< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/01/21

بسم الله الرحمن الرحیم

فيما هو المختار لدينا من المنهج والأسلوب

 كان الكلام في حديث الأمس حول آية الغنائم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. وقلنا أن هذه الآية تشتمل على مباحث عدة, الا أننا نحاول الاستفادة في مبحثنا هذا ( الخمس) من مفردات هذه الآية. علماً أن هذه الآية من أهم آيات الاحكام في القرآن الكريم, وقد أولاها علماء مدرسة الفريقين عناية خاصة.

 الا أن الملاحظ رغم العناية التي عليها آيات الاحكام فأننا ـ خصوصا في مصنفات الفقه الامامي ـ لا نجد أن البحث في آيات الاحكام يتصدر مؤلفاتنا الفقهية, فمثلا الآيات التي تعرضت لباب الصلاة أو الزكاة أو الصوم لا نجدها في مقدمة الابحاث المتعلقة بأحكامها, بل نجد أن البدء يكون بروايات الاحكام وهذا ما نجده جليا واضحاً في مكاسب الشيخ الانصاري فأنه حينما يريد أن يؤسس الى ضابطة فقهية يلجأ الى التيمن بالروايات دون الآيات, فنراه يقول: (وينبغي أولاً: التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة للمكاسب من حيث الحل والحرمة).

 علماً أننا عندما نرجع الى القرآن الكريم نجد الكثير من آيات الاحكام قد تناولت كثير من المواضيع فمنها على سبيل المثال لا الحصر قد تناولت موضوع التجارة والمكاسب كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم

}, {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون

} و{وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم

}, فنجد أن التعرض لهذه الآيات من الاعلام لا يكون الا استطراداً.

 لذا نجد الفقيه الميرزا التبريزي في إرشاد الطالب المجلد الاول ص8 يقول: كان المناسب التيمن قبل الأخبار بالكتاب المجيد المستفاد منه بعض الضوابط للكسب الحرام كقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم

}.

 من هنا يجب الالفات الى أن من يريد الكتابة في الفقه مستقبلا عليه أن يصدر المواضيع الفقهية بما قيل عنها في كتاب الله أولاً؛ لاستخراج الضابطة الفقهية, ثم اللجوء بعد ذلك الى الروايات.

 أما المقام فأننا سوف نبحث في المرحلة الأولى الآيات الدالة على الخمس لاستخراج الضابطة الفقهية منها, وفي المرحلة الثانية سنتناول الروايات الدالة على ذلك.

 كما أننا سوف نبين الأسلوب المتبع لدينا في البحث عن آيات الاحكام, وسنشير من خلال ذلك الى الفرق بين الأسلوب والمنهج لكي لا نقع في الخلط بينهما كما وقع فيه الكثير.

 ولا باس بالإشارة هنا الى أبرز ما كُتب في آيات الاحكام من المدرستين:

 فما كتب في المدرسة الامامية في ذلك:

 فقه القرآن لقطب الدين الراوندي المتوفى في عام 573 للهجرة

 كنز العرفان في فقه القرآن للفاضل المقداد المتوفى 826 للهجرة

 زبدة البيان في براهين أحكام القرآن للأردبيلي المتوفى 993 للهجرة

 مسالك الإفهام الى آيات الاحكام للفاضل الجواد الكاظمي المتوفى 1065للهجرة

 كما أنني وجدت في بعض الفهارس أن السيد الطباطبائي قد ألف في ذلك الا أنني لم أجد الكتاب المزبور.

 وأما ما كتب في مدرسة أهل السنة في ذلك:

 أصول التفسير للدكتور فهد بن عبد الرحمن أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الملك سعود يقول هناك: المؤلفات في ذلك كثيرة فمن المؤلفات في ذلك من المذهب الحنفي (تفسير أحكام القرآن) لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص, وكذلك (الجامع أحكام القرآن) لأبي عبد الله القرطبي الذي هو التفسير المعروف بالجامع لأحكام القرآن.

 وعلى مذهب الشافعي (أحكام القرآن) لأبي بكر البيهقي و(أحكام القرآن) للهراسي و(الإكليل في استنباط التنزيل) للسيوطي. ومن المذهب الحنبلي (زاد المسير في علم التفسير) لابن الجوزي.

 أما الكتب من الحديثة التي كتبت في ذلك فهي: نيل المرام في تفسير آيات الأحكام, وروائع البيان في تفسير آيات الأحكام للصابوني, وتفسير آيات الأحكام للسايس, وتفسير آيات الأحكام< للقطان وغير ذلك.

 أما الأسلوب المتبع في تفسير آيات الاحكام, فهناك أسلوبان رئيسيان هما:

 الأول: المعروف بالتجزيئي.

 الثاني: المعروف بالموضوعي.

 وهذا الأسلوبان من التفسير مقسمهما الأسلوب, لا التفسير بنحوٍ مطلق, أي: أن التفسير إما أن يكون بالأسلوب التجزيئي وإما بالأسلوب الموضوعي.

 أما حقيقة هذين الأسلوبين فنبينهما على نحو التعريف بالمثال فنقول: أننا تارةً نأتي الى الروايات الموجودة عندنا, فنبحثها واحدةً واحدة وبشكل تفصيلي عن السند والدلالة بغض النظر عن الباب الذي تنتمي إليه الرواية سواء كان باب الصلاة أو الحج أو غيره, وهذا ما نراه قد حصل من قبل صاحب الوسائل حينما شرح الوسائل, وكذلك الشيخ محمد تقي المجلسي حينما شرح كتاب من لا يحضره الفقيه, وهذا ما يعبر عنه بالاسلوب التجزيئي, ففي القرآن كذلك يؤتى الى الآيات ويبحث فيها واحدة واحد بغض النظر عن موضوع الآية, وعن أيٍ باب تتكلم, بل بغض النظر عن الآيات الأخرى التي تتناول الموضوع التي تناولته الآية المبحوث فيها.

 وأخرى يكون البحث في الروايات كما فعله صاحب الجواهر وذلك حينما يأتي الى أي باب من أبواب الفقه فأنه يجمع كل الروايات التي تتعلق بذلك الباب ليستنتج من ذلك نتيجة نهائية يمكن الاعتماد عليها, وهذا ما يسمى بالاسلوب الموضوعي, ففي القرآن يقوم المفسر بجمع الآيات التي تتعلق بموضوع من المواضيع ليخرج من ذلك بنتيجة نهائية يمكن الاعتماد عليها.

 وبذلك يتضح الفرق بين الأسلوب التجزيئي والموضوعي فالأول تؤخذ الآية ويتم شرحها بغض النظر عن المخصص أو الحاكم أو المقيد وهكذا...

 أما الموضوعي فهو خلاف ذلك فكل ما له دخل في التأثير من مخصص وحاكم ومقيد وغير ذلك يكون مأخوذا بنظر الاعتبار.

 ولا ينبغي الإغفال عن أن الأسلوب الترتيبي غير التجزيئي فالأسلوب التجزيئي تارة يكون ترتيبي وذلك كما لو جرى البحث في آيات الاحكام بحسب تسلسل السور, وأخرى لا يكون كذلك وذلك كما في بحث آيات الاحكام بحسب ترتيبها الفقهي.

 هذا هو الفارق الرئيس بين الأسلوب التجزيئي والموضوعي ويترتب عليه ثلاثة فوارق رئيسية هي:

 الأول: لا يشترط في الأسلوب التجزيئي أن يكون البحث فيه منصباً على محور وموضوع واحد, بل قد يشتمل على مواضيع متعددة, وهذا ما يحصل عادة في الآيات الطويلة كآية الكرسي؛ فأنها مشتملة على الشفاعة والعلم وبحث الكرسي.

 أما الأسلوب الموضوعي فلا يكون مشتملا الا على موضوع ومحور واحد.

 الثاني: لا يمكن في الأسلوب التجزيئي الانتهاء الى بيان الموقف الديني من تلك المسألة, فالبحث في الآية أو الرواية لا يحصّل لنا موقفا نهائيا يمكن الاعتماد عليه ما لم يتم تناول كل ماله ارتباط بمسألة البحث, فلا يمكننا الفتيا بعد الانتهاء من بحث آية أو رواية واحدة.

 من هنا ينبغي على المجتهد أن يشير الى هذا المعنى ويمنع من إصدار أي فتوى أو إبداء رأي مبتنٍ على آية أو رواية واحدة ما لم يكن البحث مستوعبا لكل الآيات أو الروايات التي لها دخل مؤثر في بحث المسألة.

 أما الأسلوب الموضوعي فيمكن من خلاله إبداء الرأي والفتيا شريطة أن يكون الباحث في ذلك أهلا للفتيا عارفا بأدواتها والسبل المؤدية إليها.

 من هنا فلابد للفقيه أن يكون متقنا لأصول الفقه والمفسر متقنا لأصول التفسير والباحث في العقائد متقنا لأصول العقائد وهكذا في كل علم.

 الثالث: أن الأسلوب الموضوعي متوقف على الأسلوب التجزيئي, أي: أن الوقوف على الأسلوب الموضوعي لا يتم دون الوقوف على الآيات والروايات واحدةً واحدة, أي: تجزيئياً. أما الأسلوب التجزيئي فهو غير متوقف في الفهم على الأسلوب الموضوعي, وهذا المعنى اشرنا إليه في كتابنا المنهج التفسير ص55 بعنوان العلاقة بين الأسلوبين.

 ولنا أن نتساءل حينئذٍ: أي الأسلوبين نختار ونتبع؟

 لاشك أننا سوف نتبع أسلوبا ثالثا أسميناه بالأسلوب التركيبي لأننا لا نعتقد باستقلالية الأسلوب الموضوعي أو التجزيئي في البحث, بل أننا سوف نجمع بين جميع معطيات الأسلوبين عند حاجتنا لهما في البحث وذلك لفهم الموقف الديني أو فهم موضوعه. وهذا الأمر أشرنا له في ص57 من تفسير اللباب بقولنا : والذي نراه في المقام أن التفسير التركيبي هو أجدى أنواع الأساليب التفسيرية في المقام.

 ولابد لنا هنا أن نشير الى الفرق بين الأسلوب والمنهج فغير غائب أن المفسرين لهم مناهج متعددة قد اعتمدوا عليها في عمليتهم التفسيرية, ومن أوضح هذه المناهج ما يلي:

 المنهج الروائي: وهو التفسير بالمأثور وفي ذلك كتب متعددة لدى المدرستين.

 المنهج العقلي.

 المنهج الكلامي.

 المنهج العلمي أو التجريبي.

 المنهج العرفاني.

 منهج تفسير القرآن بالقرآن.

 فالمنهج هو: الطريقة المتبعة والمعتمدة في فهم الآية بغض النظر عن الأسلوب موضوعيا كان أو تجزيئياً أو تركيبياً.

 وبما أننا لا نعتقد باتباع منهج معين من المناهج الآنفة الذكر, فكان المنهج المختار لدينا هو المنهج الجامع وحقيقة هذا المنهج هو: متى ما أمكن التفسير بمنهج من المناهج فأننا سوف نفسر الآية به ومع عدم إمكان ذلك ـ وهذا أمر ممكن حصوله كما لو انحصر تفسير تلك الآية بالمعصوم, ومن هنا يتضح عدم إمكان الاقتصار على القرآن لفهم بعض المعارف, وتظهر الحاجة الى المعصوم لبيانها وهذا هو المعنى المستفاد من حديث الثقلين ـ فأننا سوف نفسرها بمنهجٍ آخر.

 ومنه يظهر ـ من خلال إتباعنا للمنهج الجامع والأسلوب التركيبي ـ أننا عندما نريد أن نبين موقفا دينياً في مسألة من المسائل لا نكتفي بآية أو آيتين في المقام, بل سوف نتتبع كل الآيات والروايات التي ترتبط بمقام البحث لنعرف المقصود منها؛ ليتسنى لنا بعد ذلك تعيين الموقف وتحديده.

 الا أنه لا يخفى أننا قد نحتاج أحيانا الى الأسلوب التجزيئي وذلك حينما يتوقف عليه الفهم الدقيق للأسلوب الموضوعي وذلك كما في الآيات الطوال كآية الكرسي فأننا لكي نقف على حقيقة الموضوع المبحوث عنه تفصيلا لا بد لنا من مطالعة كل المفردات الموجودة في الآية, وهذا هو معنى الأسلوب التركيبي.

 فلا يرد علينا حينئذٍ القول القائل بوجود التبعيض في المنهج والأسلوب المختار لدينا؛ لأننا أوضحنا بأننا لا نتبع منهجا وأسلوبا معينا من المناهج والأساليب المارة الذكر, بل بينا أن المختار لدينا من المنهج هو الجامع ومن الأسلوب هو التركيبي.

 وقد يقال هنا بعدم وجود الثمرة للبحث في آيات الاحكام بعد العلم بحتمية الرجوع الى الروايات لمعرفة الموقف الديني وتحديده ـ علما أن الاشكال إنما يرد على القائلين بحجية ظواهر القرآن ـ ومنشأ الاشكال هذا قد يكون آتٍ من القائلين بعدم حجية ظواهر القرآن الكريم, وهو ما حدا بكثير من الاعلام الى عدم تصدير أبحاثهم الفقهية بآيات الاحكام, بل هو الذي جعلهم لا يعتنون بالأسلوب الموضوعي في آيات الاحكام كاعتنائهم به في الروايات؛ فلذا فأننا نجد أدق الأساليب الموضوعية في روايات الاحكام في مصنفاتنا الفقهية, ولم نجد ذلك في آيات الاحكام أو التفسير.

 وهذا الأمر ـ الأسلوب الموضوعي في روايات الاحكام ـ جعل الفقه الامامي يتقدم بمراتب عديدة على الفقه في المدارس الأخرى, أما التفسير الموضوعي فهو متأخر عند الفريقين على حد سواء لعدم الاعتناء به, نعم, الملاحظ هو التقدم في التفسير التجزيئي وذلك لكثرة الاعتناء والكتابة بهذا الأسلوب.

 فلذا فأن رقي الأسلوب الموضوعي في التفسير ووصوله الى المرحلة التي وصل إليها الفقه يحتاج الى جهد جهيد وسعي كبير قد يستغرق عشرات من السنين.

 علما أن الثمار الحقيقية التي تترتب على التفسير هي بأسلوبه الموضوعي لا التجزيئي.

 وللكلام تتمة.

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo