< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/03/03

بسم الله الرحمن الرحیم

تأثير السياق القرآني على ظهور الآيات

 انتهى بنا الكلام في حديث الأمس إلى أصل أصيلٍ ومهم في علم أصول التفسير, وهو: هل أن السياق يكون دائماً قرينة متصلة لهدم الظهور وهل هو دال على العموم أم لا؟

 بينا بالأمس أن هذه القاعدة ليست قاعدة تامة ودائمية, لأننا نجد في كثيرٍ من الأحيان أن السياق يكون لبيان مصداق من مصاديق الآية دون التقييد لها, وبناءً على ذلك هل يمكن أن يقال بأن السياق - لا شأن النزول- أو المورد يخصص الوارد أم لا ؟ هنا لابد من النظر إلى الآية المباركة مورد البحث فتارة أن المورد فيها يخصص الوارد وأخرى ليس كذلك.

 فلو نظرنا إلى الآيات فوجدناها من قبيل الآيات التي أشرنا إليها بمحاضرة الأمس مثل قوله تعالى: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» فلا شك أن السياق و المورد فيها لا يخصص الوارد, ومن هذه الموارد آية الخمس فالآية المباركة وإن كانت نازلة بشأن الحرب والقتال كما في سورة الأنفال الآية 43 حيث يقول تعالى: «واعلموا أنما غنمتم» فالآية وإن كان ما قبلها هو: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» وما بعدها هو «وما أنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان» ـ هذا مبتنٍ على المراد من التقاء الجمعين هو غزوة بدرـ فإن هذه الآية لا يكون السياق فيها مقيداً أو مخصصاً لها بغنائم دار الحرب؛ وذلك لأن الآية المباركة عامة و مطلقة وهي في مقام بيان أن غنائم دار الحرب مصداق من مصاديقها.

 وربما يكون هذا المعنى مستظهر من كلام العلامة الطباطبائي& ومراداً له وهذا ما نجده في المجلد التاسع في ذيل هذه الآية من سورة الأنفال الآية 90 و91 حيث يقول: فمعنى الآية: «وأعلموا أن خمس ما غنمتم من شيء» أن «من شيء» مطلقة وغنائم دار الحرب مصداق من مصاديقها, وهذا أحد الوجوه التي استدل بها أصحاب الاتجاه الأول حيث قالوا: إن «من شيء}

تشمل غنائم دار الحرب وغيرها.

 أما نحن فقلنا أن «من شيء» بيان لـ (ما)ـ لما غنمتم ـ التي يكون بيانها بصلتها (غنمتم) فلهذا فأن ما الموصولة لا يمكن أن تكون مطلقة. لكن العلامة الطباطبائي يرى أن «ما غنمتم» يعني أي شيءٍ فلذا نراه يقول: وظاهر الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبد سواء كان ذلك في غنائم دار الحرب أو غيره.

 أما الحكم فهو متعلقٌ بما يسمى غنماً وغنيمةً سواء كان ذلك من غنائم دار الحرب المأخوذة من الكفار أو غيرها من الغنائم كالغنائم بالمعنى اللغوي كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من الكنوز والمعادن, وكون مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس من شأنه أن يخصص الوارد, وهذا ما تم الإشارة إليه بالوجه الثاني, وهو متوقف على تفسير المورد بالسياق لا شأن النزول وإلا فأن القرآن يؤول الى الزوال والانعدام.

 فلذا يقول: فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية, وعليه وردت الأخبار, وهو إشارة إلى الوجوه الأخرى التي استدل بها للوجه الأول.

 وعليه فخلاصة الوجه الثاني هو: مع أننا نلتزم أن «ما غنمتم» ورد في سياق القتال والحرب إلا أن المورد فيها غير مخصص للوارد؛ وذلك لأن الآية فيها ظهورٌ لبيان وجوب الخمس في مطلق الغنيمة ومن مصاديق ذلك غنائم دار الحرب.

 من هنا يمكن الدفاعً عن السيد الخوئي+ بالقول: أنه حينما قال أن المورد لا يخصص الوارد فأن مراده من المورد السياق لا شأن النزول فنراه يقول: في ص195 من مستند العروة ولا ينافيه ذكر القتال في الآيات السابقة عليها واللاحقة لها, لما هو المعلوم من عدم كون المورد مخصصاً للحكم الوارد عليه.

 ولا يخفى أن هناك بعض من الاعلام قد خلط بين المورد و شأن النزول وهذا ما نراه في كلمات الشيخ اللنكراني+ في كتابه الخمس, ففي ص10 من الكتاب يقول: ويدل على عموم الغنيمة في آية الخمس وعدم الاختصاص بغنائم دار الحرب وكذلك يقول على أن تعليق الحكم على ما غنمتم إنما هو بصورة الفعل الماضي ولم يقل أحد باختصاصها بغزوة بدر مع كونها شأن نزول الآية ـ وإلا لو كانت مختصة بغزوة بدر فهي لا تجري في الحروب الأخرى لأنها مختصة بشأن نزول الآيةـ الى أن يقول: أن المورد لا يخصص الوارد, وواضح أنه هذا لا يمكن قبوله لأنه خلط بين شأن النزول والمورد.

 من هنا إن كان مقصود السيد الخوئي الاحتمال الأول فجوابه قد أتضح, وأما إذا كان مقصوده الاحتمال الثاني ـ المورد غير مخصصٍ للوارد ـ فكلامه غير تامٍ على إطلاقه وذلك؛ لأن المورد قد يكون مخصصاً وقد لا يكون كذلك,ولا يمكننا القول على نحو القاعدة العامة أن المورد لا يخصص الوارد, بل علينا أن ننظر إلى أن الآية هل هي بصدد إعطاء قاعدة كلية أم لا, عند ذلك يمكن القول أن المورد مخصص الوارد أم لا.

  أما إذا استظهر من آية الخمس أنها ليست بصدد إعطاء قاعدة كلية, فالمورد مخصص للوارد وهذا ما ذهب إليه بعض الاعلام.

 وهذا تابع لاستظهار الفقيه, ولذا نجد أن من أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء هو استظهار النصوص سواء في الآيات أو الروايات.

 السيد الطباطبائي يرى أن الآية فيها ظهور على أنها في مقام إعطاء قاعدة عامة, أما الآخرين وكثير منهم من مفسري المسلمين من الفريقين لم يفهموا منها ما فهموه من قوله «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».

 بناءً على هذا الأساس فإن تم هذا الاستظهارـ الآية في مقام إعطاء قاعدة عامةـ يمكن أن يجعل هذا دليلاً آخر لإثبات الاتجاه الأول القائل: أن الغنيمة في الآية عامة وشاملة لمطلق الأرباح بما فيها أرباح المكاسب, وهذا الكلام لا يمكن الحكم عليه بأنه تام أم لا دون الإشارة الى مهم بعض النكات وهي:

 الأولى: عدم إمكان استظهار القاعدة من الآية وأن المقام و المورد من أحد مصاديقها, ثم إن كان هناك ظهور فهو ظهور مشكوك وضعيف, فالآية «واعلموا أنما غنمتم من شيء» ما لم يتم الاستناد الى بعض الوجوه السابقة أو الى الروايات أو نفس الظهور, لا يمكن تحقيق المراد منها.

 فلذا نجد من حاول إثبات العموم - حتى من فقهاء الامامية- لم يستندوا إلى ظاهر الآية, بل أنهم استندوا إلى الروايات الوارد في ذيلها قرينة {من شيء} وإلى اللغة أيضاً, وهذا يكشف عن أن الآية بنفسها لا ظهور لها في العموم والشمول.

 إذن لا وجود لقرينة واضحة على هذا الاستظهار الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي.

 الثانية: عدم إمكان الاعتماد على الظهور المشكوك والمتزلزل لإثبات مثل هذه الأحكام ـ أحكام الخمس ـ الأساسية, ومما ينبغي الإشارة إليه هو أن أحد الوجوه التي استدل بها أهل الاختصاص هو: أن الخمس لو كان من الأحكام المهمة والأساسية في الشريعة لكان الاعتناء به في القرآن الكريم كالاعتناء بأمر الزكاة؛ وذلك لأننا نجد أن أمر الزكاة قد ورد في كثيرٍ من الآيات أما أمر الخمس فلم يأتي إلا في آية واحدة, وهذا يكشف عن أن هذا الأمر _ أمر الزكاةـ دائمي سيال أبدي مرتبط بحياة الناس.

 الثالثة: مع التسليم بأن الآية بصدد إعطاء قاعدة كلية, إلا أن هذا لا يكفي دون معرفة المراد من الغنيمة فهل هي شاملة لجميع أنواع الفائدة أم لا ؟ بينا فيما سبق أن الغنيمة غاية ما تشمله من الناحية اللغوية هو: القسم الأول والثاني من أنواع الفائدة, ولا يمكن لنا قبول قول القائل بأن «من شيء» شامل لكل أنواع الفائدة.

 وبهذا يتبين أنه حتى مع فرض كون القاعدة عامة فهي غير نافعة في إثبات الخمس في أرباح المكاسب أيضاً.

 الدليل الثاني: الاستناد إلى النظائر وتتبعها في القرآن, فعند الرجوع إلى القرآن الكريم نرى أن استعماله للغنيمة - مرادنا من الغنيمة هو المادة بأي صيغة كانت- يراد به غنائم ومغانم دار الحرب, فهذه - النظائر- تعد قرينة على أن المراد من غنمتم هي غنائم دار الحرب. وهذا ليس استدلال بالسياق أو بالآيات المحيطة ,فلا يرد الإشكال القائل أن هذا الترتيب ليس ترتيباً وحياني الهي؛ لأن هذه الآيات وردت بنحو مستقل, في موارد الحرب.

 والآيات الواردة في هذا المجال هي:

 ما ورد في الآية 69 من سورة الأنفال, قال تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم*

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وما بعدها «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى» و ما قبلها «الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ» فهي تتكلم عن الحرب والقتال إذن {فكلوا مما غنمتم} هي في أمور الحرب والقتال.

 وما ورد في سورة الفتح وهي الآية 15 والآية 19 والآية 20 من سورة الفتح «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ» و الآية «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا* وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا* وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا» وكذلك ما ورد في سورة النساء الآية 94 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ» وهذه الآية مرتبطة «إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» }. هذه هي الآيات الخمس التي استدل بها و جعلت قرينة على أن المراد من الغنيمة, غنائم دار الحرب.

 والاستدلال بالنظائر لفهم مورد الآية قد ورد كثيراً في ألسنة المفسرين خصوصاً في الموارد التي يكون المورد فيها وارد أكثر من مرةٍ في القرآن كلفظ العرش إذ لعله ورد في ثمان موارد «العرش العظيم» «العرش المجيد» وغير ذلك. بالإضافة الى ذلك ينبغي معرفةُ كبرى مفادها: أن تكرار مادة معينة بصيغ متعددة, هل يكون المعنى فيها واحد أم أنه ليس كذلك ويلزمنا حينئذٍ أن نتتبع كل مورد وأن نبحث عن معناه, نعم في بعض الأحيان القرائن والخصوصيات تبين لنا نوع الاستعمال.

 وهنا لابد من الالتفات الى أن المتكلم حينما يكون واحداً وورد في كلامه اصطلاحٌ لأكثر من مرةٍ فالأصل أنه ـ الاصطلاح ـ موضوع لمعنى واحد إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك. مثلا عند الرجوع الى لفظ العرش وأنه نزل بلسان عربي «وجعلناه قرآناً عربيا» حينئذٍ نرجع إلى اللغة ليتبين لنا معناه, نعم قد يدل دليل على خلاف المعنى اللغوي وهذا ما نراه واضحا في الأبعاد العقائدية والأبعاد الفقهية الموجودة في القرآن الكريم كقوله تعالى :«ربي أرني كيف انظر إليك» «أرني» وهناك آية أخرى تقول «ألم يعلم بأن الله يرى» فالرؤية في هذا اللفظ له معنىً في اللغة والأصل فيه أنه موضوع لمعنى واحد والكلام نفسه في لفظ العرش و الكرسي و القلم و اليد كما في قوله: «يد الله فوق أيديهم» والوجه «كل شيء هالك إلا وجهه».

 من هنا عندما قال المولى صم للرؤية وافطر للرؤية, نقول أن المراد منها رؤية العين المجردة, ولذا نجد مشهور الفقهاء يقول بعدم جواز الاعتماد على العين المسلحة لإثبات الرؤية؛ وذلك لأن المراد منها هي ما كان بالعين المجردة لا العين المسلحةً.

 وهذا الأمر ـ استعمال اللفظ وتكرر مجيئه في القرآن الكريم بمعنىً واحدـ يعد من أهم أعمدة نظرية تفسير القرآن بالقرآن ومع إنكار هذا الأصل فأن هذه النظرية تكون ساقطة عن الاعتبار.

 ولا يخفى أن هناك نقطة تحتاج إلى بحث وتحقيق وهي: حينما يكون اللفظ موضوعاً لمعنىً ولذلك المعنى مصاديق متعددة ومختلفة فبعضها يكون متعارف و مأنوس وبعضها ليس كذلك, فحينما نرجع الى القرآن الكريم نجد أن ألفاظاً كالعلم والقدرة والحياة واضحة المعنى والمراد في اللغة, ولكن عندما نأتي إلى مصاديق تلك المعاني نجدها يختلف بعضها عن الآخر فمن العلم ما هو واجب و ممكن ومنه ما هو جوهر و عرض.

 ولنا هنا أن نسأل: أن اللفظ عندما وضع لمعنىً وكان لذلك المعنى مصاديق مختلفة ومتعددة فهل الوضع كان للمفهوم والمعنى أم انه كان لبعض المصاديق؟

 إن قلنا أن الواضع وضعها لبعض المصاديق دون البعض يكون حينئذٍ استعمالها في غير ما وضع له مجازياً, وأما لو قلنا أن الواضع وضعها للمفهوم فحينئذٍ يكون استعمالها في كل المصاديق حقيقياً.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo