< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/03/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الوضع وتأثيره على المعارف الدينية

 بينا

في حديث الأمس بأن هذه القاعدة ـ وضع اللفظ للمعنى للمتعارف أم لما هو محقق للغرض والغاية ـ لابد أن يؤسس لها في مباحث الوضع.

 و اتضح من خلال ما بيناه سابقا: أن لهذه المسألة آثار كلامية وقرآنية ومعرفية واسعة النطاق. مع تأكيدنا ـ في مباحثنا الأصوليةـ , على أن المسائل التي بحثت في هذا العلم قد نظر إليها نظرةً ضيقة, فتصوروا أنها ترتبط بمباحث الاستدلال الفقهي خاصة؛ لذا عُبر عنها بمسائل علم أصول الفقه, وحقيقة الأمر ليس كذلك؛ لأن جملة من مسائلها غير مرتبطٍ أو مختصٍ بالفقه الأصغر, بل شامل لمسائل الفقه الأكبر أيضاً.

 ونشير هنا ولو على وجه الإجمال للآثار والنتائج المترتبة على هذه القاعدة, فمن أبرزها:

أولا:

التأثير الواسع على مسألة الحقيقة والمجاز في اللغة, فبناءً على هذه القاعدة تتضيق كثيرٌ من مباحث المجاز في اللغة العربية؛ لأن المجاز إنما وجد في اللغة العربية باعتبار تصور أن هذه الألفاظ موضوعة للمصاديق المتعارفة فقط, فإذا استعملت في مصاديق غير متعارفة, يكون الاستعمال حينئذٍ مجازياً, لكن إذا ثبت أن الأمر ليس كذلك, حينئذٍ سوف نستغني عن المجاز في اللغة.

ثانياً:

فيما يرتبط بقضية المحكم والمتشابه في القرآن, فالمتشابه الذي أشار إليه القرآن الكريم هل هو المتشابه مفهوماً أم مصداقاً؟ واضحُ, أن المفاهيم القرآنية مفاهيمٌ محكمةٌ؛ وذلك لأن القرآن الكريم يعبر عن نفسه بأنه: النور والبيان والتبيان والهدى, فهذه القضية وهذا الأصل له التأثير الكبير على بيان المراد من المحكم والمتشابه في القرآن؛ حيث أن جملة من الأقوال والنظريات عندما بينت المتشابه أرجعته إلى المفاهيم, ولكن بناءً على هذه القاعدة لا يوجد حينئذٍ متشابه مفهومي في القرآن, وإنما مآل التشابه إلى المصاديق, فهي التي قد تشتبه علينا.

ثالثاً:

فيما يرتبط بكلام اللغويين, فاللغويين عادة عندما يقولون اليد بمعنى الجارحة والوجه كذلك وهكذا.. فهل هذه معانٍ لهذه الألفاظ أم أنها من باب بيان المعنى ببيان مصداقه ؟ في الحقيقة أن هذه المشكلة أدت إلى كثير من المتشابهات, فعندما قالوا: أن اليد بمعنى الجارحة, كيف يمكن لهم أن يخرجوا لنا قوله تعالى: «يد الله فوق أيديهم» «بل يداه مبسوطتان» حيث أن البقاء على الظاهر القرآني يلازم أن تكون له ـ جل شأنه ـ يد جارحة, وهذا ما التزم به المجسمة, إلا أن مجيء آية في القرآن تقول: «ليس كمثله شيء» جعلتهم يقولون: يد لا كالأيادي, ووجه لا كالوجوه.

 إلا أن الحقيقة أن هذا ليس معنىً لليد, بل بيانٌ للمعنى من خلال بيان مصداقٍ من مصاديقه, وهذا يفتح لنا باباً مهماً في فهم الآيات القرآنية, ولا ضرورة حينئذٍ لأن نفسر اليد بمعنى القدرة فنتهم حينها بارتكاب خلاف ظاهر اللغة والاستعمال والعرف. وهذا ما وقع فيه كثير من علماء المسلمين على مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم, فعندما جاؤوا ووجدوا بأن اليد بمعنى الجارحة حينئذٍ أخذوا يؤولون المعنى على خلاف الظاهر.

 ثم إن التعريف غالبا ما يكون بالمثال وهذا ما نجده في علم المنطق, إلا أن إن ذلك ليس تعريفاً بالحقيقة, بل هو بيان للمصداق.

 فلذا ينبغي على الفقيه عندما يرجع إلى كتب اللغة, أن يعرف أن اللغوي هل هو في مقام إعطاء معنى اللفظ ـ تعريفه ـ أم في مقام بيان مصداقٍ من مصاديقه. وهذا ما هو غائب عن أذهان الأعم الأغلب ممن بحث في كلمات اللغويين وحجية أقوالهم.

 ولابد من الالتفات إلى هذه الحقيقة في عملية فهم القرآن الكريم ايضاً, خصوصاً في الصفات التي ذُكرت لله (سبحانه وتعالى). فعندما نأتي إلى الآيات أو الروايات التي تقول: أن الله ينزل, لابد لنا من معرفة المراد من النزول هل هو المعنى الحقيقي أم هو مصداق من المصاديق وهذا مبتنٍ ومتوقف على القاعدة التي نحن بصددها. هذا كله فيما يتعلق بالفقه الأكبر.

 أما الفقه الأصغر وهو ما يتعلق بالاستدلال الفقهي فلهذه القاعدة الآثار الكبيرة أيضاً.

 فمن الواضح أن مقدمات الحكمة بعد فرض ثبوتها فهي مثبتة للإطلاق والشمول, ومعلوم أن الإطلاق ومقدمات الحكمة يشكلان حيزا كبيرا, لفهم الكثير منم الأحكام الصادرة عن النبي والأئمة, خصوصا فيما يرتبط بالقضايا الخارجية, ولولاه لما استطعنا الاستفادة من البيانات الواردة في القرآن الكريم وروايات النبي والأئمة المعصومين.

 علماً أن الركن الأهم في مقدمات الحكمة عدم وجود قرينة على التقييد, أما مع وجودها فإنها تمنع من انعقاد الإطلاق, وهذا منقحٌ في محله.

 أما فيما يتعلق بمحل كلامنا وهو: أن المصاديق المتعارفة في زمان صدور الحكم من الشارع هل هي قرينة مقيدة مانعة من انعقاد الإطلاق أم لا؛ لأنه في ذلك الزمان عندما قال الشارع «أحل الله البيع» فالمصاديق المتعارفة للبيع هي: بعتُ واشتريت وغير ذلك.

 فالمصداق المتعارف حينئذٍ يقيد إطلاق «أحل الله البيع» ويجعله غير شاملٍ للمصاديق غير المتعارفة.

  أما آية «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصلاة» ذكر أئمة أهل البيت أن المراد من الآية هنا «ليس عليكم جناح» هو نفس المراد من آية «ليس عليكم جناح أن يطوفا بهما» فهنا أمر بالتقصير, ومن مصاديق الضرب المتعارف في الأرض في ذلك الزمان المشي على الأقدام أو الدواب, أما السفر بالطائرة فهو ليس من مصاديقها المتعارفة, وهذا هو الذي جعل البعض يقول ـ في أبحاثه النظرية ـ أن القصر مختص بتلك الأزمنة فقط. فالآيات والروايات إنما أوجبت ستة فراسخ أو ثمانية فراسخ أو ما يقارب ذلك, وهذا يكون في المصاديق المتعارفة لا غير.

 وبذلك يتبين عدم إمكان التمسك بالإطلاق؛ لأن المصاديق المتعارفة تشكل قيداً يمنع من تحقق مقدمات الحكمة. ومن هذا القبيل توجد عشرات المسائل العملية لا نظرية.

  الأعلام لم يتعرضوا لبحث هذه المسألة بعنوان مستقل, مع أن لها آثار كثيرة من قبيل: أنّ القرينة إذا وردت على التقييد فإنها تمنع من انعقاد الإطلاق, فوجود مصاديق متعارفة حين صدور النص هل يعتبر قرينة على التقييد, فيمنع من انعقاد الإطلاق حينئذٍ؟

 معلوم أن المشهور يعتقد أن الانصراف الحجة المانع عن الإطلاق إنما يكون في المصاديق المتعارفة فقط. وممن ادعى هذا المعنى الشيخ السبحاني, في الصوم في الشريعة الإسلامية, وهناك من طبق هذا المعنى أيضا على مسألة الرؤية, كالروايات القائلة >صم للرؤية< أو >صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية< فعندما نأتي إلى هذا المفهوم المحكي بلفظ الرؤية نجد أن له مصاديق متعارفة في ذلك الزمان, كالرؤية المجردة وهي حجة, أما الرؤية المسلحة و والرؤية الحادة النادرة الشاذة التي لا توجد عند شخص آخر فهي ليست من المصاديق المتعارفة فضلا عن أنها ليست بحجة.

 فالروايات الواردة في وسائل الشيعة في المجلد العاشر من طبعة مؤسسة آل البيت ص252 المعنونة بـ >إذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر<, >إذا رأيتم الهلال فصوموا< - جملة منها معتبرة صحيحة السند- >فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا<, >الصوم للرؤية والفطر للرؤية<, >صوموا للرؤية وافطروا للرؤية<, >صيام شهر رمضان بالرؤية<, >لا تصم إلا أن تراه<, >صم لرؤيته< هذه عناوين متعددة بألسنة مختلفة وصيغ متنوعة كلها تشير إلى حقيقة واحدة وهي انصراف الرؤية الى المصداق المتعارف.

 أما الرؤية بالأدوات الحديثة فهي رؤية عرفاً, إلا أن إطلاق الأدلة غير شاملٍ لها لكونها ليست من المصاديق المتعارفة حين صدور الروايات.

 في كتاب >الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء< الجزء الثاني ص144, يقول: >عرفت أن الموضوع هو الرؤية يعني للصوم والإفطار, فهل هي منصرفة إلى العين العادية, أو يعمّها والعين ذات البصر الحاد وعلى كل تقديرٍ, الآن سواء كانت الأول أو الثاني, فهل الموضوع هو الرؤية بالعين المجردة أو يعم الرؤية بالعين المسلحة المستندة إلى النظارات القوية, المشهور هو الأول< - بينتُ فيما سبق أن الأعم الأغلب من المعاصرين يلتزمون بهذا المبنى- فلا تكفي الرؤية حينئذٍ لذات البصر الحاد والآلات الرصدية, وذلك للانصراف الى المصاديق المتعارفة.

 الشيخ مكارم الشيرازي في فقه أهل البيت له مقالة تحت عنوان >اثاراتٌ هامة حول رؤية الهلال< في ص85, يقول: المشهور بين المراجع أن رؤية الهلال يجب أن تكون بالعين المجردة ولكن بعض الفقهاء المعاصرين يذهبون إلى كفاية المشاهدة بالتلسكوب, ورغم احترامنا لجميع آراء المجتهدين, إلا أن التدقيق في الأدلة يثبت عدم كون هذا الرأي غير المشهور<.

 فيعتبر ذاك هو الرأي المشهور, وعندما يدور الحديث عن الرؤية, فيعتقد بأنها منصرفة إلى الرؤية المتعارفة ـ بالعين المجردة ـ ولهذا يرى الفقهاء أن الألف واللام داخلة على الفقهاء يعني كل الفقهاء, والحق أن هذا الكلام غير تام, ولهذا يرى أن الفقهاء في جميع أبواب الفقه يدعون أن الاطلاقات منصرفة إلى المصاديق المتعارفة, لا الى المعنى المتعارف, والفرق بينهما كبير.

 اعتماداً على ما قاله هذين العلمين لابد من بيان بعض الملاحظات:

الملاحظة الأولى:

أن هذين العلمين خلطوا بين الانصراف إلى المعنى المتعارف والانصراف إلى المصداق المتعارف, فالفقهاء الذين قالوا بالانصراف, قالوا بالانصراف إلى المعنى المتعارف لا المصداق المتعارف. ومثال ذلك نحن إذا جئنا إلى لفظ الصلاة, فالصلاة في اللغة لها معنىً متعارف مشهور وهو الدعاء, ولكن قد يذكرون للصلاة معانٍ أخرى, إلا أنها غير متعارفة ومشهورة, أما الصلاة في الشريعة, فيراد بها هذه الأعمال المخصوصة, ومع كونها مصداق من مصاديق الدعاء, إلا أن النظر إليها يكون بهذا المعنى المخصوص فقط.

 ولنا هنا أن نطرح هذا التساؤل, فنحن عندما نقرأ رواية >أن الطواف بالبيت صلاة< فعلى أي معنى نحملها, فهل الحمل على المعنى اللغوي أم الشرعي؟

الجواب:

إن الحمل يكون على المعنى المتعارف عند الشارع, فلهذا لا يحمل أحد >الصلاة بالبيت طواف< على الدعاء.

 السيد محمد العاملي في مدارك الأحكام المجلد الأول ص71 يقول: سلمنا أنها حقيقة فيما ذكره لكن البقر إنما يركب نادراً كما اعترف به, والألفاظ إنما تحمل على المعنى المتعارف منها لا النادر غير المشهور, لا أنه تحمل على المصداق المتعارف.

 إذن إن كان هناك معنى متعارف حينئذٍ لا ننظر إلى المصداق في أنه متعارف أو غير متعارف, وذلك لأن إطلاقه شامل للمصداق المتعارف الغالب والمصداق غير المتعارف وغير الغالب بل حتى لغير الموجود كذلك.

 ولهذا الأمر يضرب صاحب الجواهر مثالاً فيقول أننا لو فسرنا معنى الوجه لغةً بأنه >ألف<, فعندما نأتي إلى قوله تعالى «فاغسلوا وجوهكم» فهل الحمل على المعنى المتعارف أم المصداق المتعارف ؟ يقول: نحمله على المعنى المتعارف للوجه ولا علاقة لنا بالمصداق سواء كان متعارفٌ أم لا.

 فلو فرضنا بأن الوجه المتعارف طوله كذا وعرضه كذا, حينئذٍ لو أن شخصاً آخر وجهه ضعف الوجه المتعارف, خصوصاً بالنسبة إلى الطول, فهل معنى ذلك أن يغسل إلى أنفه لأنه ضعف المصداق المتعارف؟ كلا, فالأمر ليس كذلك لتوقفه عله المعنى المتعارف.

 ففي الجواهر الجزء الثاني ص147 يقول كذلك: ويجب عليه - في بحث مسألة الأنزع والأغم ـ الغسل من القصاص إلى الذقن وإن طال وجهه بحيث خرج عن المتعارف لصدق اسم الوجه عليه.

 فلو سلمنا أن الفقهاء قالوا: أن الألفاظ في الشريعة تنصرف إلى المعنى المتعارف, فأي معنى متعارفٍ هو المراد؟ لم يقل أحد منهم بأن المراد هو: المصداق المتعارف, بل قالوا أن المراد هو: المعنى المتعارف, أما ما نسبه العلمين إلى المشهور, فهو مما وقع فيه الخلط بين المعنى المتعارف والمصداق المتعارف للرؤية.

 إلا أن يقول قائل:

أن المعنى المتعارف للرؤية لغة هو: الرؤية البصرية, ـ وهذا دون إثباته خرط القتاد ـ , فرأى ورؤية ويرى, إلى آخر هذه التصريفات, يراد بها الرؤية البصرية فقط, عندئذٍ الآية القائلة «ألم يعلم بأن الله يرى» لابد أن تكون الرؤية فيها البصرية فقط, لا غير, وهذا يلازم وجود الأعضاء وهو لا ينسجم مع الذات الإلهية, فلابد لنا من التأويل والحمل على خلاف الظاهر, أما عندما نبني على القاعدة الأصلية القائلة: بأن الرؤية لها مصاديق حسية وغير حسية, متعارفة وغير متعارفة, حينئذٍ فإن الله يرى حقيقةً ولكن رؤيته بحسبه, كما أن الموجود المادي رؤيته بحسبه أيضاً؛ وذلك لأن رؤية كل موجودٍ بحسبه.

 أما آية «ربني أرني أنظر» فإن قلنا أن المراد من النظر في اللغة هو المتعارف, فهذا يستتبع أن يكون ـ النظر ـ بصريا حسيا, ولازمه أن موسى قد طلب ذلك, وهو يتنافى مع عصمته بالتأكيد. فلا بد أن يكون المراد من الرؤية غير البصرية. أما القول بأن ذلك قبل نبوته فهذا كلام لا يمكن قبوله.

 إذن فالعلمان أو غيرهما ممن يدعي هذه الدعوى وينسبونها إلى المشهور, قد وقعوا في خلط بين معنى الرؤية ومصداقها, أما من قال من الفقهاء بأن الألفاظ تنصرف إلى المتعارف, فمرادهم المتعارف المعنوي لا المتعارف المصداقي, ويوجد على ذلك عشرات الشواهد.

 إذن تمام هذه الدعوى يفيدنا في شمول الرؤية, وعدم اختصاصها بمصداقٍ دون مصداق, وذلك لأن اللفظ موضوع للمعنى المتعارف لا المصداق المتعارف.

 أما الالتزام بأن المراد هو المصداق المتعارف سوف يجعل كثير من المسائل الفقهية مبتلاة بكثير من الاشكالات, كمسائل نجاسة البول الخارج من غير الموضع المتعارف ووجوب العدة على الصغيرة, وغير ذلك الكثير من المسائل الفقهية الأخرى .

والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo