< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/03/04

بسم الله الرحمن الرحیم

حقيقة الوضع، وتأثيرها على المعارف الدينية

(1)

 انتهى بنا الحديث بالأمس إلى مسألة مهمة يترتب عليها الأثر الكبير على مستوى الأبحاث العقائدية و الفقهية وهي ما يرتبط بمباحث الوضع الذي يبحث في علم الأصول.

 والمسألة التي وقفنا عندها في المحاضرة السابقة لم يعرض لها الأعلام في مبحث الوضع, علماً أنها تارة تبحث في علم أصول الفقه وأخرى في علم أصول التفسير, فباعتبار أن لها آثار فقهية فتكون من مسائل علم أصول الفقه, وباعتبار أن لها آثار عقدية فتكون من مسائل علم أصول التفسير.

 وهذه المسألة قد تعرض لها جملة من الأعلام قديما إلا علماء الأصول, فلم يعرضوا لها لسببٍ سوف أبينه في علم أصول الفقه مع بيان وتحرير محل النزاع فيها؛ وذلك أن تحرير محل النزاع في أي مسألةٍ من المسائل يشكل نصف الجواب لها, فكثير من الأحيان نجد أن النزاع يقع بسبب عدم تحرير ذلك.

 أما ما نحن فيه.

 نقول أن أي عملية لها ـ بحسب الظاهر من نظرية المعرفةـ أركان ثلاثة:

الركن الأول:

اللفظ, المتغير من لغة إلى لغة أخرى.

الركن الثاني:

المفهوم أو المعنى الذي وضع بإزائه اللفظ للتعبير عنه حتى يحصل التفاهم, وهنا وقع بحث مفصل ودقيق في حقيقة نسبة اللفظ إلى المعنى, فهل هو علامة أم آية أم اقتران وهذا ما سوف نبينه في أبحاث علم أصول الفقه إنشاء الله.

 وخصوصية الركن هذا أنه ثابت لا علاقة له باللفظ فالمعنى الذي يوضع له لفظ الماء مثلا في اللغة العربية هو نفسه الذي وضع له لفظٌ آخر في لغة أخرى.

 الركن الثالث: المصداق وهنا ينبغي أن نشير الى أمر مهم وهو أن المفهوم سمي مفهوماً لأنه ينطبق على مصداق, وعرضت لذلك مفصلاً في شرح الأسفار الجزء الثاني حيث بينت: إن مصاديق المفاهيم هي المصاديق النفس الأمرية التي بعضها لها وجود خارجي وبعضها ليس كذلك, فقولنا شريك الباري ممتنع, هذه القضية صادقة لوجود مطابق لها في الواقع ونفس الأمر, وكذلك زيد قائم صادقة عندما يكون زيد قائم في الواقع الخارجي, ومع عدم ذلك تكون القضية كاذبة.

 وبهذا يتضح أن الصدق ليس مناطه الانطباق مع الواقع الخارجي, بل الانطباق مع عالم نفس الأمر .

 وما نريد الكلام عنه الآن في المصاديق هو نفس ما قرره المظفر رحمه الله في منطقه الذي يرتبط بالمصاديق الموجودة في الخارج فقط.

 فالواضع عندما يضع لفظاً لهذا المفهوم والمعنى وكانت له مصاديق متعددة في الخارج بعضها متعارف ومأنوس وبعضها ليس كذلك, فهل يختص اللفظ بالمصاديق المتعارفة والمأنوسة بحيث لو استعمل اللفظ في مصداقٍ آخر فهل يكون استعمالاً مجازياً أم أن الأمر ليس كذلك؟ مثلا أن الواضع وضع لفظ الرؤية لمعنى الرؤية بالعين المجردة فلو فرضنا أنها تحققت من خلال مصداق آخر لا علاقة له بالمصداق الأول فهل استعمال الرؤية في ذلك ـ المصداق الآخر ـ استعمالا حقيقيا أم مجازيا؟ بيان ذلك يتوقف على بيان اتجاهين مهمين في المقام هما:

 الأول: أن اللفظ قد وضع لمعنىً من المعاني ولذلك المعنى مصاديق متعارفة وكان ذلك إما بسبب كثرة الاستعمال وإما بسبب غلبة الوجود, وبينا في ما سبق من مباحثنا المراد من كثرة الاستعمال حيث قلنا بأن اللفظ له مصاديق متعددة لكن استعماله في هذا المصداق أكثر من استعماله في بقية المصاديق, وهذا يؤدي الى انصراف اللفظ لتلك المصاديق فقط, وبذلك يكون استخدام اللفظ في المعاني التي يتحقق إليها الانصراف حقيقيا وفي غيرها مجازياً إلا مع القرينة. أما في غلبة الوجود ـ وهو فيما إذا كان بعض المصاديق أكثر وجودا من الآخرـ فلا قائل بالانصراف.

 وعلى هذا الأساس ـ الانصراف بسبب كثرة الاستعمال ـ نجد أن من أهم أدلة القائلين بعدم جواز الاعتماد على الرؤية المسلحة لإثبات الهلال أن اللفظ غير منصرفٍ إلى الرؤية المسلحة.

 والأمر نفسه في باب النجاسات فلو افترضنا أن هناك نجاسة على الثوب تتعذر رويتها بالعين المجردة, وليس كذلك بالمكر سكوب فهل يلزمنا هنا التحرك لرفع النجاسة عن الثوب مع فرض أن الرؤية ـ بالمكر سكوب ـ هي مجازية وليس حقيقية بسبب عدم الانصراف إليها, والكلام نفسه في الرؤية المثبتة للهلال فالانصراف فيها الى الرؤية المجردة دون المسلحة وذلك بسبب كثرة الاستعمال فهل الاستخدام فيهما حقيقيا أم أنه في المجردة حقيقي وفي الآخر مجازي.

 ونجد أن القضية أكثر تعقيدا في الأمور العقدية لاختلاف المصاديق من نشأة الى نشأة أخرى ففي عالمنا هذا نرى أن للمفهوم مصداق وله في عالم العقول المجردة مصداق آخر, وهو يصدق عليهما معاً على نحو الحقيقة, فعندما نرجع الى القرآن نجده مملوء بالصفات الخبرية كما يعبر أهل السنة وذلك من قبيل الوجه و اليد و المجيء و النزول و الصورة. فهل هذه الألفاظ محمولة على ظاهرها؟ ومع حملها على ظاهرها فما هي مصاديقها المألوفة والمتعارفة؟

 من هنا نجد أن المجسمة وقعوا في هذه الاشكالية فقالوا: أن القرآن يقول: {بل يداه مبسوطتان} {يد الله فوق أيديهم} فلله يد ووجه وصورة حتى قال قائلهم >اعفوني عن اللحية والفرج واسألوا عن أي عضوٍ من أعضائي< ـ علما أن النصوص موجودة عند كلا المدرستين وليس عندهم فقط ـ , فحصل أن حملوا النصوص على ظاهرها أي: على المصاديق المألوفة والمتعارفة, و بذلك اصطدموا بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} الذي اضطرهم الى القول بأن الله : له يد لا كالأيادي؛ وذلك هروبا من التجسيم والتشبيه.

 وبهذا الصدد نجد أن ابن تيمية في كتابه شرح حديث النزول يقول: إن الله يقعد, مستفيدا ذلك من آية {استوى على العرش} وذلك لأن استوى لها معانٍ متعددة ومنها قعد, لكن قعود لا كالقعود, ويضرب لذلك مثالا فيقول: أن للميت قعوداً في قبره وهو ليس مثل قعود بدننا في هذه الدنيا, فما جاءت به الآثار عن النبي من لفظ القعود - بالنسبة إلى الله- والجلوس في حق الله تعالى أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد فهو قعود حقيقةً. ولكن لا كهذا القعود, وله جلوس لا كهذا الجلوس, وله قيام لا كهذا القيام, وله نزول من أعلى إلى أسفل لكن لا كهذا النزول.

 وما أدى بهم للوقوع في هذا المحذور من مسائل التوحيد هو: المبنى؛ لأنه يعتقد أن لهذا اللفظ مصداق هو المتعارف المألوف.

 وهذه المسألة وقع فيها كثير من علماء الامامية كذلك؛ لحملهم المفاهيم على المصاديق المتعارفة والمألوفة, وحين وجدوا عدم إمكان ذلك على الله اضطروا إلى تأويلها والقول بخلاف ظاهرها ـ الآيات ـ ولهذا نجد أن من الإشكالات التي أوردها علينا القوم هو: القول بخلاف ظاهر القرآن, ومعلوم أن القرآن نزل {بلسان عربي مبين} فالذي اضطر أولئك للتأويل والقول بخلاف الظاهر اعتقادهم أن المفاهيم تنصرف إلى مصاديقها المتعارفة وحيث لا يمكن حمل هذه المصاديق المتعارفة على الله فلزم القول بخلاف الظاهر.

 الثاني: يعتقد أن لكل مفهوم مصاديق متعددة بعضها متعارف مألوف وبعضها ليس كذلك, إلا انه ـ المفهوم ـ يصدق عليهما بنحو واحد وهو الحقيقة, وصدق المفهوم على المصداق هنا لا يتوقف على معرفة حقيقة المصداق, بل متوقف على تحقيق الغاية والغرض, كمفهوم الكلام فإنه موضوع لما هو كاشف للمضمر فهنا لو وجدنا آلة تقوم بكشف المضمر لكن ليس عن طريق الألفاظ بل عن طريق آخر حينئذٍ تكون ـ الآلة ـ من مصاديق الكلام حقيقة.

 الفيض الكاشاني في تفسير الصافي ص29 يقول: الميزان, فإنه موضع لمعيارٍ يعرف به المقادير, هو حقيقته وروحه وله قوالب مختلفة وصور شتى بعضها جسماني وبعضها روحاني, كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل الكفتين والقبان, وما يجري مجراهما وما يوزن به المواقيت كالإسطرلاب وما يوزن به الدوائر كالفرجال وما يوزن به الأعمدة كالشاقول وما يوزن به الخطوط كالمسطرة, وما يوزن به الشعر كالعروض, وما يوزن به الفلسفة كالمنطق, وما توزن به أعمال العباد وهكذا ...

 فهنا عندما يرد لفظ الميزان في القرآن, فإن كان البناء على الاتجاه الأول أي استعمال اللفظ في المصاديق المتعارفة المألوفة إما لكثرة الاستعمال أو لأي سبب آخر بحيث ينصرف اللفظ إليه يكون الاستعمال حينئذٍ حقيقي, واستعماله في غير المصاديق المتعارفة يكون مجازي.

 أما بناءً على الاتجاه الثاني فهنا كلما وجد مصداق يحقق الغاية والغرض من وضع ذلك اللفظ لذلك المفهوم فهو مصداق حقيقة لذلك المفهوم, لأن الغرض هو تحقيق الهدف والغاية.

 ولا بد أن يعلم أن هذا الأصل ـ الذي سار عليه أصحاب الاتجاه الثاني ـ هو من أهم أصول المدرسة العرفانية, فنراه قد جاء في كلمات صدر المتألهين وبعض تلامذته كالفيض الكاشاني ومن بعده العلامة الطباطبائي الذي اتخذه أصلاً لتفسيره ـ الميزان ـ حيث نجد أن الأصول التي اعتمدها قد ذكر بعضها في مقدمته وبعضها الآخر في الجزء الثالث في ذيل آية المحكمات والمتشابهات, ولذا نجده يقول: وكان ينبغي لنا أن ننتبه أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طرق التحول والتكامل كما أن السراج أول ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن, تستعمل فيه الفتيلة للاستضاءة له في الظلمة ثم لم يزل يتكامل المصاديق حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أولاً الموضوع بإزاءه لفظ السراج شيء ألبتة, فالملاحظ من كلماته رحمه الله أن اللفظ يصدق حقيقة حتى على المعاني المندثرة والمندرسة, وهو يكشف أن اللفظ موضوع للمصاديق التي تحقق الغرض والغاية لا المتعارفة والمألوفة.

  من هنا نرى أن بعض الأعلام وقعوا في حيرة من أمرهم حينما أتوا الى قوله تعالى {الله نور السماوات} فالموجود من مصاديق النور هو المتعارف والمألوف وذلك لا يمكن تطبيق على الله, لذلك يقول الفيض الكاشاني: وكذا الميزان المعمول اليوم والسلاح فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفة والاسم مع ذلك باقٍ ليس إلا لأن المراد في التسمية إنما هو من الشيء غايته التي يتحقق منها, فكلما تحققت الغاية صدق المفهوم, ويقول في موضع آخر: إن لكل معنىً من المعاني حقيقةً وروحاً وله صورة وقالب ويبقى المعنى والحقيقة والروح واحداً وإن تعددت القوالب.

 أي أن المعنى يبقى واحد وإن تعددت المصاديق, وقد تتعدد الصور والقوالب لحقيقة واحدة ولمعنىً واحد, و هذه المسألة من المسائل التي قال عنها أمير المؤمنين >علمني باب ينفتح منه ألف باب< فلذا نجد العلامة الطباطبائي يقول: فكان ينبغي لنا أن ننتبه أن المدار في صدق الاسم ـ يعني الاستعمال الحقيقي يكون للمصداق المشتمل على الغاية والغرض سواء كانت الصورة مألوفة و متعارفة أم لا ـ ولكن العادة والأنس منعانا عن ذلك.

 والأنس هنا حاصل بسبب كثرة الاستعمال لوجود انصراف في اللفظ إلى مصاديق معينة, وهذا هو الذي دعا المقلدة ـ من أصحاب الحديث من المجسمة والحشوية ـ الى الجمود على ظواهر الآيات.

 أما نحن فكذلك نقول بظواهر الآيات إلا أننا نختلف مع الآخرين في المصاديق, فلذلك أنا غير قائلٍ بالتأويل في آيات الصفات,بل أقول ببقائها على ظاهرها؛ لأنني من المعتقدين أن الآية لها مصاديق بعضها متعارف ومألوف وبعضها ليس كذلك, بل غير قابلٍ للتعقل.

 بعد إن حررنا محل النزاع بقي علينا أن نرى هل يوجد في كلمات أهل البيت ما هو مؤيد للاتجاه الثاني أم لا؟

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo