< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/03/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الاتجاهات الأساسية في فهم آية الخمس

 كان الكلام في الآية التي عرضت لبحث الخمس في الغنائم وذكرنا فيما سبق إمكان تصور عدة اتجاهاتٍ لفهم المراد من الآية المباركة.

الاتجاه الأول:

وهو الذي يعتقد أن المراد من الغنيمة ـ في الآية المباركة أو من قوله تعالى «ما غنمتم» ـ مطلق الفائدة بما في ذلك أرباح المكاسب.

 علماً أننا عندما نقول مطلق الفائدة أننا نريد الأقسام الثلاثة المتقدمة من الفائدة, وقد تقدم الكلام عن ذلك مع ذكر الشواهد المثبتة له, وكذلك المناقشات والتأملات المحتملة فيه.

الاتجاه الثاني

: وهو الذي يتبناه المشهور من علماء أهل السنة, وتبعهم في ذلك بعض من أعلام مدرسة أهل البيت كصاحب مجمع الفائدة والبرهان ومدارك الأحكام ورياض المسائل.

 وأصحاب هذا الاتجاه لم يستدلوا على مدعاهم بالاستعمال العرفي و الوضع اللغوي؛ لاعتقادهم بأن الاستعمال العرفي والوضع اللغوي سواء كان عاما أو خاصاُ فهو يدل على أن المراد من ( ما غنمتم ) هي غنائم دار الحرب فقط. واستدلوا على ذلك بعدة أدلة أبرزها:

الأول:

الاستدلال بسياق الآيات المحيطة لهذه الآية، فبما أن الآيات بصدد بيان القتال والحرب, وكون آية الخمس واقعة تحت نفس السياق فلابد من كونها تتحدث عن الغنيمة أو الخمس في دار الحرب فقط. ولا يشمل الكلام غنائم غزوة بدر لأنها من مصاديق شأن النزول لا السياق وذلك ما بيناه مفصلاً فيما سبق.

 وأشكل على هذا الدليل بوجهين:

الوجه الأول:

قاعدة المورد لا يخصص الوارد ولعل هذا هو مراد السيد الخوئي في مستند العروة عندما قال بأن المورد لا يخصص الوارد.

 والعبارة في كلام الشيخ اللنكراني(قدس) أكثر وضوحا حيث يقول أن شأن نزول الآية في غزوة بدر وهي من موارد مجرى قاعدة المورد لا يخصص الوارد. إلا أن هذه المناقشة غير واردة؛ لأن فيها خلطاً بين شأن النزول والسياق، والإيراد إنما يكون صحيحا فيما إذا كان الاستدلال بشأن النزول لكن ذلك لم يكن, بل أن الاستدلال كان في السياق ومعلوم أن السياق قرينة متصلة تهدم أصل الظهور ولا تعطي أي مجالٍ لانعقاد الظهور في الإطلاق حتى يُبحث أنه يوجد مخصص أو لا يوجد.

الوجه الثاني:

أن الاستدلال بالسياق في كل موضعٍ من مواضع القرآن الكريم يتوقف على إثبات أصلين:

الأصل الأول:

أن يثبت لنا أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة ترتيب نبوي توقيفي وحياني, ومع عدم ثبوت ذلك ولو بنحو السالبة الجزئية ـ ولا يشترط في ثبوت ذك أن يكون بنحو السالبة الكلية ـ تتولد عندنا شبهة مصداقية.

 إذن لكي يمكننا أن نستدل بالسياق لابد من إحراز أن هذا الترتيب توقيفي وحياني، وهذا الأمر يحتاج إلى بحث معمقٍ ومفصلٍ يتم الكلام عنه فيما محله انشاء الله.

 والملاحظ أن الأعلام لم يتعرضوا له ـ الترتيب التوقيفي ـ بعمق وتفصيل إلا نادرا؛ وذلك للقداسة التي يرونها في الصحابة.

 والأمر نفسه عند علماء أهل السنة لاعتقادهم أن الصحابة لا يتصرفون في الآيات بتقديمٍ أو تأخيرٍ، فلم يعيروا لهذا الأمر أهمية.

الأصل الثاني:

مع فرض ثبوت الترتيب التوقيفي الوحياني الإلهي لا يمكن الاستدلال بالسياق دون إثبات أن النبي إنما وضع هذه الآية في هذا الموضع لأجل الارتباط المضموني بين الآيات. وإلا لو شككنا أو أحرزنا أن رسول الله وضع الآية في هذا الموضع لا لأجل ذلك ـ الارتباط المضموني ـ بل لأمرٍ آخر، سواء فهمنا ذلك من خلال رفع الآية عن موضعها مع عدم حصول اختلالٍ في مضمون الآيات المحيطة بها أو من خلال أمر آخر, فهذا يكشف عن أن وضعها في هذا الموضع كان لأجل نكتة أخرى، وإلا لو كان الوضع للارتباط المضموني للزم اختلال السياق وعدم حصول الانسجام بين الآيات.

 إذن الاستدلال بوحدة السياق مرتبط بمسألتين أساسيتين في علم أصول التفسير هما:

أولاً:

أن الترتيب بين الآيات في السورة توقيفي.

والثاني:

للارتباط المضموني.

 وهنا مسألة لا بد من الالتفات إليها مفادها: أنني لم أجد من خلال متابعاتي لكلمات الأعلام أن أحداً منهم تعرض إلى الأصل الثاني ـ الارتباط المضموني ـ بعد فرض تحقق الأصل الأول، بل أن كلماتهم كانت تدور حول ثبوت الأصل الأول، وأن السياق متوقف عليه.

 وبناءً على الأصلين المذكورين يمكن للبعض أن يستشكل على صاحب الميزان ـ الذي لا يقول بأن الترتيب بين الآيات في السورة الواحدة ترتيب توقيفي ولو بنحو السالبة الجزئية ـ بأنه يمكنه أن يستدل في القرآن بالسياق شريطة إثبات أن الترتيب توقيفي وحياني إلهي، الا أن هذا ما لا نجده في تفسيره, بمعنى أن السيد الطباطبائي في كثير من المواضع يستدل بالسياق لكن دون أن يثبت الكبرى القائلة بـ( لا بدية الترتيب التوقيفي الوحياني) ، لذا لابد أن يلتفت إلى هذه الحقيقة على مبنى السيد الطباطبائي في أنه ذكرها على نحو المستوى النظري دون الالتزام بها في تفسيره.

 أما معرفة هل أن السيد الطباطبائي التزم بهذا المبنى في علم أصول التفسير في عملية التفسير أو لم يلتزم؟ هذا يحتاج إلى بحث مفصل ودقيق يأتي في محله إنشاء الله.

 ولابد من الإشارة إلى أن مسألة الترتيب التوقيفي بين آيات سورة واحدة هي محل خلاف قديم بين أعلام هذا الفن وليس أن السيد الطباطبائي هو الذي طرحها ولم يلتزم بها، بل أنها مسألة وقعت موضع النقد والإبرام من القديم وجرى البحث فيها من قبل علماء مدرسة أهل البيت و علماء مدرسة أهل السنة ومن ابرز موارد ذلك: ما في كتاب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي حيث يقول: قال القاضي أبو بكر ابن الطيب وترتيب السور اليوم هو من تلقاء زيد - زيد ابن ثابت من الذين جمعوا القرآن- ومن كان معه مع مشاركة من عثمان, فالقضية بالنسبة إليه واضحة بأن ترتيب السور ليس ترتيب توقيفي رغم إصرار بعض أعلام أهل السنة على أن هذا الترتيب هو ترتيب نبوي ولم يتصرف فيه أي واحد من الصحابة.

 وقد ذكر فلان, ـ أو ذُكرـ أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت السورة دون بسملة, هذا أحد الأقوال التي قيلت في سورة البراءة, وذلك مستقصاً في موضعه،

 وكذلك ما ورد في تفسير القمي الذي يقول: أن الآيات الموجودة في السور قد طالها التقديم والتأخير, وذكر لذلك مجموعة من الشواهد لإثبات مدعاه منها:

 1ـ في ص8, من آية عدة النساء حيث أن الآية الناسخة قد تقدمت على الآية المنسوخة, ومقتضى القاعدة هو: أن تكون الآية المنسوخة متقدمة على الآية الناسخة.

 2ـ ما هو موجود في سورة لقمان، فحينما نقف عندها نجد وبشكل واضح وصريح هذا المعنى حيث تقول الآية: «بسم الله الرحمن الرحيم, وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» الواضح أن لقمان بصدد موعظة ابنه, فمقتضى القاعدة أن تأتي مواعظ لقمان لابنه تباعاً أي:«يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة», «يا بني أقم الصلاة ولا تصعر» وهكذا,: ولكننا نجد الشيخ القمي يقول:أنه بعد قوله «إن الشرك لظلم عظيم» تأتي آية «ووصينا الإنسان بوالديه» وهي تكشف عن عدم وجود علاقة بين «ووصينا الإنسان بوالديه» وبين مواعظ لقمان لابنه. نعم إلا أن يثبت أن رسول الله قال افعلوا ذلك, حينئذٍ لابد أن نبحث عن ماهية النكتة في ذلك، أما إذا لم يثبت ذلك بنحوٍ قطعي عن رسول الله, فمن الواضح أن آية «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم, ووصينا الإنسان بوالديه» ليس فيها أي علاقة بين وصية الله الإنسان بوالديه ووصايا لقمان لابنه, إلا لخصوصية واحدة وهي التوصية.

 إذن يوجد قول بأنه ولو بنحو السالبة الجزئية أن الترتيب في بعض الموارد ليس ترتيباً توقيفياً بل هو من الصحابة.

 ولعل في النصوص الواردة عندهم إشارة الى هذا المعنى, علما أني لم أجد النصوص الواردة الآن لعلها نصوصا صحيحة وموجودة. نعم, في الروايات الواردة عندنا توجد كثير من الروايات فيها تقديم للكلمات أي: كلمة تقدم على كلمة نحو نموت ونحيا, بعض الروايات تقول أن الآية المباركة نحيا ونموت وذلك بسبب أن الدهرية كانوا لا يعتقدون بوجود حياة بعد الموت, فمقتضى القاعدة نحيا ونموت لا نموت ونحيا.

 هذه الرواية موجودة في مسند الإمام أحمد ابن حنبل بتحقيق الأرنؤوط الجزء الثالث ص240 الرواية هذه, >عن عباد ابن عبد الله ابن الزبير قال جاء الحارث بن خزمة - في بعض النسخ خزيمة- ابن خزمة بهاتين الآيتين من آخر براءة «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» جاء بها إلى عمر ابن الخطاب, فقال: من معك على هذا, قال لا أدري والله إني أشهد لسمعتها من رسول الله ووعيتها وحفظتها, هذا القرآن الذين يدعون بأنه ثابت عند القوم نحن نعتقد بصحته ولكن منهم من يعتقد أنه ثابت بهذه الطريقة أنه جاء شخص وقال هذه من القرآن وأيده آخرٌ وجعلوه قرآن- هكذا إثبات نحن لا نوافق عليه واقعاً, قال: لا أدري والله إني أشهد لسمعتها من رسول الله ووعيتها وحفظتها فقال عمر وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله ثم قال - الآن ثم قال لا أدري عباد قال أم حارث قال أم عمر قال ليست معلومة الرواية- ثم قال: لو كانت ثلاث آياتٍ لجعلتها سورة على حده فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعتها في آخر براءة. الرواية صريحة في أن الترتيب لم يكن ترتيباً نبويا, ولو بنحو السالبة الجزئية.

 الملتفتين لتلك الرواية قالوا بتضعيفها, لهذا يقول سنده ضعيف لتدليس محمد ابن إسحاق ولانقطاعه ولكن الأهم في هذه الرواية: أنها منكرةٌ شاذةٌ من حيث المتن, يعني حتى مع فرض صحة الرواية فالمتن صحيح أو غير صحيح؟ لتواتر أن الترتيب بين الآيات ترتيب توقيفي.

 من هنا يتضح أن هؤلاء يقولون بأنه لا نقبل المتن وإن صح السند يعني أن الميزان يكون مضموني دلالي لا سندي.

الوجه الثالث:

مع فرض ثبوت وحدة السياق وكون الترتيب وحياني وأن الوضع من النبي كان لأجل الارتباط المضموني, فهل يدل هذا على الاختصاص بغنائم دار الحرب أو لا يدل؟ لبيان ذلك بصورة جلية علينا الاستفادة من بعض الآيات لتأصيل أصول في علم أصول التفسير.

 وكذلك أن الركون والاستناد إلى وحدة السياق حتى مع التنزل عما قلناه في الوجه الثاني ممكن أم لا؟

 هناك أصلٌ في علم أصول التفسير يقول: تارةً أن الآية التي تحيط بها مجموعة من الآيات لا تبين لنا قاعدةً كلية ليكون السياق من مصاديقه, بل أنها مرتبطة بسياق هذه الآية وذلك كما في الآية المعروفة: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» فالسياق في هذه الآية هو نساء النبي, ومعلوم لغةً إطلاق أهل البيت على النساء, وعرفاً على أزواج الرجل, وفقهاً على نساء وأزواج الرجل.

  من هنا لا توجد مشكلة لغوية أو عرفية أو فقهية في ذلك, فعندما نريد القول بأن الآية لا تشمل نساء النبي لابد لنا من قرينة خارجية.

 لذا نجد أن الاستدلال بالسياق ـ في شموله لنساء النبي ـ استدلال قوي, والقول بعدم شمول الآية لهن يتوقف على إثبات أن الترتيب ليس ترتيبا نبويا الهي، أو أن الارتباط لم يكن لنكتةٍ مضمونية، أو إثبات ذلك عن طريق قرينة خارجية, أما مع عدم ذلك فالسياق حاكم على أن المراد من أهل البيت هم نساء النبي.

 أما النوع الآخر من الآيات، فأن الآية موضع البحث وإن جاءت في سياق آياتٍ أخرى, إلا أن السياق لا يخصصها، وذلك لأن السياق مصداقٌ من مصاديق الآية, وليس معينا لمضمونها.

 ووضوح هذه القاعدة يتجلى أكثر من خلال الأمثلة الآتية:

 1ـ ما ورد في سورة البقرة الآية 185 قال تعالى : «بسم الله الرحمن الرحيم, شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, فمن شهد منكم الشهر فاليصمه, ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر» «فعدة من أيام أخر, يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» ثم قالت: «و لتكمل العدة ولتكبروا الله على ما هداكم» واضح أن الله يريد اليسر بالعباد دون العسر، وورود الآية في سياق الصوم «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام» وقوله «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» لا ينافي كونها تؤسس لقاعدة عامة، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء أما السياق فهو محفوظ وهو هنا مصداق من مصاديق هذه القاعدة وغير مقيدٍ لها.

بعبارة أخرى:

أن المورد - السياق لا شأن النزول - وهو الصيام لا يخصص الوارد،وذلك لأننا في مقام تأسيس قاعدة تقول: أن الشريعة قائمة على أساس اليسر لا على أساس العسر.

 2ـ ما ورد في سورة البقرة الآية 195, قال تعالى: «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» فسياق الآية الإنفاق في سبيل الله، أما شأن نزولها كما يقول الواحدي في أسباب النزول: أن الأنصار أٌمروا بالإنفاق فخشوا أن تضيع أموالهم ولا يستطيعون أن تستمر حياتهم الطبيعية فلذا أمسكوا عن الإنفاق. فالآية لم تكن تتكلم عن الأنصار أو عن المهاجرين, بل تتكلم عن وجوب الإنفاق في سبيل الله، أما آية «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» فهي غير مختصة بمورد عدم الإنفاق في سبيل الله فقط وذلك لأن عدم الإلقاء في التهلكة قاعدة عامة تشمل مورد عدم الإنفاق وغيره من الموارد.

 3 ـ ما ورد في سورة الحج قال «وجاهدوا في الله حق جهاده» الآية مرتبطة بالجهاد في سبيل الله، وأما آية «هو اجتباكم, وما جعل عليكم في الدين من حرج» فهي قاعدة عامة وغير مختصة بباب الجهاد فقط ويؤيد ما نحن فيه ما ورد عن أحد الإمامين الباقر أو الإمام الصادق× في الفروع من الكافي المجلد الخامس من الطبعة الجديدة, ص104 الراوية عن عبد الأعلى مولى آل سام, قال >قلت لأبي عبد الله الصادق عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء, فقال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل, «ما جعل عليكم في الدين من حرج» امسح عليه<. إذن قوله امسح عليه جُعل من مصاديق « ما جعل عليكم في الدين من حرج» مع العلم أن مورد الآية هو الجهاد في سبيل الله, وبه يتبين أن مورد الآية من مصاديق هذه القاعدة.

 من هنا نريد أن نعرف أن آية الخمس«واعلموا أنما غنمتم من شيء»

  هل هي من قبيل (إنما يريد الله ) أو من قبيل (وما جعل عليكم في الدين من حرج) هذا ما سيأتي في درس الغد إنشاء الله

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo