< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/04/08

بسم الله الرحمن الرحیم

المناهج الأساسية في قبول الرواية وردها

 كان كلامنا في الأمس يتعلق برواية علي ابن مهزيار وبينا عدم وجود الإشكال في الرواية والراوي, إلا أن الوقت لم يسعفنا في بيان نكتة مهمة وهي: يتصور البعض أن علي ابن مهزيار قد عاصر الامام الحجة(ع) وصار في خدمته؛ الا أن هذا التصور ليس بصحيح؛ وذلك لأنه قد توفي قبل ذلك فلا يمكن أن يكون موجودا في زمن الغيبة الصغرى, ولذلك يشير السيد الخوئي في معجم رجال الحديث المجلد الثاني عشر ص198 حين يترجم له بقوله: (بقي هنا أمران: الأول: أنك قد عرفت إدراك علي ابن مهزيار ثلاثة من الأئمة الرضا والجواد والهادي(ع) ولكن روى محمد ابن يعقوب عن محمد بن يحيى عمن حدثه كتب إلى أبي محمد(ع) إن مولاك علي ابن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعةٍ صير ربعها لك) والظاهر من هذه الرواية أنه بقي إلى زمن العسكري وتوفي في حياته, إلا أن هذه الرواية ضعيفة لا أقل من جهة الإرسال, فالقول ببقاء علي ابن مهزيار إلى زمن العسكري لا حقيقة له فضلاً عن أن يكون بقاءه إلى زمن الغيبة الصغرى.

 وقد يكون منشأ ذلك التصور الخاطيء هو على ابن إبراهيم ابن مهزيار ابن أخ علي ابن مهزيار, فهو ممن كان معاصرا لغيبة الامام الصغرى, فلذا نرى السيد الخوئي المجلد الحادي عشر من نفس الكتاب ص192 : (علي ابن ابراهيم ابن مهزيار روى الشيخ عن جماعة عن فلان عن فلان ... إلى أن يقول: دخلت على علي ابن إبراهيم ابن مهزيار الأهوازي فسألته عن حال أبي محمد(ع) فقال: يا أخي لقد سألت عن أمرٍ عظيم, والرواية طويلة تشتمل على تشرف علي ابن ابراهيم بخدمة الإمام ومكالمته إياه مع ذكر جملة من علامات الظهور), الى غير ذلك من الأمور.

 وبذلك يتبين أن علي بن مهزيار لم يكن معاصرا للإمام الثاني عشر(ع), بل أن المعاصر هو ابن أخيه علي ابن ابراهيم ابن مهزيار.

  أما ما نُقل عن لقاء علي ابن ابراهيم ابن مهزيار للإمام فيقول فيه السيد الخوئي: (أما الرواية الثالثة فقد ذكرنا في ترجمة إبراهيم بن مهزيار أنها مكذوبة جزما ، وأما الروايتان الأوليان فكلتاهما ضعيفة جدا، على أنهما متعارضتان من جهة نسبة القصة إلى علي بن إبراهيم بن مهزيار، أو إلى إبراهيم بن مهزيار، والله العالم).

 نعود الآن الى رواية علي بن مهزيار لنستعرض مضمون, الرواية علما أنني بينت فيما سبق من المحاضرات المبنى الذي اعتمده في قبول الرواية وعدم قبولها, حيث أكدت هناك أنني لا أعتمد على صحة السند فقط في قبول الرواية, ولا على ضعفه لعدم قبولها, بل أنني أرى للمضمون دورا كبيرا في قبولها وعدم قبولها, فربما تكون الرواية صحيحة السند إلا أنني لا أقبلها لأن المضمون لا يساعد على ذلك, وأخرى تكون الرواية ضعيفة السند إلا أنني أقبلها لأن المضمون يساعد على ذلك, فيوجد هنا منهجان:

 المنهج الأول: المنهج السندي ومفاده: العمل بالرواية؛ لأنها صحيحة, وعدم العمل بها لأنها ليست كذلك.

 المنهج الثاني: المنهج المضموني ـ منهج جمع القرائن ـ ومفاده: السعي لجمع مجموعة من القرائن المحيطة بالمسألة خصوصاً في المسائل التي هي من قبيل الخمس, فنتحرى القرائن ونبحث عنها لنرى أن مثل هذه الرواية هل هي صادرة أم لا, ومن أراد التفصيل أكثر لهذا البحث يمكنه مراجعة الدرس 81 حيث بينا هذا الموضوع هناك بأدق تفاصيله.

 ولابد من الاشارة هنا الى أن الاختلاف في المنهج ناتج عن إختلاف الزمان والمكان, فمن كان قريب العهد بالائمة(ع) يعتمد على منهج جمع القرائن للقول بصحة الرواية وضعفها؛ لأن القرائن في متناول اليد آنذاك, أما من كان بعيدا عن ذلك العهد, فالمنهج الذي يعتمد عليه في أخذ الرواية هو الصحة والضعف بالنسبة للرواية نفسها؛ لعدم إمكانه الاستفادة من القرائن بسبب الفارق الزمني بين عهد الامام وعهده, ويترتب على ذلك عدة أمور:

 منها: من كان مبناه صحة السند وضعفه, وجد أن الرواية الصحيحة لا تفيد سوى الظن, فوقع حينئذٍ في إشكالية الجمع بين حجية خبر الظن وقوله تعالى {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} وهذا ما أدى الى استحداث كثير من النظريات للتخلص من هذه الاشكالية, فُوجدت أبحاث مفصلة في كلمات الأصوليين من أجل ذلك من قبيل حجية خبر الواحد وشرائطه, وغيره من المباحث, علما أن هذا ما لا نراه في كلمات السابقين بسبب اعتمادهم على منهج جمع القرائن.

 ومما يترتب على ذلك:

 الأول: إن المنهج السندي يدور مدار الحجية وعدمها بالنسبة للرواية, بخلاف منهج جمع القرائن فهو يدور مدار الصدور عن المعصوم وعدمه, والفرق بين المنهجين كبير؛ فالحجية لا تلازم الصدور, وعدمها لا يلازم عدمه أيضا, أما في منهج جمع القرائن فلا نبحث حينئذٍ عن الحجية وعدمها, بل البحث يكون عن الصدور وعدمه.

 فلذا نحن حينما نأتي الى روايات الخمس نتطلع فيها لنرى مضمون النص واللغة والبيان, بالإضافة الى القرائن المحيطة والحافة بالرواية لنراها هل أنها صدرت من المعصوم أم لا.

 الثاني:إن المنهج السندي يتأثر بكثير من العوامل والظروف, فالوثاقة مثلاً ليس لها ضابطة محددة ومتفق عليها في علم الرجال؛ وذلك لتأثر المباني الرجالية بالمباني الكلامية فعلى سبيل المثال نرى أن المبنى الكلامي في قضية سهو الرسول عند الشيخ الطوسي هو : ( أن الاعتقاد بأنه لا يسهو أول درجات الغلو) حينئذٍ فأي شخص يقول بعدم سهوه(ص) يكون مغالياً, وعندما يكون كذلك فلا يؤخذ حينئذٍ بروايته, ومثل هذا الكثير, فمجرد الاختلاف في المبنى الكلامي يسقط الكثير عن الاعتبار, المؤدي الى عدم قبول الرواية والأخذ بها.

 وبذلك يتبين أن المنهج السندي كثيراً ما يقع فيه التعارض بسبب تعدد المباني الرجالية المتأتي عن تعدد المباني الكلامية, فلا يوجد حينئذٍ شخصٌ خالٍ من الخدش والجرح, وهذا ما لا نراه في المنهج المضموني, لعدم توقفه على الأمور المذكورة آنفاً.

 الثالث: إن الاعتماد على المنهج السندي يضيع الكثير من المعارف الدينية التي تتضمنا الكتب المحكوم عليها بضعف السند من قبيل كتابا فقه الرضا وتحف العقول اللذان يحملان الكثير من المعارف الجليلة العظيمة, إلا أن ذلك لا يمكن أن يحصل حين الاعتماد على المنهج المضموني؛ وذلك لأنه يبتني على جمع القرائن, لا على الصحة والضعف.

 علماً أننا نعتمد هذا المبنى ـ جمع القرائن ـ في قراءتنا لروايات الخمس, لكن بعد إضافة عامل آخر الى ذلك وهو المنهج التأريخي, وهو مما اُعتمد عليه في كتب الرجال قديما, واليه أشار الشهيد الثاني في كتابه الرعاية لحال البداية في علم الدراية في ص174 بقوله: (ومن المهم في هذا الباب معرفة طبقات الرواة وفائدته الأمن من تداخل المشتبهين ـ في الأسماء ـ وإمكان الإطلاع على تبين التدليس والوقوف على حقيقة المراد من العنعنة ومن المهم أيضاً معرفة مواليدهم ووفياتهم فبمعرفتها يحصل الأمن من دعوى المدعي اللقاء ـ لقاء المروي عنه ـ) لأن النقل يكون بطريقين إما أن يلتقي به ويسمع منه وإما أن يأخذ الرواية وجادةً ـ أي أنه لم يلتقي بالراوي ولم يسمع منه بل عن قرآءة مصنفه مثلا ـ وهذا من أخطر أنواع النقل؛ لان التثبت والجزم بأن هذا الكتاب لفلان ليس أمرا سهلا, فالروايات المنقولة بالوجادة من أضعف الروايات, إلا أن يحصل الاطمئنان بأن ما قرأه من كتاب أو مصنفٍ هو لفلانٍ قد كتبه بيده ولم يناله شيء من الإدخال والتحريف وضمان ذلك من الصعب العسير.

 ثم قال: (وكم فتح الله علينا بواسطة معرفة ذلك العلم - المنهج التاريخي- بكذب أخبارٍ شائعةٍ بين أهل العلم فضلاً عن غيرهم حتى كادت أن تبلغ مرتبة الاستفاضة) ولا يريد أن يشير بقوله الى كذب الرواة, بل أن الطبقات المذكورة لا ينسجم بعضها مع البعض الآخر إما لوجود سقطٍ فيها أو لأن الواضع غير مطلع في أحوال الطبقات فاشتبه عليه الأمر حين الوضع, وبذلك ينكشف الكثير من الكذب والتدليس والوضع.

 ثم يقول في مورد آخر ص96 (وطريق ما يعلم به الإرسال - الإرسال في الحديث- أمران: جليٌ وخفي, فالأول بعدم التلاقي ا, من الراوي والمروي عنه, إما لكونه لم يدرك عصره, أو أدركه لكن لم يجتمعا وليست له منه إجازةٌ ولا وجادةٌ ومن ثم احتيج إلى التاريخ لتضمنه تحرير مواليد الرواة ووفياتهم وأوقات طلبهم وارتحالهم وقد افتضح أقوامٌ ادعوا الرواية عن شيوخٍ ظهر بالتاريخ كذب دعواهم< فنعرف حينئذٍ القيمة الكبيرة للمنهج التأريخي الذي من خلاله يمكننا التوصل الى كثير من الحقائق الخافية.

 فهو الذي يكشف عن حقيقة الأحداث الواقعة ومدى انطباقها مع ما تخبر عنه الرواية من أمور.

 وحينئذٍ فعندما نأتي الى الرواية التي أشرنا إليها بالأمس ـ التي هي من الصحيح الإعلائي, بل وأنها تعتبر من أهم الروايات في باب الخمس في أرباح المكاسب ـ نجد أن الاعلام قد انقسموا حولها الى ثلاثة جهات:

 الاتجاه الأول: يعتقد أن الرواية مضطربة متناً, ومخالفة لأصول المذهب وقواعده؛ لذلك فأن أصحاب هذا الاتجاه قد انقسموا على أنفسهم بين قاطع بعدم الصدور, ومتوقف فيه, وهذا يكشف بدوره عن أن كثيرا ممن يؤمن بالمنهج السندي قد يلجأ أحيانا الى منهج جمع القرائن, وهذا ما نراه حاصل في هذا الاتجاه, فرغم اعتقادهم بصحة هذه الرواية, الا أننا نجدهم بين قاطع بعدم الصدور, وبين متوقف فيه, ومضمون الرواية هو الذي جعلهم يتخذون الموقف المشار اليه.

 فنجد المقدس الاردبيلي في كتابه مجمع الفائدة والبرهان في المجلد الرابع ص310 - 316 يقول: (قوله وفيما يفضُل عن مؤونة السنة وهذه مكاتبة طويلة وفيها أحكام كثيرة مخالفة للمذهب ـ مع كونها صحيحة السند ـ أولاً, مع اضطرابٍ وقصور عن دلالتها على مذهبه لعدم ذكر الخمس صريحا...) ثم يقول بعد ذلك ( وبالجملة هذا الخبر مضطربٌ بحيث لا يمكن الاستدلال به على شيء والمسألة ـ الخمس في أرباح المكاسب ـ من المشكلات, لعدم صراحة الآية). فالواضح من كلامه أنه لم يعتمد المنهج السندي للأخذ بالرواية, بل أن مضمونها هو ما جعله يتوقف عن الأخذ بها.

 وكذلك ما ورد عن المحقق العاملي في كتابه المدارك, المجلد الخامس ص383 حيث يقول: (وأما رواية علي ابن مهزيار فهي معتبرة السند لكنها متروكة الظاهر) والإعراض هنا عن المضمون لا السند؛ لكونه صحيحاً. فهو ـ الإعراض ـ يكشف عن عدم وضوح الرواية بالشكل المطلوب.

 الاتجاه الثاني: يعتقد جازماً بعدم صدور الرواية.

 وممن يؤيد هذا المعنى من الأعلام المعاصرين السيد الميلاني الذي ففي كتابه محاضرات في فقه الإمامية, باب الخمس ص93 يقول: (والحاصل أن الصحيحة بعد أن لم يعتمد عليها أصحابنا من السلف والخلف فظاهرها غير مرادٍ مضافاً إلى ما في متنها من أنحاء الاضطراب المانع من الوثوق بالصدور) والواضح من كلامه أن الملاك الذي يعتمد عليه للأخذ بالرواية هو المنهج المضموني ـ جمع القرائن ـ لا صحة الرواية وضعفها.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo