< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/02/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الاستدلال بجو الآية وفضاءها على إثبات اختصاص الغنيمة بدار الحرب وما يلاحظ عليه

 كان الكلام فيما سبق من الابحاث في الاستدلال بسياق آية الغنائم لإثبات الاختصاص في مادة الغنيمة فيها بغنيمة دار الحرب.

 وقلنا أن السياق: هو الاستناد الى الآيات المحيطة بالآية محل البحث, المشتركة معها في مضمون الآية وجوها.

 حيث من معلوم أن كل سورة من السور القرآنية تشتمل على مجموعة من الآيات التي تتكلم عن محور ومضمون واحد, والمراد من السياق هو ذلك الموضوع الذي تتكلم عنه تلك الآيات.

 والتعاريف التي قيلت للسياق في المدرسة الاخرى كثيرة, ففي كتاب السياق القرآني وأثره على التفسير دراسة نظرية تطبيقية من خلال تفسير ابن كثير فبعد أن يشير مؤلفه الى تعريف السياق لغة يذكر الاختلاف الحاصل في تعريف السياق بقوله في ص64 ما مؤداه: «لقد اختلف الباحثون في تعريف السياق اصطلاحاً رغم أنه منصوص عليه منذ القدم» علما أنه قد قسم في المقدمة السياق الى سياق لفظي وسياق حالي, أي أن السياق تارة يستفاد من الألفاظ المحيطة بالآية وأخرى من الفضاء الحاكم والقرائن الحالية والمقامية المحيطة بالآية محل البحث ثم يقول في تعريف السياق لغة بأنه: «فهم النص بمراعاة ما قبله وما بعده» ويذكر تعريفا آخر للسياق هو: بأنه «تتابع الكلام وتساوقه وتقاوده» وكذلك: «بيان اللفظ أو الجملة في الآية بما لا يخرجها عن السابق واللاحق, إلا بدليلٍ صحيح يجب التسليم له» وهذا ما اشرنا له في بحث الأمس حينما قلنا أن دلالة السياق هي من قبيل دلالة الاطلاق حين لا مقيد والعموم حين لا مخصص والمحكوم قبل ورود الحاكم.

  ثم يذكر بعد ذلك تعريفا آخر للسياق فيقول: «تتابع المعاني وانتظامها في سلك الألفاظ القرآنية لتبلغ غايتها الموضوعية في بيان المعنى المقصود دون انقطاعٍ أو انفصال».

 ثم يشرع ببيان السياق الحالي ـ قبال السياق اللفظي والمقالي ـ فيقول: «ما يحيط بالنص من عوامل داخلية أو خارجية لها أثر في فهم النص, من سابق أو لاحق أو حال المخاطِب والمخاطَب والغرض الذي سيق له والجو الذي نزل فيه».

 وهذا يكشف بدوره درجة التعقيد التي عليها التفسير وأنها ليست عملية سهلة وساذجة.

 من هنا فأننا نجد أهل البيت عليهم السلام يقولون: (ما أبعد الآية عن عقول الرجال) هذه المقولة التي نرى عدم الاعتناء بها من قبل الاعلام كالاعتناء بمقولة « لا تنقض اليقين بالشك» و«رفع ما لا يعلمون» التي تكلم فيهما الاعلام وفي غيرهما كثيرا بعمق وتفصيل بالغ.

 أما المصنَف الآخر الذي تعرض الى بحث السياق مفصلا وأشار الى العلماء الذين اعتمدوا هذه القاعدة هو: قواعد الترجيح عند المفسرين حيث يذكر صاحب هذا المصنف عددا من الاعلام الذين اعتمدوا على قاعدة السياق لفهم الآية ومن أبرز ما ذكر: ابن جرير الطبري و ابن عطية صاحب المحرر الوجيز والرازي و صاحب تفسير العز ابن عبد السلام والقرطبي وابن تيمية وابن القيم والزرشكي والشوكاني والآلولسي ومحمد عبده.

 هذا فيما يتعلق بمعنى السياق اصطلاحاً.

 هناك معنى آخر للسياق مرتبط في حقيقته بأصول علم التفسير الا أن التعرض له وفهم المراد منه ضروري لفهم الآية ومعرفة المراد منها, وحقيقة هذا المعنى هو: النظر الى مجموع الآيات التي تشكل بمجموعها سورة من السور؛ لمعرفة الموضوع والمضمون, والهدف والغاية التي تتكلم عنها تلك السورة حيث أن تقسيم القرآن الى مجموعة من السور لم يكن أمرا جزافيا بل هناك فلسفة خاصة هدفت الى أن يكون القرآن ذات سور متعددة كل سورة منه تهدف الى أمر خاص وغاية معينة.

 وهذا ما يصطلح عليه بفضاء السورة أو جو نزولها ولعل تقسيم السور الى مكية ومدنية نابع من هذا اللحاظ لكون الظروف الاجتماعية والفكرية في المدينة تختلف عنها في مكة المكرمة.

 الشيخ جوادي آملي في تفسيره تسنيم ص286-287 يقول: لقد أولى مفسروا القرآن الكريم اهتماماً خاصاً ببيان شأن وسبب نزول آيات القرآن لكنهم لم يهتموا ولم يلتفتوا إلى فضاء النزول الذي يتعلق بمجموع السورة, وفرق شأن النزول مع فضاء النزول هو أن شأن النزول يتعلق بالحوادث التي وقعت وكانت سبباً في نزول الآية, أما فضاء النزول فيتعلق بمجموع السورة من حيث دراسات الأوضاع العامة ومواصفات الناس والحوادث والظروف الخاصة المحيطة بفترة نزول السورة فكل سورة من سور القرآن كانت فصلاً جديداً يفتتح بنزول آية بسم الله الرحمن الرحيم, ويختتم ببسملة السورة التالية.

 والبحث الذي نريد طرقه لهذا اليوم بحث أساسي بالغ الأهمية فأننا حينما نرجع الى القرآن الكريم نجده قد قُسم الى سور متعددة كل سورة من سوره تشتمل على مجموعة من الآيات وهذا يكشف عن وجود أصل للسورة فيه, وهذا المعنى أشار اليه السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان بقوله : وقد كثر استعمال السورة في لسان النبي والصحابة والأئمة كثرة لا تدع ريباً في أن لها حقيقة في القرآن الكريم, وهي مجموعة من الكلام.

 ثم قال بأن الآيات التي أشارت الى ذلك قد قالت: «بسم الله الرحمن الرحيم, سورة أنزلناها

» و«فأتوا بسورة من مثله

» فالسورة لها أصل في القرآن.

 ولنا أن نتساءل حينئذٍ: ما هو الوجه في تقسيم القرآن الى مجموعة من السور؟

 السيد الطباطبائي رحمه الله في المجلد الأول من تفسيره الميزان ص16 يقول: «ثم أنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعاً قطعاً وسمى كل قطعةٍ سورة نوعاً من وحدة التأليف لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة, ومن هنا نعلم أن الأغراض والمقاصد المحصّلة من السور مختلفة, لكل سورة غرض خاص, وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنىً خاص ولغرض خاص لا تتم السورة إلا بتمام ذلك الغرض, وعلى هذا فالبسملة في مبتدأ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة » من هنا نجد أن جملة من الفقهاء قد أفتى بعدم الاكتفاء بالبسملة الأولى حين تبديل السورة عند القراءة, بل لابد من الشروع ببسملة جديدة.

 ثم يدخل رحمه الله في بحث آخر مفاده: ما هو الاختلاف الحاصل في عدد سور القرآن وكذلك الاختلاف الحاصل في آياته وذلك فيما لو فرض وجود من يعتقد أن هذين الآيتين مثلا حقيقتهما آية واحدة الباعث حينئذٍ على تغيير تمام المعنى, فيقول في ذلك: «وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ههنا، وذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهى أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في رؤس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل " الر " أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه».

 ففي البحث مقامات ثلاث ينبغي الإشارة إليها, وهي:

المقام الأول:

الترتيب الموجود بين السور القرآنية الذي يبدأ بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس

المقام الثاني:

الترتيب الموجود بين مجموع آيات السورة الواحدة كالترتيب الحاصل في آيات سورة البقرة مثلاً.

المقام الثالث:

الترتيب الموجود بين كلمات وجمل الآيات الطويلة الموجودة في القرآن الكريم كآية الكرسي مثلا.

 ولنا هنا أن نتساءل هل أن الترتيب الموجود في المقامات الثلاث المذكورة توقيفي أم لا؟ وببيان ذلك يتضح إمكان الاستناد الى السياق وعدمه.

 فيما يتعلق بالمقام الثالث: اتفقت كلمة علماء المسلمين أن الترتيب في ذلك توقيفي الهي وحياني, أي: بهذا الترتيب قد نزلت الآية من الله سبحانه وتعالى.

 ولنا أن نتساءل هنا: هل أن فهم الآية مشروط ضمن فهم سياقها أم يمكن تقطيع الآية الى مقاطع متعددة كل مقطع منها يفيد معنى مستقل عما يفيده المقطع الآخر؟

 اتفقت كلمة علماء جمهور أهل السنة أن الآية لا يمكن تقطيعها الى مقاطع متعددة, بل أن فهمها مشروط بفهم كل مقاطعها بدءً بمقاطعها الأولية وانتهاءً بمقاطعها النهائية.

 الا أن المستفاد من كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام أن تقطيع الآيات ممكن لا محذور فيه, وأن ما يفيده المقطع الأول منها غير ما يفيده المقطع الثاني وهكذا... حيث ورد عنه عليه السلام: «قال يا جابر ليس شيء ابعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء» وفي روايات أخرى: (إن الآية يكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل متصرف على وجوه) مع كونه كلام واحد متصل.

 وما يتعلق بالمقام الأول: وهو ترتيب سور القرآن الكريم فهو محل خلاف بين علماء المسلمين حيث أن الأعم الأغلب منهم يعتقد أن الترتيب فيه ترتيب نبوي بدأ بسورة الحمد وانتهى بسورة الناس.

 الا أن التحقيق يثبت أن الترتيب هنا ليس نبوياً, بل ترتيب حاصل حين جمع القرآن في عهد الأول أو الثالث, ولكل واحد من هذين الجمعين خصوصياته المختصة به, علما أنني قد أشرت الى تلك الخصوصيات في بحث تحريف القرآن في كتابي أصول التفسير والتأويل, وأشار إليها السيد الطباطبائي أيضا في تفسيره الميزان المجلد الثاني عشر ص126 في ذيل الآية1-9 من سورة الحجر بقوله: «إن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول والثاني ومن الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين... الى أن يقول: وقد ذهب كثير منهم إلى إن ترتيب السور توقيفي وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم...الخ).

 والحق أن البحث في هذا المقام لا يشكل أهمية بالغة بقدر ما يشكلها البحث في المقام الثاني وهو ترتيب الآيات القرآنية فيما بينها.

 أما فيما يتعلق بالمقام الثاني: وهو المقام الذي يتوقف عليه بحث حجية السياق فمثلا أن آية«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا

» حينما نقول أنها من وضع الرسول عليه الصلاة والسلام يمكننا حينئذٍ الاعتماد على السياق لفهم الآية, والأمر نفسه بالنسبة الى آية الغنائم, أي: اذا ثبت أن الوضع توقيفي ومن وضع الرسول الأكرم يمكننا أيضاً الاعتماد على السياق لفهم الآية.

 أما لو قلنا أن الوضع فيها قد حصل من الآخرين فهل يمكننا حينئذٍ الاعتماد على السياق لفهم الآية أم لا؟ في المقام اتجاهان:

الاتجاه الأول:

وهو الاتجاه العام بين علماء المدرسة الاخرى, المعتقد بأن الترتيب بين آيات السورة الواحدة نبوي وأنه عليه الصلاة والسلام كان يحدد مكان الآية وموضعها وفي هذا الصدد رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي (ص) قال: أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية «إن الله يأمر بالعدل والإحسان

» بهذا الموضع من السورة.

 الا أن السيد الطباطبائي لا يقبل الكلام هذا مورداً عليه قائلا: «وأما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتانى جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية فلا تدل على أزيد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة وعلى تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم ومجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك وانما يفيد انهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم فيما علموه لا فيما جهلوه وفي روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على إنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات ولا بنفسها». وبهذا يظهر أن الاستناد الى السياق في القرآن الكريم لا يتم دون إثبات أن ترتيب آيات السورة الواحدة وحياني توقيفي الهي.

 وللكلام تتمة.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo