< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/04/02

بسم الله الرحمن الرحیم

 الخمس: تذكير بأهم الملاحظات الوارد على آية الغنيمة والشروع بالدليل الثاني (الإجماع)

 لا بأس بالتذكير بالوجه الذي ذكرناه عن بعض الاعلام من أن الحكمة في تأخير إظهار التشريع ـ رغم ثبوته في زمن النبيـ هو: أن النبي وأمير المؤمنين÷ والائمة الذين من بعده وجدوا أن إظهار تشريع الخمس في ذلك الوقت سوف يحقق المنفعة للسلطات الجائرة, وحيث أنهم لا يريدون ذلك حتى لا يتقوى به الظالمون ويفرضون حكوماتهم بالاعتماد عليه, فما كان منهم^ إلا تأخير التشريع الى حينٍ تتحقق فيه الاستفادة من ذلك.

 وهذا الكلام في الحقيقة لا يخلو من ملاحظات أبرزها:

 1ـ إن التعليل المذكور لتأخير إظهار التشريع ـ في الخمس بأرباح المكاسب ـ جارٍ في غنائم دار الحرب أيضاً, حيث يمكن للطغاة أن يستفيدوا من ذلك ويجعلونه في خدمة مصالحهم الفئوية والمذهبية.

 2ـ يلزم من التعليل المذكور أن يؤخر المعصوم إظهار أي تشريعٍ يمكن للحكام أن يستفيدوا منه لصالح حكومتهم وفرض سيطرتهم, إلا أننا نرى أن كثيرا من المسائل ومن مختلف الأبواب استفاد منها الحكام استفادة كبيرة دون أن يؤخر إظهار تشريعها الى الوقت الذي لا يستطيعون الاستفادة من ذلك, فلماذا الكلام جارٍ في خمس أرباح المكاسب دون غيره من المسائل.

 3ـ نعتقد ـ هذا مما يرتبط بالبحث الكلامي ـ بأن النبي وأئمة أهل البيت÷ يعلمون بحدوث كل الأمور التي ستقع في المستقبل سواء كان ذلك مما يتعلق بهم أو بغيرهم, وما دل على ذلك من الروايات كثير, فهل يا ترى أنهم كانوا يتعاملون مع الواقع الموجود بما عندهم من معارف وعلوم أم أن معاملتهم لذلك الواقع كان بحسب الظاهر؟

 الوارد عن رسول الله في ذلك أنه كان يتعامل مع الظاهر وهذا ما نراه من قوله في باب القضاء>إنما أحكم بينكم بالبينات والأيمان ولعل الذي حكمت له حكمت له بقطعة من النار<, من هنا نجد أن الرسول حينما كان يتعامل مع المنافقين كان يتعامل معهم على حسب الظاهر لا بعلمه وبمعرفته.

 من خلال ما بينا نقول: إن الرسول إذا كان يتعامل مع الأمور بحسب ظاهرها فان القول بتأخير إظهار التشريع الى زمن لا يقع فيه التحريف والتشويه لا قيمة له؛ لأن ذلك مقيد بالعمل المتوقف على العلم والمعرفة لما يحدث فيما بعد وقد أثبتنا خلاف ذلك.

 ولو تنزلنا وقلنا أن الرسول كان يعمل بعلمه ومعرفته لا بحسب الظاهر, لكان الأولى به أن يوجد الحلول والتدابير التي تمنع وصول الحكام الى هرم الخلافة والحكم, لا أنه يمنع وصول الخمس إليهم بعد تسلطهم على رقاب المسلمين, بل كان عليه أيضا أن يعرّف الناس بالذين يريدون حرف الرسالة عن مسارها القويم, إلا أنه لم يفعل ذلك.

 وكذلك أن الائمة المعصومون^ لو كانوا يعملون بعلمهم ومعرفتهم كان عليهم أن يعملوا بما لديهم من تدابير تمنع الأمة من الانزلاق في كثير من الشبهات والانحرافات وبذلك ينحفظ الغرض الذي بعثت من أجله الرسالات إلا أنهم ^ كانوا يتعاملون مع الأمور بحسب ظاهرها لا بما يعلمون ويعرفون.

 إلا أن الحقيقة الواضحة أنه قد تعامل مع كثير من الأمور بحسب ظاهرها, وإلا لو كان يتعامل بعلمه ومعرفته لما تسلط كثير من الجبابرة على سدة الخلافة, وهذا ما فعله مع الحكم وأبناءه حين أخبر عن حالهم وواقعهم ـ بلعنته لهم ونعته إياهم بالقردةــ, ففي ذلك يقول الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة في القسم الثاني من المجلد السابع في ذيل الحديث 3240 >ليدخل عليكم رجل لعين يعني الحكم ابن العاص< وكذلك ما ورد في رواية تقول >سمعت عبد الله ابن الزبير يقول وهو مستند إلى الكعبة ورب هذا البيت لقد لعن الله الحكم وما ولد على لسان نبيه< فهولاء لم يتسلموا حكما, بل لم يتجرؤوا للبقاء في مدينة الرسول إلا حينما تولى الثالث الخلافة فأعادهم إليها ومكنهم منها وذلك بعد اتساع سطوة بني أمية وسيطرتهم على كثير من الأمور بشكل كبير.

 ويتضح مما تقدم أهمية البحث الكلامي على عملية الاستنباط الفقهي, وسقم ما يقال بأن الفقيه يمكن أن يكون كذلك من دون أن يكون متكلماً, وذلك لان الكثير من المسائل الفقهية لا يمكن أن تتبنى أو تعطي فيها رأيا من دون أن يكون لك مبنىٍ كلامي, والأمر نفسه جارٍ في بقية أبواب المعارف الدينية كالتفسير والقرآن وغيرهما الكثير.

 ومحصل بحثنا في آية الغنيمة هو:

 أولا: أن الآية مجملة وغير شاملة لأرباح المكاسب.

 ثانيا: ما أقيم من أدلة لإثبات الشمول غير تامةٍ وسديدة وذلك لاصطدامها بعوائق شديدة من أبرزها:

 1ـ أن الآية لو كانت تشمل الخمس في أرباح المكاسب فلماذا لم يعتنى بذلك كالاعتناء الموجود في خمس غنيمة دار الحرب.

 2ـ أن وجوب الخمس في أرباح المكاسب لم يكن قد صدر من النبيولو كان كذلك لوجدنا عناية بالغة منه للخمس في أرباح المكاسب ـ على مستوى التشريع ـ وذلك ما لم نراه في عهده وعهد من بعده من الخلفاء والائمة الى عهد الصادقين.

 وهذا يلزم منه حقيقةً مفادها: أن ساحة التشيع في عهد أئمة ما قبل الصادقين لم تكن كبيرة ومتسعة الى حد كبير, بل ولم يكن عدد أفراد المذهب الشيعي آنذاك بذلك الحجم الذي يحتاج في تأمين متطلباته وحوائجه لموارد متعددة وكثيرة, إلا انه وبمرور الزمن بدأ ذلك المذهب يتسع أكثر فأكثر, وبدأ أفراده يتكاثرون بصورة ملحوظة حتى أصبح وجودهم يقض مضاجع الحكام والغاصبين, وهذا الأمر في الحقيقة يحتاج الى من يدبر الأمور لأفراد ذلك المذهب ويهيأ لهم الإمكانات والموارد التي من خلالها يؤمنون عيشهم, خصوصا حين الالتفات الى أن الحكام الظلمة في ذلك الوقت بدأوا يعدون العدة لكل محبي وتابعي آل البيت^ فحرموهم من ابسط حقوقهم المستحقة, وأقصوهم عن أبسط المناصب الوظيفية, ذلك هو الذي جعل الائمة^ أن يشرّعوا بحكم ولايتهم الخمس في أرباح المكاسب ويهتمون به أكثر من غيره.

 3ـ لا يوجد دليل أو مدعى على أن النبي قد شرع الخمس في أرباح المكاسب بحسب ولا يته التشريعية ـ كما فعل ذلك في الركعتين الاخيرتين من الصلاة الرباعية ـ , علما أن ذلك ثابت له على نحو التشريع الثابت لا المتغير ـ الولائي ـ , وذكرنا لذلك الكثير من المصاديق مما يرتبط بالصلاة و الحج وغيرهما.

 وبهذا ينتهي الكلام عن الدليل الأول الذي أُستدل به لإثبات الخمس في أرباح المكاسب وبينا أن الدليل لا يصمد أمام كثير من الملاحظات والتساؤلات.

 الدليل الثاني: الإجماع ومرادنا من ذلك إجماع المتقدمين ـ علماء عصر الغيبة ـ من العلماء الشامل للمنقول والمحصل. ونشير هنا الى بعضٍ مما ورد عن أعلامنا الماضين ـ قدس الله أسرارهم ـ منها على سبيل المثال لا الحصر:

 الأول: ما ورد عن السيد المرتضى في كتابه الانتصار : >ومما انفردت به الامامية القول بأن الخمس واجب في جميع المغانم والمكاسب ومما استخرج من المعادن والغوص والكنوز ومما فضل من أرباح التجارات والزراعات والصناعات بعد المؤونة والكفاية في طول السنة على اقتصادٍ وجهات قسمته< فهو+ يصرح بأن الخمس في أرباح المكاسب مما انفردت به الامامية وكأنه يذهب الى أن ذلك من مقوماتها.

 الثاني: ما ورد عن الشيخ الطوسي في كتابه الخلاف ففي المجلد الثاني ص118 المسالة139 من كتاب الزكاة>يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلاة والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنها وإخراج مؤنة الرجل لنفسه ومؤنة عياله سنة ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء< أي فقهاء أهل السنة والجماعة, وذلك بقرينة قوله: >قال: دليلنا إجماع الفرقة< فالدليل الأول الذي يستدل به على ثبوت الخمس في أرباح المكاسب بعد إخراج المؤونة هو الاجماع ثم يقول بعد ذلك >وأخبارهم وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك< تطبيقا للقاعدة القائلة:أن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

 ومما يؤيد ما ذكره الشيخ الطوسي ما جاء عن صاحب الجواهر ففي المجلد السادس عشر ص45 يقول: >الخامس: مما يجب فيه الخمس ما يفضل عن مؤونة السنة على الاقتصاد له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات بلا خلاف معتد به أجده فيه< فيدعي عدم الخلاف في ذلك, وهذا يكشف عن التتبع لا النقل, ثم يقول بعد ذلك: >بل في الخلاف والغنية والتذكرة والمنتهى الإجماع عليه, بل في ظاهر الانتصار والسرائر أو صريحهما ذلك, بل أرسله في الرياض عن الشهيد الثاني ايضا, بل في الأخيرين من الأربعة دعوى تواتر الأخبار< فالمسألة واضحة لا خلاف فيها كما يرى+.

 وأما من أشار من المعاصرين الى ذلك السيد محسن الحكيم في المستمسك ففي المجلد التاسع ص515 يقول: >على المشهور شهرة عظيمةً كادت أن تكون إجماعا. لأنه يوجد من المتقدمين في ذاك العصر من نسب إليه الخلاف< كابن الجنيد وابن ابي عقيل, فلذا نجد أن السيد الحكيم يجعل العبارة هكذا >شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً< ويقول بعد ذلك >بلا خلاف, وعن السرائر أنه كذلك عندنا بلا خلاف ولم ينسب الخلاف فيه إلا إلى أبني الجنيد وأبي عقيل<, فيكون حينئذٍ خلافهم مضرا بالإجماع لكونهم من علماء عصر الغيبة الصغرى؛ لذلك حاول السيد الحكيم أن يتخلص من خلافهما بقوله: >اللذين لا يقدح خلافهما في الإجماع كثرة خلافهما في المسلّمات< وهذا كلام غريب منه+؛ حيث لا قائل بأن من كان كثير الملاحظات في المسلمات لا اعتبار لأقواله ومناقشاته, فعليه+ أن يبرز الدليل لمدعاه كما قال تعالى{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.

 إلا أننا نجد العلامة في كتابه المختلف, المجلد الثالث ص185, المسألة 141, يقول >المشهور بين علمائنا إيجاب الخمس في أرباح التجارات والصناعات والزراعات< ولا تنافي بين ما ذكر في كلمات الأعلام من إجماع وبين ما ذكره العلامة من شهرة؛ وذلك لأن البعض غير ملتفتٍ الى نكتة مهمة مضمونها: أن البحث تارةً يكون في أصل وجوب الخمس في أرباح التجارات, وتارة أخرى يكون في أن ذلك الوجوب هل هو ثابت في زمن الحضور و الغيبة أم في الحضور فقط؟

 لا شك أن أصل ثبوت الخمس في أرباح المكاسب يوجد عليه إجماع بين الأعلام.

 أما أن ذلك الوجوب هل هو في زمن الحضور والغيبة أم الحضور فقط, فقد وقع الخلاف في ذلك: فذهب المشهور الى وجوب ذلك في الحضور والغيبة ولم يعملوا بروايات التحليل, وذهب بعض من الأعلام كابن الجنيد وابن ابي عقيل الى المناقشة في ذلك وقالوا: أن الوجوب مختص بزمن الحضور دون الغيبة.

 وهذا هو سبب اللبس الذي حصل للسيد محسن الحكيم+ فقد تصور أن ابن الجنيد وابن ابي عقيل يخالفان الاجماع في أصل ثبوت الخمس في أرباح المكاسب, إلا أن الحقيقة ليس كذلك؛ لأن خلافهما كان يدور في أن الثابت للخمس من وجوب هل هو ثابت في زمن الحضور و الغيبة أم في زمن الحضور فقط.

  لذا نجد السيد الحكيم+ عندما وصل إلى هذه المسألة نقل عبارة هذين العلمين بقوله: >مع أن محكي كلام الأول في المعتبر هكذا وهو غير ظاهر في الخلاف< لأنه لم يكن في المسألة الأولى ـ أصل ثبوت الخمس ـ , ثم يقول >ومحكي كلام الثاني هكذا وقد قيل وهو أيضاً غير ظاهر في الخلاف<.

 وسيأتي الكلام عن حقيقة هذا الاجماع وتماميته في قادم الأيام إنشاء الله .

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo