< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/12/20

بسم الله الرحمن الرحیم

المائز الرئيس بين المعارف الدينية العملية والمعارف الدينية العقدية ق1

 تحدثنا في سابق الابحاث عن منكر الضروري وقلنا يوجد في المقام اتجاهين رئيسيين يرى الاول منهما أن الإنكار سبب مستقل للكفر والخروج عن الدين, ويرى الآخر أن الإنكار بنفسه ليس سببا مستقلا بل بما هو مؤدٍ الى إنكار التوحيد أو الرسالة. ووصل بنا المقام الى التمييز والتفريق بين الضرورة العملية والضرورة الاعتقادية.

 فالأعلام حينما أتوا الى المعارف الدينية قسموها الى قسمين:

 الاول : أصول الدين.

 الثاني: فروع الدين.

 من هنا وقع خلاف كبير بين الاعلام في كثير من المسائل في كونها من الأصول أم الفروع. علما أن هذا البحث لا أساس له في المعارف الدينية فلا يوجد دليل من القرآن أو الروايات سمى بعض المعارف أصولاً وسمى الآخر فورعاً, بل أن هذا التقسيم استفاده العلماء من آثار تلك المعارف.

 والحقيقة تقتضي إبراز المائز الرئيسي بين ما يسمى بالأصل والفرع الديني.

 ذكر الاعلام معايير وضوابط متعددة لذلك, منها: أن الأمر حينما يكون مرتبطاً بفعل الله فهو من أصول الدين, وحينما يكون مرتبطاً بفعل المكلف فهو من الفروع.

 الا أن هذا المائز غير تامٍ بالتأكيد؛ لأننا نرى أن الصلاة مجعولة من من قبل الله في حين أنها من الفروع لا الاصول.

 والصحيح في التمييز بين هذين الأمرين هو:

 أولا: أن هناك معارفاً دينية قد بُينت لأجل الإيمان بها وعقد القلب عليها فقط ـ كالتوحيد والإمامة ـ بغض النظر عن ترتب بعض الآثار العملية عليها, فأن البعد المأخوذ فيها هو الإيمان وعقد القلب, لا غير. فلهذا لو آمن الفرد بتلك المعرفة دون الايمان بلوازمها العملية المترتبة عليها فأنه يكون مؤمنا فاسقا, لا أنه غير مؤمنٍ أصلاً, الا أذا كان إنكاره لتلك اللوازم يبعث على تكذيب الرسول وإنكار رسالته. والإيمان المراد هنا هو الإيمان الاختياري الذي عبرت عنه الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا} لأنه لو لم يكن اختياريا لما وقع عليه التكليف. بخلاف العلم أو المعرفة التي يكون حصولها للنفس اضطراريا والذي عبرت عنه الآيات {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}.

 ثانيا: المعارف التي بينت لأجل العمل بها, لا لأجل الإيمان وعقد القلب, وذلك كما في الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها من الواجبات التي يجب امتثالها والمحرمات التي يجب الكف عنها. وهذا النوع من المعارف يتقوم بالعمل لا بالإيمان, فلو فرضنا أن الفرد أتى بالصلاة دون الإيمان بها فستكون صحيحة وتامة, أما لو آمن بها دون أن يمتثلها فلا تكون مجزية ومقبولة ويستحق الفرد عليها العقاب.

 فالقسم الاول من المعارف هو المعارف العقدية, والثاني هو المعارف العملية. علما أن معارف كل واحد من هذين القسمين ليس على وتيرة ومستوى واحد بل تختلف فيما بينها فلو أتينا الى المعارف العقدية نجد بعضها من أصول العقائد وبعضها الآخر من الفروع, فالمباحث التي تندرج تحت مبحث الامامة منها ما هو أصيل يخرج الفرد بإنكاره عن الدين, ومنها ما هو فرعي لا يخرج الفرد بإنكاره عن الدين.

 وهذا المائز ـ بين المعارف الدينية ـ أشار إليه التفتزاني في شرح المقاصد الجزء الاول ص163: (هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية إلى أن ويقول: الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية. ثم يقول بعد ذلك: وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه والاعتقاديات بعلم التوحيد).

 وممن أشار إلى ذلك بشكل واضح الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء الجزء الأول ص43 قال: (والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه هو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علمين: علم معاملة وعلم مكاشفة, ثم يقول بعد ذلك: وأما علم المعاملة فهو اعتقادٌ وفعل... إلى أن يقول: وعلى هذا الأساس كل الاعتقاديات كذا وكل العمليات كذا...), وتوجد هنا نكتة لابد من الالفات إليها وهي: لعل البعض يتصور أن قولنا بجواز التقليد في العقديات هو شذوذ عن الرأي الفقهي الامامي القائل بعدم جواز ذلك في العقائد أو أصول الدين الا أن الحق ليس كذلك فنرى أن صاحب المحجة يقول: (وليس يجب عليه - أي المكلف- أن يحصّل كشف ذلك - أي الاعتقاديات- بالنظر والبحث وتحرير الأدلة, بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزماً من غير اختلاج ريب واضطراب نفسٍ وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع). فالغرض هو حصول اليقين سواء كان ذلك بالتقليد أو بالاستدلال.

 ولذا نحن قلنا سابقا بإمكان التقليد في المسائل العقدية لأن المحور في ذلك هو حصول العلم عن أي طريق كان, عدا أصول العقائد فلا يجوز التقليد فيها.

 من هنا فنحن دعونا الى كتابة رسالة في المسائل العقائدية تتناول المفاصل المهمة من أمور العقيدة التي يكفي فيها التقليد دون البحث عن الدليل والبرهان وهذا مما لا محذور فيه بل تؤيده الرواية القائلة: إذ اكتفى رسول الله من العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل

 ومما يؤيد ذلك أيضاً ما لو فرضا أن شخصاً آمن بالرسول في الصباح واستشهد في المساء فلا شك انه من أهل الجنة رغم أنه لم يكن على بينة تامة بمسائل العقيدة, بل أن إيمانه بها تقليدي.

 من هنا نجد السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى يقول: (هذا كله في الأحكام العملية التي يجب فيها العمل و لا يجب فيها الاعتقاد. و أما الأمور الاعتقادية التي يجب فيها الاعتقاد لا غير...) فنراه (قدس) يقسم المعارف الدينية الى أمور اعتقادية يجب فيها الاعتقاد وعملية يجب فيها العمل.

 من خلال ما قدمنا من تفريق بين ما ينبغي فيه الاعتقاد وما ينبغي فيه العمل نتساءل حينئذٍ: هل يوجد فرق بين منكر الضروري الذي يجب فيه العمل ومنكر الضروري الذي يجب فيه الاعتقاد؟

 قلنا في ما سبق بوجود اتجاهين رئيسيين في منكر الضرورة العملية هما:

 الاتجاه الأول: الذي يعتقد أن إنكار الضروري سببٌ مستقل للكفر.

 الاتجاه الثاني: الذي يعتقد أن إنكار الضروري ليس سببا مستقلا للكفر وذلك كمن يعتقد عدم حرمة شرب هذا النوع من الفقاع, نعم, إذا أدى إنكاره الى تكذيب النبي (ص) فذلك يكون سببا مستقلا للكفر.

 أما الأمور الاعتقادية: فعلى الاتجاه الاول: إذا ثبت أن هذه المسألة من ضروريات الدين وتم إنكارها فعلى الاتجاه الاول يكون الفرد كافرا وخارجا عن الدين.

 وكذلك لو ثبت أنها من ضروريات المذهب كالرجعة مثلا وتم إنكارها فسيكون الفرد بذلك خارج عن المذهب.

 أما على الاتجاه الثاني فمنكر الضرورة خارج عن الدين شريطة توفر هذين الشرطين:

 الأول: أن يكون ذلك الضروري من ضروريات الدين.

 الثاني: بيان هذا الشرط يتوقف على بيان حقيقة مفادها: أن بعض المعارف الدينية يجب فيها الاعتقاد على نحو الاجمال وذلك كما في التوحيد والنبوة والايمان بما جاء به الرسول(ص) وهذا ما يتم به الدخول الى الاسلام, فإنكاره يؤدي الى الكفر والخروج عن الاسلام. بخلاف البعض الآخر من المعارف الدينية التي تتوقف على المعرفة التفصيلية وهذا النوع من المعارف غير مقوم للاسلام, وإنكاره لا يلزم منه الكفر أو الخروج عن الاسلام.

 من هنا نقول أن الشرط الثاني إنما يتحقق فيما إذا كان الانكار متعلق بما هو متوقف على المعرفة الإجمالية, وعليه فلو أنكر الشخص ضرورة من الدين ثابتة بالمعرفة الاجمالية فيحكم عليه بالكفر والخروج عن الدين. بخلاف إنكار المعارف الدينية الثابتة بالمعرفة التفصيلية, فلا يترتب على إنكارها الكفر والخروج عن الدين.

 وهذا المعنى يشير إليه المحقق الهمداني في مصباح الفقاهة المجلد السابع ص269 بقوله: (وكيف كان فالمعتبر في الإسلام إنما هو الشهادة بالتوحيد والرسالة وتصديق الرسول في جميع أحكامه على سبيل الإجمال, المستلزم للتدين بالأحكام الضرورية الثابتة في الشريعة من وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها من الضروريات التي لا تكاد تختفي شرعيتها على من تدين بهذا الدين). والواضح من كلامه رضوان الله عليه أن ما يقع فيه الاختلاف لا يكون سببا للكفر والخروج عن الاسلام, وهذا ما عبرنا عنه بالمعارف الدينية المتوقفة على المعرفة التفصيلية.

 من هنا فمن يدعي حلية الربا أو عدم وجوب الحجاب, فعلى الاتجاه الأول الذي يعتقد أن الانكار سبب مستقل للكفر يكون كافر وخارج عن الاسلام, أم على الاتجاه الثاني فبما أنه مندرج تحت المعارف الدينية التي تتحصل بالمعرفة التفصيلية فلا يكون كافرا وخارجا عن الاسلام, نعم, إن كان إنكاره يؤد الى تكذيب الرسول (ص) فيكون حينئذٍ كافرا خارجا عن الاسلام.

 ولذا نجد الفقيه الهمداني يقول في ذلك: (لكن ليعلم أن إنكار الضروري أو غيره من الأحكام المعلومة ليس ضروريّ التنافي للتصديق الإجمالي...), أي: أن إنكار الضروري غير ملازم لنفي التصديق الإجمالي, فقد يحصل الانكار و التصديق باقٍ وهذا ما يحصل في المعارف الدينية التفصيلية, وقد يتحقق الانكار الملازم لنفي التصديق وذلك كما في المعارف الدينية الاجمالية التي قلنا بأن إنكارها مخرج عن الدين.

 هذا تمام الكلام في تطبيقات منكر الضرورة العملية أما تطبيقات الضرورة الاعتقادية فلابد قبل ذكرها من بيان حقيقة الأمر العقدي, ومتى يكون منكر الضروري فيه خارج عن الدين بناء على الاتجاه الثاني لا الأول, ولنا في المقام أن نشير الى أول تطبيقات ذلك فنجد السيد الحكيم رضوان الله عليه يقول في مستمسك العروة الوثقى: ( فالحكم بكفر منكر الأمور الاعتقادية ضروريةً كانت أو نظرية يتوقف على قيام دليلٍ على وجوب الاعتقاد بها تفصيلاً, على نحو يكون تركه كفراً. ومجرد كونه ضروريا لا يوجب كفر منكره, الا بناءً على كون إنكار الضروري سببا مستقلا للكفر وقد عرفت عدم ثبوته, فالمتتبع الدليل الوارد فيه بالخصوص...). والواضح من كلامه (ره) أن الانكار المؤدي للكفر مشروط بكون الضرورة قد قام الدليل على وجوب الاعتقاد بها تفصيلا, وبما أن الدليل لم يقم على وجوب الاعتقاد التفصيلي, بل يكفي الاعتقاد الإجمالي في ذلك, فلا يمكن الحكم بكفر المنكر لمجرد كون المسألة العقدية ضرورية.

 ومن هنا يتضح أن هناك شرطا آخر في الأمور العقدية يختلف عن الشرطين اللذين ذكرناهما للضرورة العملية, وحقيقة هذا الشرط هي: أن الضروري الذي تم إنكاره والمخرج عن الاسلام لابد أن يكون الانكار فيه مؤديا الى تكذيب الرسول (ص), وقد قام الدليل على الاعتقاد به تفصيلا.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo