< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

31/12/21

بسم الله الرحمن الرحیم

المائز الرئيس بين المعارف الدينية العملية والمعارف الدينية العقدية ق2

 كنا نتكلم فيما سبق من الابحاث عن منكر الضروري واتممنا الكلام عن منكر الضرورة في معارف الدين العملية ووصل بنا المقام الى منكر الضرورة في المعارف العقدية, وفي هذه المسألة تارةً نذهب بما ذهب إليه الاتجاه الاول, أي: المشهور من أن إنكار الضروري سبب مستقل للخروج عن الدين كما هو الحال في منكر التوحيد والرسالة بغض النظر عن السبب وحقيقته وأخرى نختار الاتجاه الثاني الذي يعتقد بأن إنكار الضروري بنفسه ليس سببا مستقلا للخروج عن الدين, بل أنه يعتقد بوجود تفصيلٍ مفاده: أن الضروري إذا كان مما يتحقق به الاسلام اعتقادا فهنا لا شك ولا إشكال أن الإنكار موجب للكفر مخرج عن الاسلام, أما إذا كان الضروري مما لا يتحقق به الاسلام أي أن اسلامه يتحقق حتى مع عدم إيمانه واعتقاده بذلك الضروري فالإنكار هنا غير موجب للكفر ومخرج عن الاسلام.

 وهذا المعنى تطرق إليه المحقق الهمداني كما أوضحنا بالأمس في مصباح الفقيه المجلد السابع ص271 بقوله: ( لكن ليعلم أن إنكار الضروري أو غيره من الاحكام المعلومة الصدور عن النبي صلى الله عليه وآله ليس ضروري التناقى للتصديق الإجمالي بل قد يجتمعان بواسطة بعض الشكوك والشبهات الطارية على النفس فليس الإنكار في مثل الفرض منافيا للايمان بالله ورسوله فلا يكون موجبا للكفر الا أن نقول بكونه من حيث هو كالفكر بالله ورسوله سببا مستقلا له كما هو صريح بعض وظاهر آخرين...)

 فيتحقق الأصل الاول بالاعتقاد بالله وانه وحده لا شريك له, فحينما ينكر الفرد التوحيد بهذا المعنى سوف يحكم عليه بالكفر والخروج عن الدين, الا انه لو آمن بالتوحيد دون أن يعرف تفاصيل الوحدة الثابتة للحق سبحانه وتعالى هل هي من قبيل الوحدة العددية أم الوحدة الحقة فأنه لا يكون حينئذٍ كافرا خارجا عن الاسلام, وهذا ما حدا ببعض الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الى البحث في النصوص الروائية بشكل مفصل عن حقيقة ما يثبت به الاسلام؟ فهل يثبت بالوحدة الإجمالية أم التفصيلية التي تفترض وجود وحدة عددية وغير عددية, ولو فرضنا أن أحد الاعلام قال بالعددية في حينٍ قال الآخر بغيرها فهل يحق لأحدهما تكفير الآخر باعتبار أنه منكرٌ لضرورة من ضرورات الاسلام؟

 نقول لا ينبغي لأحدهما تكفير الآخر؛ لأن ما يتم به الدخول الى الاسلام هو الإيمان بالوحدة الإجمالية لا التفصيلية.

 والذي جعلني أتعرض بالتفصيل الممل لهذا المعنى في المقام أنني وجدت الكثير ممن لا معرفة له يقول بكفر وخروج من قال بوحدة الوجود عن الاسلام, علما أنه لم يحدد نوع الوحدة التي يتحقق بها الاسلام لكي نقول بكفر من قال بغيرها, علما أننا نجد أن الاعلام حينما تعرضوا الى هذه المسألة قد قالوا صريحا بأن من يقول بها ليس بكافر الا في بعض الفروض التي لا يقول بها عاقل.

 فنجد السيد الخوئي يذهب الى أن الوحدة المطلوبة في الاعتقاد والتي يخرج الفرد بإنكارها عن الاسلام هي الوحدة الإجمالية, فيقول في التنقيح المجلد الثالث ص81 : (والقائلون بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم, وذلك لعدم كفرهم), هذا ما قاله في المتن أما في الحاشية فيقول: (القائل بوحدة الوجود ان أراد ان الوجود حقيقة واحدة و لا تعدد في حقيقته و انه كما يطلق على الواجب كذلك يطلق على الممكن فهما موجودان و حقيقة الوجود فيهما واحدة و الاختلاف انما هو بحسب المرتبة لأن الوجود الواجبي في أعلى مراتب القوة و التمام، و الوجود الممكني في انزل مراتب الضعف و النقصان و ان كان كلاهما موجودا حقيقة و أحدهما خالق للآخر و موجد له فهذا في الحقيقة قول بكثرة الوجود و الموجود معا نعم حقيقة الوجود واحدة فهو مما لا يستلزم الكفر و النجاسة بوجه بل هو مذهب أكثر الفلاسفة بل مما اعتقده المسلمون و أهل الكتاب و مطابق لظواهر الآيات و الأدعية فترى انه- ع- يقول أنت الخالق و أنا المخلوق و أنت الرب و انا المربوب و غير ذلك من التعابير الدالة على ان هناك موجودين متعددين أحدهما موجد و خالق للآخر و يعبّر عن ذلك في الاصطلاح بالتوحيد العامي. و ان أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول و هو أن يقول بوحدة الوجود و الموجود حقيقة و انه ليس هناك في الحقيقة إلا موجود واحد و لكن له تطورات متكثرة و اعتبارات مختلفة لأنه في الخالق خالق و في المخلوق مخلوق الى أن يقول: و هذا القول منسوب الى أذواق المتألهين فكأن القائل به بلغ أعلى مراتب التأله حيث حصر الوجود بالواجب سبحانه و يسمى هذا توحيدا خاصيا. ثم يقول بعد ذلك: نعم عرفت ان الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشي‌ء من الكفر و النجاسة والفسق ـ فالاختلاف في معنى الوحدة وكون أحد الأقوال باطل لا يؤدي الى القول بالكفر والخروج عن الاسلام ـ بقي هناك احتمال آخر و هو ما إذا أراد القائل بوحدة الوجود وحدة الوجود و الموجود في عين كثرتهما فيلتزم بوحدة الوجود و الموجود و انه الواجب سبحانه إلا ان الكثرات ظهورات نوره و شئونات ذاته و كل منها نعت من نعوته و لمعة من لمعات صفاته و يسمى ذلك عند الاصطلاح بتوحيد أخص الخواص و هذا هو الذي حققه صدر المتألهين و نسبه الى الأولياء و العرفاء من عظماء أهل الكشف و اليقين قائلا: بأن الآن حصحص الحق و اضمحلت الكثرة الوهمية و ارتفعت أغاليط الأوهام. إلا انه لم يظهر لنا- الى الآن- حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام. و كيف كان فالقائل بوحدة الوجود- بهذا المعنى الأخير- أيضا غير محكوم بكفره و لا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من إنكار الواجب أو الرسالة أو المعاد).

 الا أن هناك فرض اذا ما التزم به أحد فلا شك في كفره وخروجه عن الاسلام وهو: الاعتقاد بأن كل موجود هو الله كما لو يُدعى أن الجدار أو التراب او هذا النبات هو الله وهذا ما أشار اليه السيد الخوئي بقوله: (و ان أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول و هو أن يقول بوحدة الوجود و الموجود حقيقة و انه ليس هناك في الحقيقة إلا موجود واحد و لكن له تطورات متكثرة و اعتبارات مختلفة لأنه في الخالق خالق و في المخلوق مخلوق كما أنه في السماء سماء وفي الارض أرض وهكذا وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين الى بعض الجهلة الصوفية وحكي عن بعضهم أنه قال ليس في جبتي سوى الله...).

 أما السيد محسن الحكيم فيقول في المستمسك الجزء الأول ص391: (أما القائلون بوحدة الوجود من الصوفية فقد ذكرهم جماعة ومنهم السبزواري في تعليقته على الأسفار... أقول: حسن الظاهر بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاص والحمل على الصحة المأمور به شرعا, يوجبان حمل هذه الأقوال على خلاف ظاهرها وإلا فكيف يصح على هذه الأقوال وجود الخالق والمخلوق والآمر والمأمور والراحم والمرحوم...) فيرى رحمه الله بأن الأقوال التي صدرت من علماء كبار كالسيد حيدر الاملي وصدر المتألهين رغم عدم قبوله بها واختلافه معهم فيما قالوا الا أن حسن الظن يقتضي حمل ما قالوه على خلاف الظاهر وعدم صحة القول بكفرهم وخروجهم عن الاسلام.

 أما السيد السبزواري فيقول في المقام وذلك في مهذب الاحكام الجزء الأول ص405: (وأما القائلون بوحدة الوجود فمقتضى الأصل والإطلاق طهارتهم أيضاً إلا إذا رجع اعتقادهم إلى إنكار الضروري... الى أن يقول: بأن يكون الله تبارك وتعالى عين الكل والكل عينه تعالى, ولا ريب في أنه إنكار للضروري إن كان له وجه معقول متصور...), ولا شك أن ما دون ذلك ليس من إنكار الضروري كما هو الواضح من كلامه رضوان الله عليه.

 أما السيد الصدر (ره) فقد قال في شرح العروة الوثقى الجزء الثالث ص394 ما نصه: (يقال بفارق بين الخالق والمخلوق في صقع الوجود نظير الفارق بين المعنى الاسمي والحرفي في صقع الماهيات. وأخرى يرفض هذا الفارق ويدعي أنه لا فرق بينهما الا بالاعتبار واللحاظ؛ لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب وإن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن والاحتمال الأخير في تسلسل التشقيقات هو الموجب للكفر, دون الاحتمالات السابقة لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية). فيعتقد رحمه الله أن القائل بالتوحيد لابد له من تصوير الاثنينية ـ بين الخالق والمخلوق ـ التي يتقوم بها الاسلام, أي: لا بد من بيان المائز بينهما, ولا يصح القول أن الخالق عين المخلوق دون أن يُبين مائزاً وفارقا رئيسيا بينهما بموجبه يمكن تعقل الخالق والمخلوق؛ لأن التوحيد يفترض في رتبة سابقة وجود هذا المائز الذي يصح به الاعتقاد, إذ بدونه لا معنى للقول بالتوحيد.

 وبهذا يتضح أن المقوم للاسلام هو القول بالاثينية, أما حقيقة هذه الاثنينية ـ سواء كانت على نحو العددية أو العزلة أو البينونة الصفتيةـ وكيفية حصولها فهو غير داخل في حقيقة الاسلام ولا يحكم بكفر من أنكر نوعا من أنواعها ما دام الفرد يعتقد بأصل ثبوتها.

 فلو فرضنا أن عالما من العلماء اعتقد أن الاثنينية بين الخالق والمخلوق هي من نوع العددية واعتقد آخر بخلاف ذلك وذهب الى أن الاثنينية هي من نوع البينونة الصفتية فهل يا ترى يحكم بكفر أحدهما لأنه اعتقد بخلاف ما اعتقد به الآخر؟

 نقول: كلاهما مسلم لأن ما اعتقدا به من نوع الاثنينية غير مقوم وداخل في حقيقة الاسلام, بل أن ما هو مقوم للاسلام اعتقادهم بأصل وجود الاثنينية بين الخالق والمخلوق وهو حاصل عندهم.

 من هنا فأن أفكار ابن تيمية والمجسمة والحشوية التي ابتعدوا فيها كثيرا عن توحيد أهل البيت غير صحيحة الا أنها غير مخرج لهم عن الاسلام.

 الأصل الثاني: النبوة: وهو الركن الثاني الذي يتحقق به الاسلام والذي يفترض الاعتقاد بأن النبي مرسل من قبل الله تعالى وأنه معصوم فيما يخبر عنه وأن كل ما جاء به حق.

 ولنا هنا أن نتساءل: هل أن الاعتقاد بعصمة النبي قبل الولادة, أو عصمته قبل النبوة, أو عصمته في الموضوعات, أو عصمته في تطبيق الحكم الشرعي شرط مقوم للاسلام أم لا؟

 لا خلاف بين المسلمين بأن عدم الاعتقاد بعصمة النبي قبل الولادة لا دخل له في حقيقة الايمان والاعتقاد بنبوته, أي: أن الاعتقاد بذلك غير مأخوذٍ كشرطٍ في صحة الاعتقاد والإيمان بالنبوة, وإلا لحكم بكفر وخروج كثير من العلماء والمسلمين عن الاسلام؛ لاعتقادهم بسهوه (ص).

 من هنا نجد السيد الخوئي يذهب الى أن الاعتقاد بصحة إسناد الأفعال التي من قبيل الرزق والخلق والإيجاد والموت الى غير الله ـ من الأولياء والصالحين ـ غير موجب للكفر والخروج عن الدين معللا ذلك بأن القول بكفرهم يلزم منه كفر من اُسند إليه الفعل من باب أولى, فنراه يقول في التنقيح الجزء الثالث ص75 : ( مما هو من إسناد فعل من أفعال الله سبحانه الى العاملين له بضرب من الاسناد. ومثل هذا الاعتقاد غير مستتبع للكفر ولا هو إنكار للضروري فعد هذا القسم من أقسام الغلو نظير ما نقل عن الصدوق (قد) عن شيخه ابن الوليد: إن نفي السهو عن النبي أول درجات الغلو. والغلو بالمعنى الأخير مما لا محذور فيه بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة.) وإلا للزم خروج الشيخ الطوسي عن الاسلام بهذا المعنى.

 بل الالتزام بالمعنى الذي رده (ره) يلزم منه كفر الملائكة أيضا؛ً لأن كثير من الأفعال الإلهية قد اُسندت إليهم كما في الآية {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} التي تصف التدبير الإلهي والآية الأخرى القائلة {فالمدبرات أمرا} التي يراد منها الملائكة.

 وبهذا يتضح أن الاختلاف في مسائل النبوة التفصيلية غير مخرج عن الاسلام.

 علما أن الاختلاف بين العلماء فيما يتعلق بتفاصيل عصمة الأنبياء كبير ولم يكن موضع وفاق بينهم ولا بأس هنا بالاشارة الى بعض كلماتهم في ذلك:

 ففي البحار المجلد السابع عشر ص96, وبعد الاشارة إلى اختلاف آراء العلماء في عصمة النبي والأئمة يقول العلامة المجلسي: (والأنبياء والأئمة عليهم السلام من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر والصغائر كلها, والعقل يجوز عليهم ترك مندوبٍ إليه على غير التعمد ولا يجوز عليهم ترك مفترضٍ, إلا أن نبينا والأئمة من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم عليهم السلام وبعدها, وأما الوصف لهم بالكمال في كل أحوالهم فإن المقطوع به كما لهم في جميع أحوالهم...).

 أما الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد فيقول: (والوجه أن نقطع على كمالهم ـ أي النبي الأكرم والأئمة الميامين- في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة ونتوقف فيما قبل ذلك ونقطع على أن العصمة لازمة لهم منذ أكمل الله تعالى عقولهم الى أن قبضهم), هذا هو رأيه رضوان الله عليه في العصمة.

 من هنا ينبغي علينا أن لا نحكم بالكفر والخروج عن المذهب على من له رأي في المسائل التفصيلية المتعلقة بمسألة العصمة ونتهمه بأنه قد خالف ضرورة من الضرورات؛ وذلك لأن المسائل التفصيلية غير مقومة للمذهب أو الدين, بل هي محل نقض وإبرام بين فقهائنا الاعلام.

 وما جرى من تفصيل في العصمة جار في الامامة أيضاً فنقول: أن الأصل الضروري في الامامة هو الاعتقاد بأنهم (ع) مفترضو الطاعة من الله سبحانه وتعالى وهذا ما تدل عليه بعضٌ من النصوص الواردة عنهم (ع) ففي المجلد الأول من كتاب عيون أخبار الرضا ص290 تقول الروية: ( قال أبو عبد الله (ع) يقتل حفدتي بأرض خراسان في مدينة يقال لها طوس من زار إليها عارفاً بحقه أخذته بيدي يوم القيامة فأدخلته الجنة وأن كان من أهل الكبائر, قال قلت: جعلت فداك وما عرفان حقه قال: يعلم أنه إمام مفترض الطاعة شهيد ). هذا هو الأصل الذي يبتني عليه الايمان والاعتقاد بالإمامة, أما الاعتقاد بأنه معصوم من الولادة لا قبل البلوغ أو حين مآل الامامة إليه فهذا من كمال الايمان لا أصله.

 وبهذا ظهر الحد الأدنى من الأصول الثلاثة ـ التوحيد والنبوة والإمامة ـ, فما هو زائد عنها لا يخرج عن الدين أو المذهب وإن كان ضرورياً.

 للكلام تتمة.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo