنها لو كانت من النوع الأول فهي جزء من الشريعة ثابتة لا ينالها التغيير, بخلاف ما لو كانت من النوع الثاني فأنها ستكون متغيرة لا ثابتة بالاضافة الى كونها ليست جزءً من الشريعة.

التطبيق الأول:

من الواضح والثابت في الشريعة أن الانسان يستطيع أن يتصرف في ملكه ما يشاء من بيع أو إجارة أو إعارة أو غير ذلك, ومن أبرز مصاديق ذلك ما يحصل في مسألة الماء فأن الانسان إذا كان مالكاً للماء فهو مختار في التصرف فيه كيف يريد, ومما دل على هذا المعنى من النصوص ما ورد في وسائل الشيعة المجلد الخامس عشر ص418 :

 الرواية الأولى:

(عن أبي عبد الله الصادق (ع) سألته عن الرجل يكون له الشرب مع قومٍ في قناةٍ فيها شركاء فيستثني بعضهم عن شربه أيبيع شربه, قال: إن شاء باعه بورقٍ وإن شاء باعه بكيل حنطة).

 الرواية الثانية: (عن عبد الله ابن الكاهلي, قال: سأل رجل أبا عبد الله الصادق وأنا عنده عن قناةٍ بين قوم لكل رجل منهم شرب معلوم فاستغنى رجل منهم عن شربه أيبيعه بحنطة أو شعير, قال: يبيعه بما شاء هذا مما ليس فيه شيء).

 الرواية الثالثة: (عن علي ابن جعفر عن أخيه قال: سألته عن قومٍ كانت بينهم قناةٍ ماء لكل إنسانٍ منهم شرب معلوم فباع أحدهم شربه بدراهم أو بطعام أيصلح ذلك, قال: نعم لا بأس).

 فهذه الروايات تكشف الإباحة في التصرف بالحق المملوك ببيع أو إجارة أو شيء آخر.

 الا أننا نرى طائفة أخرى من الروايات تؤكد شيئا آخر غير الذي استعرضناه آنفا ومنها:

 الرواية الأولى:

(عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: نهى رسول الله عن النطاف, قال: أن يكون له الشرب من قناةٍ, فيستغني عنه فيقول النبي(ص) لا تبعه أعره أخاك أو جارك) والنهي المسبوق بالجواز واضح في الرواية.

 الرواية الثانية: (عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال قضى رسول الله(ص) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماءٍ ليمنع فضل كلاء) فطبق الرسول(ص) في ذلك قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).

 الرواية الثالثة: (قضى رسول الله في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماءٍ ولا يبيعوا فضل كلاء).

 بعد بيان هاتين الطائفتين من الروايات التي دل إحداها على الجواز ودلت الأخرى على النهي, لنا أن نتساءل كيف يمكننا الجمع بينهما؟

 نقول: لابد لنا أن نرى أن هاتين الطائفتين هل تتكلمان عن النوع الأول من التشريعات أي: الاحكام التبليغية, فإن كان كذلك فهنا دون شك قد وقع التعارض بينهما لأن إحداهما تقول بالجواز والأخرى تقول بالنهي, وحل مثل هذا التعارض إنما يكون بحمل النهي الموجود في الروايات على الكراهة؛ لأن الجواز نص والنهي ظاهر فيقدم الجواز على النهي, فيكون البيع حينئذٍ جائز على كراهةٍ.

 وهذا المعنى جرى عليه العلامة الحر العاملي في الوسائل, حيث أننا نجده قد عنون الباب بـ (باب كراهة بيع فضول الماء والكلأ) علما أن النصوص واضحة الدلالة على النهي الظاهر في الحرمة.

 وهذا الأمر ـ كيفية تعامل الفقهاء مع هذا النوع من الطوائف ـ حدا بالعلامة الشعراني في حاشيته على الوسائل في المجلد الخامس والعشرين ص419 أن يقول: استنباط الكراهة من الأحاديث التي هي ظاهرة في الحرمة, لسبق الذهن إليه من قول الفقهاء, باعتبار أن هذا هو المتعارف عند الفقهاء وهي القاعدة التي يتعاملون بها.

 أما إذا قلنا أن الروايات الدالة على الجواز تريد النوع الأول من التشريعات, والدالة على النهي تريد النوع الثاني من التشريعات, فهل يا ترى يقع التعارض هنا؟

 نقول لا مكان للقول بالتعارض هنا؛ لأن متعلق الجواز من الروايات نوع من الاحكام, ومتعلق النهي نوع آخر, فلا يكونا من موارد التعارض لأن شرط التعارض أن يكون نوعٌ واحد من التشريع قد وقع التضاد بين أحكامه, وما هو محل الكلام ليس كذلك؛ لأن الروايات المشيرة الى النوع الثاني تريد القول أن الرسول (ص) أعمل ولايته ونهى عن البيع لوجود ضرورة ومصلحة ملحة في ذلك, فقضى رسول الله (ص) بمنع بيع المياه لتنمو الثروة الزراعية مثلاً, علما أن القضاء هنا ليس بمعنى الخصومة بل بمعنى إعمال الولاية وهذا ما يشير اليه السيد الخميني بقوله: الأعم الأغلب عندما يطلق لفظ أمر أو قضى أو حكم فيراد به الأوامر السلطانية.

 وهذا المعنى الذي بيناه يشير إليه السيد الصدر في كتابه اقتصادنا ص726 تحت عنوان مبدأ تدخل الدولة فيقول: (وهذا النهي نهيُ تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل بان منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماءٍ وكلأ ليست من المحرمات الأصيلة في الشريعة, كمنع الزوجة نفقتها مثلاً أو شرب الخمر أمكننا أن نستنتج أن النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي الأمر فهو ممارسة لصلاحياته في ملئ منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضُل من ماء وكلأهم للآخرين تشجيعاً وهكذا نرى أن بذل فضل الماء فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاما تكليفياً؛ تحقيقا لمصلحة واجبة).

 ثم يناقش (ره) هذه المسألة مناقشة وافية في حاشية له هناك في ص302 فيقول: وقد اعتقد بعض الفقهاء في قضاء النبي بان لا يمنع فضل الماء أو نفع الشيء أنه نهي كراهةٍ لا نهي تحريم وإنما اضطروا إلى هذا اللون من التأويل لانتزاع طابع الحتم والوجوب عن قضاء النبي اعتقاداً منهم بأن الحديث لا يتحمل إلا أحد معنيين... الى أن يقول: لكن هذا الواقع لا يبرر تأويل قضاء النبي ما دام من الممكن أن نتحفظ لقضاء النبي بطابع الحتم والوجوب كما يشعر به اللفظ ونفهمه بوصفه حكماً صدر من النبي بما هو ولي الأمر نظراً للظروف الخاصة التي كانوا المسلمين يعيشونها وليس حكماً شرعياً عاماً كتحريم الخمر أو الميسر).

 وهذا الكلام يكون دقيقا فيما لو دلت القرائن على أن الحكم الصادر هو حكم ولائي, أما إذا كان الأمر ليس بهذا الوضوح ولم تدل القرائن على ذلك فهنا ينبغي تقديم الجمع على طرح الرواية. ولنا هنا أن نتساءل هل يوجد أولوية في الجمع أم لا؟

 نقول أن هناك نوعين من الجمع هما:

 الأول: أن يكون التصرف في ظهور إحدى الطائفتين كأن يحمل ظاهر النهي على الكراهة مثلا.

 الثاني: أن لا يتصرف في الظهور بل يبقى الظهور على ما هو عليه.

 وهنا نقول ما ثبتت له الأولوية من الجمعين يقدم.

 الا أننا لابد أن ننوه أن الجمع الذي نحن بصدده والذي ذهب إليه السيد الشهيد لا يوجد فيه أي تعارض بين الطوائف, فهو سالبة بانتفاء الموضوع. بخلاف الجمع الذي ذهب إليه المشهور فهو لا يكون الا بعد وقوع التعارض لاعتقادهم أن الاحكام الواردة في الطائفتين من نوع واحد وهو الأول, أي: الاحكام الثابتة والتي تعد جزء من الشريعة.

التطبيق الثاني:

الجواز وعدمه في بيع الثمرة على الشجرة قبل النضج.

 إن الروايات المجوزة لذلك البيع كثيرة رغم اختلافها في الشرائط, فبعضها اشترط الضميمة وبعضها لم يشترط ذلك, وبعضها أجاز فيما لوكان لسنة, وبعضها قال بالجواز حتى لأكثر من سنة وهكذا...

 فالروايات الدالة على الجواز كثيرة بحيث عبر عنها صاحب مجمع الفائدة والبرهان في المجلد الثامن ص200 بقوله: مع قول البعض بجواز بيعه كذلك للروايات الكثيرة كما ستجيء, فالروايات الدالة على بيع الثمرة قبل نضجها أو قبل بدو صلاحها روايات كثيرة ولا إشكال في هذا الأصل.

 الا أننا نجد في المقابل روايات كثيرة تدل على أن الرسول(ص) قد قضى بعدم جواز البيع وذلك كما ورد في وسائل الشيعة المجلد الثامن ص210 منها:

 الأولى: (وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرضٍ فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها, فقال: اختصموا في ذلك إلى رسول الله(ص) فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ولم يحرمه ولكن فعل ذلك النهي من أجل خصومتهم), أي: أن الداعي للتحريم أو النهي هنا هو منع حصول الخصومة بين الطرفين لا أن هذا النهي نهيٌ تبليغي دالٌ على أمرٍ ثابتٍ في الشريعة.

 الثانية: (قلت لأبي إن لي نخلاً في البصرة فأبيعه وأسمي الثمن واستثني الكر من التمر أو أكثر أو العدد من النخل فقال لا بأس قلت جعلت فداك بيع السنتين قال لا بأس قلت جعلت فداك إن ذاك عندنا عظيم, قال: أما إنك قد قلت ذلك كان رسول الله(ص) أحل ذلك فتظالموا فقال(ع) لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها).

 ومع كل هذه القرائن الا أننا نجد صاحب الحدائق يرى أن هذه الاحكام كلها من النوع الأول من التشريعات, وهذا باعث بدوره الى وقوع التعارض بين هذه الطوائف دون شك, فلذا نراه (ره) حينما يأتي الى هذه المسألة في كتابه الحدائق ص324 يقول: (الفصل الثامن في بيع الثمار من النخل, في ثمرة النخل وتحقيق الكلام فيها أنه لا خلاف بين الأصحاب في جواز بيعها بعد ظهور صلاحها هذا متفق عليه إنما الكلام قبل ظهورها... إلى أن يقول: وكيف كان فإن صحيحة بريد ، وصحيحة الحلبي وحسنته إنما هو بإبراهيم ابن هاشم المتفق على قبول حديث هوان عدوه حسنا وصحيحة ربعي صريحة في الحل وعدم الحرمة، فيتعين العمل بها لصحتها وصراحتها، فلا بد من ارتكاب التأويل فيما كان ظاهرا في منافاتها، إما بالحمل على الكراهة كما ذكروه، أو التقية كما أشرنا إليه، وإلى هذا القول يميل كلام جملة من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني).

 ولا يخفى أن الذي نريد قوله والذهاب إليه ـ النهي الوارد في الروايات من الاحكام الولائيةـ قد سبَقَنا إليه جملة من الاعلام كصاحب الجواهر فنراه (ره) عندما يصل الى هذه المسألة في المجلد الرابع والعشرين ص63 يقول: (قال فتظالموا فقال لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها ومراده بقرينة الخبر الأول أن نهي النبي لأجل قطع الخصومة لا الحرمة).

 من هنا نتوجه الى أن كثيرا من النواهي التي صدرت عن الائمة(ع) في باب المعاملات إنما كانت من باب المنع عن الوقوع في المخاصمة وغيرها, أي أنها كانت أحكاما من النوع الثاني لا الأول.

 ولا ينبغي الإغفال هنا عن أن القول بولاية الفقيه في زمن الغيبة يستلزم ثبوت كثيرٍ من الصلاحيات التي يستطيع من خلالها الولي الفقيه الأمر والنهي ـ الدالان على الوجوب والتحريم ـ حين اقتضاء الضرورة لذلك.

التطبيق الثالث:

في جواز وعدم جواز تأجير الأرض للزراعة؟ أي: إن لم استفيد من أرضي للزراعة فهل لي أن أؤجرها لشخص آخر لزراعتها أم يتعين لي إعطاؤها له من ثمنٍ لأجل ذلك؟

 نقول وفقا للقواعد الأولية لا محذور في ذلك, الا أننا نرى بعض النصوص الواردة في كتب المدرسة الأخرى أفادت عدم جواز ذلك ومن أبرز تلك النصوص: ما ورد في كتاب المصنف لابن أبي شيبه بتحقيق محمد عوامة المجلد الحادي عشر ص130: (عن رافع ابن خديج قال نهانا رسول الله (ص) عن أمرٍ كان لنا نافعاً, نهانا إذا كانت لأحدنا أرضٌ أن يعطيها ببعض خراجها بثلث أو نصف قال: ومن كانت له أرضٌ فليزرعها أو ليمنحها أخاه). ونفس هذه الرواية قد وردت في نفس الكتاب ص136 أيضا من الكتاب (قال رسول الله(ص) من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزْرعها أخاه ولا يكرهها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى) وهي من الروايات التي أشار إليها الألباني في صحيح الترمذي المجلد الثاني ص98.

 ولنا هنا أن نتساءل أي نهيٍ هذا الذي صدر من الرسول المتعلق بعدم جواز إجارة الأرض؟

 نكتفي بالجواب على ذلك بما قررته الأنامل الكريمة للسيد الشهيد الصدر(ره) حينما بين المراد من النهي في المسألة هذه في كتاب اقتصادنا ص727 حيث يقول: (ونحن حينما نجمع بين قصة هذا النهي واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورةٍ عامة ونضيف إلى ذلك نصوص كثيرة واردة عن الصحابة تدل على جوزا إجارة الأرض نخرج بتفسير معين للنص الوارد في خبر ابن خديج وهو أن النهي كان صادراً من النبي بوصفه ولي الأمر وليس حكماً شرعياً عاماً, فإجارة الأرض بوصفها عمل من الأعمال المباحة بطبيعتها يمكن للنبي المنع عنها باعتباره ولي الأمر منعاً تكليفياً, وفقا لمقتضيات الموقف).

 ومما يؤيد المراد في المقام: ما ورد في وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر التي هي يقول فيها: (وأعلم مع ذلك أن في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشا وشُحاً قبيحا واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع), فالاحتكار بما هو هو أمر مباح لا محذور فيه الا أنه إذا تسبب بوجود المضار للمجتمع ـ وهذا ما يحصل بالتأكيد عندما يحصل الاحتكارـ فينبغي النهي عنه حينئذٍ, وهذا ما نجده قد حصل من الامام(ع), علما أن النهي عن الاحتكار الذي يريده الامام هنا هو في الظروف الطبيعية وليس في ظروف القحط, بل يكون في ذلك من بابٍ أولى.

 وبهذا يظهر أن كثيرا من الاحكام التي تصدر عن المعصومين (ع) والتي فهم البعض منها التعارض إنما هي أحكام ولائية تدبيرية تأتت بسبب الضرورة والمصلحة المقتضية لذلك.

 وللكلام تتمة إنشاء الله.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo