< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/12/15

بسم الله الرحمن الرحیم

في إفادة الطوائف الروائية الثلاث لكفر منكر الضرورة وعدم ذلك ق2

 وصل بنا المقام في حديث الأمس الى الطائفة الثالثة ـ من ارتكب كبيرةً وزعم أنها حلال خرج من الإسلام ـ التي استدل بها على كفر منكر الضروري.

 وقلنا أن هذه الطائفة مطلقة من جهات ثلاث:

 الأولى: أنها عبرت بـ (من ارتكب كبيرةً) أعم من أن يُبين في ذلك أن تلك الكبيرة ضرورية أم لا.

 الثانية: لم تبين أن الفاعل للكبيرة قد أخذ فيه العلم بأن تلك الكبيرة جزء من الشريعة أم لا. فقد يكون الفاعل لها لا يعلم بأنها من الشريعة, ولو علم ذلك لما فعل.

 الثالثة: لم تبين أن الفاعل للكبيرة قد أخذ فيه الجهل القصوري أم التقصيري, بل عبرت بالأعم من ذلك بقولها من ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال سواء كان قاصر أم مقصراً.

 وهذا ما التزم به الاعلام من أن هذه الطائفة فيها ثلاث جهات من الاطلاق.

 ولذا أشرنا فيما سبق من أن الشيخ الانصاري قد ذهب الى أن الجاهل القاصر ليس كافرا بخلاف الجاهل المقصر.

 من هنا فلا يوجد أحد من الفقهاء يلتزم بهذه الاطلاقات؛ لأنه يلزم من ذلك لازم أشار إليه السيد الخوئي وغيره من الأعاظم هو: لو أن مجتهدا قد اجتهد وقال بحلية التصوير الذي قال بحرمته مجتهد آخر فهنا وبناء على الالتزام بالاطلاقات المزبورة سيكون القائل بالحلية كافر في نظر القائل بالحرمة.

 وهذا من اللوازم الغريبة التي لا يستطيع أحد من المجتهدين القول به, من هنا صار الاعلام بصدد البحث عن وجود المخرج لهذه الاطلاقات. فذُكر لذلك أجوبة عدة:

 الجواب الأول: ما أفاده السيد الخوئي من أن الكفر الموجود في (من ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال فهو كافر ), ليس بالضرورة أن يكون هو الكفر المقابل للاسلام المخرج عن الدين, بل قد يكون الكفر المذكور هو المقابل للإيمان أو الطاعة أو شكر النعمة؛ لعدم وجود القرينة الدالة على أن الكفر هنا ما كان مقابلا للاسلام المخرج عن الدين.

 وهذا المعنى قد أشار إليه (قدس) في التنقيح الجزء الثالث ص63 بقوله: (و أما الطائفة الثالثة و هي العمدة في المقام فعلى تقدير تماميتها لا مناص من الحكم بكفر منكر الضروري مطلقا و ان لم يكن عن علم بالحكم و قد يورد على دلالتها- كما في كلام شيخنا الهمداني و غيره- بأن الصحيحة بإطلاقها تشمل الأحكام الضرورية و غيرها و مقتضى ذلك هو الحكم بكفر كل من ارتكب كبيرة و زعم انها حلال و هو مما لا يمكن الالتزام به كيف و لازمة ان يكفّر كل مجتهد المجتهد الآخر فيما إذا اعتقد حلية ما يرى الأول حرمته و ارتكبه كما إذا بنى أحدهما على حرمة التصوير- مثلا- و رأى الثاني إباحته و ارتكبه حيث يصح ان يقال حينئذ ان المجتهد الثاني ارتكب كبيرة و زعم انها حلال... الى أن يقول في الجواب على ذلك:

 فالصحيح في الجواب عنها ان يقال: ان الكفر المترتب على ارتكاب الكبيرة بزعم حليتها ليس هو الكفر المقابل للإسلام الذي هو المقصود بالبحث في المقام و ذلك لأن للكفر مراتب عديدة «منها»: ما يقابل الإسلام و يحكم عليه بنجاسته و هدر دمه و ماله و عرضه و عدم جواز مناكحته و توريثه من المسلم و قد دلت الروايات الكثيرة على ان العبرة في معاملة الإسلام بالشهادتين اللتين عليهما أكثر الناس كما تأتي في محلها. إلى هذا يقول: و على الجملة أن ارتكاب المعصية ليس بأقوى من إنكار الولاية لأنها من أهم ما بنى عليه الإسلام كما في الخبر و قد عقد لبطلان العبادة بدونها بابا في الوسائل فإذا لم يوجب إنكارها الحكم بالنجاسة و الارتداد فكيف يكون ارتكاب المعصية موجبا لهما؟!)

 الا أن جوابه (قدس) غير تام ويمكننا أن نلاحظ عليه:

 أولا: أن القول بأن المراد من الكفر المذكور في الرواية ليس هو المقابل للاسلام دعوة تحتاج الى دليل ولم نرى دليلا على ذلك. نعم, يمكن أن يدعى أن الدليل على ذلك هو: أن ما هو أعظم من الكبيرة ـ كالولاية مثلاً ـ لم يخرج عن الاسلام فمن باب أولى أن الكبيرة تكون غيرة مخرجة عنه.

 الا أن ذلك غير تام أيضاً؛ لأنه مصادرة على المطلوب حيث أن القول بأن إنكار الولاية غير مخرج عن الاسلام دعوى تحتاج في إثباتها الى دليل أيضاً.

 من هنا يتبين أن الرواية مجملة ولا يمكن الاستدلال بها؛ لأن استعمالات الكفر متعددة ولا قرينة على المعنى المراد إثباته.

 ثانياً: أن الموجود في لسان الرواية هو: من ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال يخرج عن الاسلام, فلا وجود للفظ الكافر حتى نقول أن فيه استعمالات متعددة وأن المعنى المراد منه ما كان أحد الاستعمالات عدا الاستعمال المقابل للاسلام, بل أنها صريحة بالقول يخرج عن الاسلام, الكاشف بوضوح عن أن المراد به هو الاسلام الذي يتحقق بالشهادتين المقابل للكفر, وذلك واضح من لسان الرواية حيث تقول: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام.

 وبهذا يتضح أن ما أفاده السيد الخوئي غير مفيدٍ في دفع حيثيات الاطلاق.

 الجواب الثاني: بما أنه لا يمكن الالتزام بحيثيات الاطلاق الموجودة في الرواية فلابد حينئذٍ من تقييدها, والتقييد في المقام على نحوين:

 أولاً: أن يكون التقييد لمرتكب الكبيرة بالضروري, أي: من ارتكب الكبيرة الضرورية فهو خارج عن الاسلام, وبهذا البيان سيكون إنكار الضرورة سببا مستقلا للخروج عن الاسلام سواء عُلم بأنها جزء من الشريعة أم لا.

 ثانياً: أن يكون التقييد ـ لمنكر الضرورة ـ للعالم بأنها جزء من الشريعة, وبهذا البيان سيكون هذا القيد غير نافع لنا في المقام لأنه يؤول الى إنكار الرسالة, لا أنه سبب مستقل للكفر.

 ولنا أن نتساءل هنا: بأي القيدين نأخذ حينئذٍ؟

 الجواب: يقول أن عدم وجود المرجح لأحد القيدين باعث على إجمالها المسقط عن الاعتبار.

 وهذا الوجه أشار إليه السيد الحكيم على وجه الاجمال في مستمسك العروة الوثقى الجزء الاول ص379 :( وأما النصوص فهي ما بين مشتمل على الجحود المحتمل الاختصاص بصورة العلم، و مطلق لا يمكن الأخذ بإطلاقه، لعمومه للضروري و غيره، و تخصيصه بالضروري ليس بأولى من تخصيصه بصورة العلم، بل لعل الثاني أولى بقرينة ما اشتمل منها على التعبير بالجحود المختص بالعلم. و لو فرض التساوي فالمتيقن الثاني. هذا مع إمكان معارضة ذلك كله- على تقدير تماميته- بالتعبير بالجحود في كلام كثير أو الأكثر، المختص بصورة العلم. و مثله التعبير بالإنكار، بناء على ارادة الجحود منه، كما استظهره في الجواهر).

 وكذلك أشار اليه السيد الخوئي على نحو التفصيل في التنقيح ص62 بقوله: ( فالأخذ بإطلاق الصحيحة غير ممكن فلا مناص من تقييدها بأحد أمرين: فإما أن نقيدها بالضروري بأن يكون ارتكاب الكبيرة موجبا للارتداد في خصوص ما إذا كان الحكم ضروريا, وأما أن نقيدها بالعلم بأن يقال أن ارتكاب الكبيرة مع البناء على حليتها مع العلم بأنها محرمة يوجب الكفر الى أن يقول: وحيث أن الرواية غير مقيدة بشيء, وترجيح احد التقييدين على الآخر من غير مرجح فلا محالة تصبح الرواية في حكم المجمل وتسقط عن الاعتبار).

 والظاهر من كلام السيد الخوئي والسيد الصدر أنهم استفادوا أن الفقيه الهمداني قد أجاب على الطائفة الثالثة بالجواب المزبور فنرى السيد الخوئي يقول في التنقيح: ( وأما الطائفة الثالثة وهي العمدة في المقام فعلى تقدير تماميتها لا مناص من الحكم بكفر منكر الضروري مطلقا وان لم يكن عن علم بالحكم وقد يورد على دلالتها ـ كما في كلام شيخنا الهمداني وغيره ـ بأن الصحيحة...), ونرى السيد الصدر في شرح العروة الوثقى ص370 يقول ( ما ذكره المحقق الهمداني من أن الأخذ بإطلاق الرواية يقتضي كفر مستحل الحرام سواء كانت حرمته ضرورية أو لا, علم بأنه من الإسلام أو لا, فيشمل المجتهد الذي يخطأ في فتواه بالحلية, وهذا غير مقصود جزماً). الا أننا لم نجد ذلك في مصباح الفقيه.

 الا أن السيد الخوئي يرى عدم تمامية هذا الجواب معللا ذلك بأن الاطلاق حجة, والموانع التي تلزم من الاطلاق لابد من رفعها ليبقى الاطلاق على حجيته فنراه يقول في التنقيح ص73 للجواب على ذلك (كذا نوقش في دلالة الصحيحة إلا أن المناقشة غير واردةٍ لعدم دوران الأمر بين التقييدين المتقدمين بل المتعين أن يتمسك بإطلاقها ويُحكم بكفر مرتكب الكبيرة إذا زعم أنها محللة بلا فرق في ذلك بين الأحكام الضرورية وغيرها ولا بين موارد العلم بالحكم وعدمه, ثم أن الالتزام بالكفر والارتداد إذا لم يصح في بعض هذه الأقسام أخرجناه عن إطلاقها ويبقى غيره مشمولا للرواية لا محالة. ولا نرى مانعاً من الالتزام - الملازم للكفر في شيء من الأقسام المتقدمة بمقتضى إطلاق الصحيحة إلا في صورةٍ واحدة وهي ما إذا كان ارتكاب الكبيرة وزعم أنها حلال مستنداً إلى الجهل عن قصور كما في المجتهدين والمقلدين حيث أن اجتهاد المجتهد أدى إلى إباحة حرام واقعي فلا محالة يستند ارتكابه لذلك الحرام إلى قصوره لأنه الذي أدى إليه).

 الا أننا نرى عدم تمامية ما أفاده (قدس)؛ وذلك:

 أولاً: أن القول بأن المقتضي تام والمانع غير مرتفع ليس بصحيح؛ لأن المقتضي لترتب العقوبة بالنسبة للمجتهد غير موجود من أصل؛ لأننا نعلم بعدم ترتب العقوبة لمن اجتهد فأخطأ.فالمقتضي في نفس الرواية غير شامل للمجتهد, لا أنه شامل له والحاجب عن ذلك وجود المانع. فالرواية لا تتكلم عن القاصر والمجتهد وغير مقتضية لهما وهذا ما صرح به (قدس) في التنقيح ص58.

 ثانيا: لم يقل أحد من علماء الامامية بكفر الجاهل المقصر الذي ارتكب الكبيرة وهو لا يعلم أنها من الكبائر بل فعل ذلك ظناً منه بأنها من الموارد الجائزة رغم وجود الاحتمال بالحرمة الا أنه قصر في ذلك بعدم البحث والتحري عن حقيقة الحكم.

 وهذا ما أشار إليه الميرزا التبريزي(قدس) في تنقيح مباني العروة الجزء الثاني ص194 قال: (لا يمكن الحكم بكفر الجاهل المقصر أيضا ـ يعني فضلاً عن الجاهل القاصر ـ, ولم يلتزم بكفره أحدٌ من الأصحاب فيما أعلم, فيما كان الحكم الذي اعتقد خلافه غير الضرورية).

 وبهذا يتبين عدم تمامية ما أفاده السيد الخوئي لأن الاطلاق غير مقتضٍ لشمول المجتهد والقاصر.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo