< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

حقيقة الوضع، وتأثيره على المعارف الدينية (2)

 قلنا بالأمس أن مسألة الوضع تعتبر من الأبحاث المهمة و الأساسية في مختلف المعارف الدينية, خصوصا المسائل العقدية و الفقهية.

 وهذه المسألة كما عبر عنها السيد الشهيد من أنها تشكل عنصراً مشتركاً في عملية الاستدلال الفقهي, بل في اعتقادنا أنها تشكل عنصراً مشتركاً في عملية الاستدلال الفقهي وغيره من المعارف الدينية.

 لذا علينا التدقيق بعمق في هذه المسألة لما يترتب عليها من نتائج مهمة وخطيرة.

 للتذكرة نقول: لو وجد عندنا مفهوم مطلق ـ بالمعنى الأصولي ـ فهو منصرف إلى المصاديق المألوفة وهذا ما ذهب إليه مشهور الأصوليين في بعض فروضهم, ومن أراد الاستزادة في ذلك, عليه مراجعة كتاب الدراسات في علم الأصول للسيد الخوئي تقريرات السيد علي الشاهرودي المجلد الثاني ص341 حيث يقول: وأما الانصراف فهل يكون مانعاً عن الإطلاق, ـ علما أن الإطلاق تارة يقال في المسائل الأصولية أي: جريان مقدمات الحكمة, وأخرى في المعارف غير الفقهية والأصولية أي: قابلية المفهوم للشمول, فهنا هل يكون الانصراف إلى المصاديق المتعارفة والمأنوسة أم لا ـ ؟ يقول: انصراف اللفظ عن فرد أو صنف تارة يكون ناشئاً من غلبة وجود بعض الأصناف وهو غير مانع من الإطلاق.

  أما الانصراف الحقيقي الثابت عند العرف فهو شامل للماهيات التشكيكية التي يكون صدقها على بعض الأفراد أولى ـ أوضح ـ من صدقها على البعض الآخر.

 أما لو شككنا أن الانصراف شامل لهذا المورد أم لا, الكاشف ـ الشك في الانصراف ـ بدوره عن أن المورد غير متعارف ومألوف, فالشك هنا يكون مانعا عن الانصراف.

 إذن محل النزاع هو: أن اللفظ - الذي وضع لمفهوم معين ـ هل فيه قابلية الشمول ـ سواء كان ذلك بمعنى الإطلاق الأصولي أو غيره ـ وهل وجود مصاديق متعارفة ومأنوسة يمنع عن التمسك بالإطلاق أم لا ؟ المعروف, أن الاتجاه العام في الفكر الأصولي والفقهي أن الانصراف في بعض صوره مانع عن الإطلاق.

 توجد هناك دعوى في عالم وضع الألفاظ للمفاهيم ـ قد ارتضاها جملة من الأعلام ـ مفادها: أن المفهوم إذا كان فيه قابلية للصدق, فأن معروفية و مأنوسية بعض المصاديق لا تمنع من صدقه على بقية المصاديق الاخرى.

 أما قولنا أن بعض المصاديق متعارفة ومألوفة, فذلك في أي زمانٍ يكون؟ هل في صدر الإسلام أم زمن الأئمة اللاحقين؟ ولو فرضنا أن في صدر الإسلام كانت المصاديق المتعارفة شيء وفي زمن الأئمة اللاحقين شيء آخر فأيهما يكون مشمول للإطلاق؟ هذا ما يتم بيانه في قادم مباحثنا الأصولية إنشاء الله.

 يوجد هناك تعبيران اشرنا لهما بالأمس ونريد بيانهما الآن هما:

 الأول: يعتقد أن الألفاظ موضوعة لأرواح المعاني, فكلما تحققت تلك الروح ـ بغض النظر عن القالب والصورة ـ فالمفهوم يكون شاملاً له, هذا الذي عبر عنه الفيض الكاشاني في تفسير الصافي في ص29 من كتاب تفسير الصافي وضرب لنا مثال بالميزان, بعد ذلك وفي ص30 يقول: وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه يشمل المحسوس والمتخيل والمعقول الخ... الواضح من كلامه رحمه الله أنه يريد من الميزان, ميزان كل شيء بحسبه, أما أن بعض المصاديق مأنوسة أو ليس كذلك فهذا مما لا شأن لنا به؛ وذلك لأن لفظة الميزان موضوعة لمعنىً تحقيق الغاية و الغرض.

 الى أن يقول: و لفظة الميزان حقيقة في كلٍ منها باعتبار حده وحقيقته الموجود فيه فكلما حقق هذه الغاية فالمفهوم يكون صادقاً.

 وبهذا يتبين ما لهذا البحث من أهمية, حيث بينا هذا المعنى فيما سبق وأن الروايات التي قالت >صم للرؤية وافطر للرؤية< ما هو مصداقها في ذلك الزمان فهل الرؤية المجردة هي المتعارفة والمورد لانصراف اللفظ أم لا ؟ ولم تكن الثمرة متوقفة على هذه المسألة فقط بل أن لها تطبيقات أخرى كثيرة كالمسألة المتعلقة بباب الشهادات, فمثلا القول القائل >على مثل هذا فاشهد< فلو أن شاهداً قد شاهد أحداً يقتل شخصاً ومشاهدته كانت بالميكروسكوب فهل هذا المورد ينصرف الى المصاديق المتعارفة في ذلك الزمان أم لا ؟ السيد الخوئي+ يعتقد الانصراف في بعض الفروض. أما بناءً على هذا المبنى لا يمكن الانصراف. لأنه في ذلك الزمان هو مصداق للرؤية وكذلك في هذا الزمان.

 إذا عندما نكون في دائرة الاستدلال الفقهي ونأتي إلى الرؤية المسلحة فهي دون أي شكٍ من مصاديق الرؤية, إلا أنها خرجت عن ذلك بالانصراف, علما أنها أدق حتى من الرؤية المجردة. وأصل هذه الاشكالية وغيرها حاصلة بسبب الوضع, فلابد حينئذٍ من تحديد المبنى في أن الألفاظ هل هي موضوعة للمعاني المتعارفة والمألوفة أم لما هو محقق للغرض والغاية.

 الفيض الكاشاني قال: أن الألفاظ موضوعة لروح المعاني, وتبعه على ذلك العلامة الطباطبائي حيث نراه يقول في مقدمة الميزان: والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة والسلاح المتخذ سلاحاً أول يومٍ والسلاح المعمول اليوم الى أن يقول فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ـ أي لا يوجد من الصورة السابقة شيء

ـ ذاتاً وصفة والاسم مع ذلك باقٍ ـ أي المفهوم لازال يصدق عليها

ـ وليس إلا لأن المراد في التسمية ـ أي الوضع بحسب لغة علم الأصول

ـ إنما هو من الشيء غايته, فكلما حقق الغاية فيكون مصداقاً لذلك المفهوم لا شكله وصورته فما دام غرض التوزين في الميزان, أو الاستضاءة في السراج أو الدفاع في السلاح باقياً كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حالها.

 والعلامة هنا يضرب أمثلة مرتبطة بعالم المادة فقط, لكن بعد ذلك سنشير الى مفاهيم ذكرها العلامة مرتبطة بعالم المادة وغيره. و المصاديق المرتبطة بعالم المادة لا شك في انحفاظ المعروفية والمأنوسية فيها فتكون مشمولة للفظ والاطلاق, بخلاف مصاديق عالم غير المادة.

 ثم يقول رحمه الله: وكان ينبغي لنا أن نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والمقصود, كلما حقق الغاية والغرض فإن هذا الاسم صادق عليه, لا جمود اللفظ على صورة واحدة, فذلك مما لا مطمح فيه البتة.

 فكلامه يكشف عن أن اللفظ موضوعٌ لمفهوم مختص بصورة معينة, وبمجرد أن يتغير شيء من تلك الصورة فالمفهوم حينئذٍ لا يصدق عليه, الا أن هناك مشكلة وهي ما بينها العلامة بقوله: ولكن العادة والأنس منعانا عن ذلك, وهذا ما تمت الاشارة إليه في الانصراف الى المألوف والمتعارف و الذي جعل المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير, و المشكلة نفسها عند ابن تيمية واتباعه من المجسمة حينما جاؤوا إلى الألفاظ القرآنية وجمدوا عندها جمود العادة والأنس في تشخيص المصاديق.

 فحينما نأتي الى القرآن الكريم ونجد ألفاظاً اللوح والقلم والعرش والكرسي والملك الخ..., فوفقاً للمنهج الأصولي فأن المراد منها هو: المصاديق المتعارفة, والاستعمال في غيرها يكون استعمالا مجازياً وخلاف الظاهر, فيحتاج حينئذٍ الى قرينة وحيث لا توجد قرينة فتم حملها على المتعارف المألوف الذي هو منشأ الاشكالية والمحذور.

 يقول العلامة في ذلك: كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية, وإذا سمعنا أن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء أو يشاء قيدنا الفعل بالزمان حملاً على المعهود عندنا أننا عندما نفعل فعلنا في الزمان أو خارج الزمان, وإذا سمعنا {ولدينا مزيد} {لاتخذناه من لدنا} {وما عند الله خير}, أيدنا الحضور بالمكان وإذا سمعنا {إذا أردنا أن نهلك قرية} {ونريد أن نمن} {يريد الله} فهمنا أن الجميع واحد من الإرادة لما أن الأمر على ذلك فيما عندنا.

 فالمشكلة الأساسية التي وقع فيها ابن تيمية كما هي واضحة في كتابه الفتوى الحموية الكبرى وغيره من كتبه أنه عندما يأتي إلى مسألة تتعلق بالله (سبحانه وتعالى) نجده يقول: أن الكلام من أوله إلى آخره, يعني القرآن وسنة رسوله من أولها إلى آخرها, ثم عامة كلام الصحابة ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نصٌ وإما ظاهر في أن الله فوق السماوات جالس, و أن الله سبحانه فوق كل شيء, و الشواهد والأدلة التي يستدل بها على ذلك: الاشارة الى الله حيث أنها تتم عن طريق الاشارة الى الأعلى, مضمناً ذلك بالآيات التالية: {إليه يصعد الكلم الطيب} ومعلوم أن الصعود يكون الى الاتجاه الأعلى, وكذلك {إني متوفيك ورافعك إليّ} والرفع لا يكون إلا الى الاتجاه الأعلى كذلك, وهكذا كثير من الآيات التي من قبيل: {أأمنتم من في السماء} و {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} و {ثم استوى على العرش} التي استدل بها على مراده ودعواه.

 أما النصوص فهي كالتي يصور فيها السموات بصورة والعرش فوقها والله فوق العرش الى غير ذلك من النصوص.

 والى هذا الإشكال أشار بعض الفيزيائيين وبين أن منشأ هذه المسألة هو التصور السائد لاستوائية الأرض وعدم كرويتها والذي جعل البعض الكثير يعتقد بأن الله موجود في الجهة العليا.

 من هنا إن لم يكن الانسان مسلحاً بالقواعد العقلية الصحيحة, يكون صيدا سهلا الى الوقوع بمثل هذه الاشكاليات والمحاذير.

 نريد أن نعرف الآن أن كلمات أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) و أحاديثهم هل تشير إلى الاستعمال القائل: بإطلاق اللفظ على المصاديق غير المألوفة والمتعارفة؟ وهنا نشير الى روايتين:

 الرواية الأولى: ما ورد في البرهان في تفسير القرآن للبحراني في المجلد الثامن ص84, >قال: عن الصادق في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: وأما نون فهو نهر في الجنة قال سفيان فقلت له يا ابن رسول الله بيّن لي أمر اللوح والقلم والمداد فصل بيان وعلمني مما علمك الله, فقال: يا ابن سعيد لولا أنك أهل للجواب ما أجبتك, فنون ملك يؤدي إلى القلم, وهو - أي القلم- ملك يؤدي إلى اللوح< فمن المعلوم أن لفظ القلم موضوع لهذه الآلة المعروفة, فصدقه على الملك حقيقة أو مجازا يتوقف على المبنى فان كان المبنى هو: الوضع الى المصاديق المتعارفة فيكون الاستعمال مجازياً, أما إن كان المبنى هو: أن الوضع لما هو مخرج للمكنون والمضمر والمحقق للغاية والغرض فيكون الاستعمال حقيقا.ً

 لذلك نجد الفيض الكاشاني في ص29 من تفسيره يقول: فلفظ القلم إنما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد ولا أن يكون جسماً ولا كون النقش محسوساً أو معقولاً إلى غير ذلك, لأن الجميع يحقق هذه الغاية والمراد.

 الرواية الثانية: ما ورد في تفسير القمي, في الجزء الثاني ص379, تقول الرواية >عن الإمام الصادق عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن القصير ـ أو عبد الرحيم القصيرـ عن أبي عبد الله الصادق, قال: سألته عن نون والقلم, قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الخلد أو من شجرة في الجنة, يقال لها الخلد< وحيث يعلم الجميع بأن الأقلام إنما تؤخذ من الخشب الذي يلازم وجود الشجر في الجنة لكن بوجودٍ يختلف عنة وجود الشجر المادي, ثم قال لنهر في الجنة كن مداداً فجمد النهر وكان أشد بياضاً من الثلج, وأحلى من الشهد ثم قال للقلم, والمعروف أن مصاديق القلم مصاديق غير حية وشاعرة, إلا أن الواضح من كلام الإمام أن القلم الذي توجه إليه الخطاب شاعر وحي, فقال وما أكتب يا ربي, قال: اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضاً, الذي هو اللوح.

 إذن الكاتب ملك والمكتوب ملك أيضاً, فما طبيعة الاستعمال في هذه الألفاظ هل هو حقيقي أم مجازي ؟ هذا تابع للمبنى كما أوضحنا سابقا.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo