< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/05/07

بسم الله الرحمن الرحیم

في تعدد نظريات ولاية الأمر

 تعرضنا فيما سبق من الابحاث الى النظرية الأولى التي ذكرها السيد الخوئي وقلنا في ذلك أن السيد الخوئي يعتقد بعدم أي إعطاءٍ يتعلق بولاية الأمر للفقيه في زمن الغيبة, بل أن ما ثبت للفقيه هو الفتوى وبيان الحكم الشرعي وأجيز بترافع المتخاصمين إليه ليحكم بينهم بحسب الموازين الفقهية دون إعطاء الولاية له لإقامة ما حكم به فنراه (ره) يقول: (بحسب أدلتنا لا توجد مثل هذه الولاية), ولذا فلعل البعض قد استفاد من المعنى الذي قرأناه بالأمس (والقدر المتيقن ممن ثبت له الوجوب - الوجوب الكفائي - هو المجتهد الجامع للشرائط فلا جَرَم يقطع بكونه منصوباً من قبل الشارع) بأنه دال على الولاية في كلماته (ره), الا أن تلك الاستفادة ليست بصحيحة وتامة؛ لأنه (ره) يذهب الى عدم وجود الدليل اللفظي حتى للتنصيب على القضاء, أما التصدي لذلك فهو حاصل بالوجوب الكفائي؛ لكي لا تبق الأمة من دون أحد يحل لها المشاكل والمنازعات فلذا نراه يقول: (ونتيجة ذلك نفوذ حكم الحاكم في إطارٍ خاص وهو باب المنازعات والمرافعات فإنه المتيقن من مورد الوجوب الكفائي المقطوع به). فلا تحتاج عبارته الى أي تأويل للقول بثبوت الولاية للفقيه لأنه يصرح بعدم ثبوتها وذلك كما في الجزء الأول من التنقيح ص525: (أن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل و انما هي مختصة بالنبي و الأئمة عليهم السلام، بل الثابت حسب ما تستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه و حجية فتواه، و ليس له التصرف في مال القصر أو غيره مما هو من شئون الولاية إلا في الأمر الحسبي فان الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى. بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله و انعزال وكيله بموته و ذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصر أو الغيب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة، إلا أنه لما كان من الأمور الحسبية و لم يكن بد من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفا قطعيا عن رضى المالك الحقيقي و هو اللّٰه- جلت عظمته- و أنه جعل ذلك التصرف نافذا حقيقة.

 و القدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية).

 والمفهوم من كلامه (ره) أن كثيرا من الأمور التي تحتاجها الأمة كالتصدي وإدارة أمور المجتمع وقيادته مأخوذة على عاتق الفقيه من باب الأمور الحسبية لا الولائية. فهو يتفق مع الرأي الاول أن هذه الأمور مجعولة للفقيه لكن يختلف معهم أن نحو ثبوتها عنده من باب الأمور الحسبية لا الولائية كما يدعون.

 وهذا المعنى قد صرح به في كتابه مباني تكملة المنهاج بقوله: (يجوز ـ الجواز بالمعنى الأعم أي: الوجوب ـ للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود على الأظهر هذا هو المعروف والمشهور بين الأصحاب بل لم ينقل فيه خلاف ـ إما بنحو الولاية أو الأمور الحسبية ـ ويدل على ذلك أمران: الأول: أن إقامة الحدود إنما شرّعت للمصلحة العامة, والثاني: أن أدلة الحدود مطلقة وغير مقيدة بزمان دون زمان إلى أن يقول: وهذه الأدلة تدل على أنه لابد من إقامة الحدود, حتى في زمن الغيبة الى أن يقول: إذن فلابد من الأخذ بالمقدار المتيقن والمتيقن هو من إليه الأمر وهو الحاكم الشرعي), وبما أن إقامة الحدود تتوقف على كثير من الشرائط كوجود الشرطة والسجن وغير ذلك فيجب على الفقيه أن يقوم بذلك التكليف, ومع عدم توفرها يسقط التكليف عنه. ويدل على ذلك الرواية القائلة: (سألت الصادق من يقيم الحدود السلطان أو القاضي, فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم) من هنا يقول (قدس): (فإنها بضميمة ما دل على أن من إليه الحكم في زمان الغيبة هم الفقهاء تدل على أن إقامة الحدود إليهم ووظيفتهم).

 أما النظرية الثانية والتي تتحدث عن حدود الولاية في منطقة الفراغ فقد أوضحنا المراد منها بحث الأمس. أم الآن فيقع الكلام في:

 النظرية الثالثة: ( الولاية الانتخابية), وهي من النظريات الجديدة التي استحدثت بعد انتصار الجمهورية الاسلامية في إيران, ولم تكن قد ذكرت في كلمات السابقين من العلماء ومفادها: أن كل ما ثبت للامام من صلاحيات ولاية الأمر قد أعطيت للفقيه الجامع للشرائط لقيادة الأمة وإدارة شؤونها وذلك لا يكون الا مع القدرة والاستطاعة على ذلك, أما مع عدم القدرة والاستطاعة فيكون الأمر سالبة بانتفاء الموضوع.

 و يعتقد أصحاب هذه النظرية أن الولاية وفاعليتها تتحقق وتتحصل بانتخاب الأمة للفقيه, لا أن مجرد حصول الشأنية للفقيه تجعل منه ولياً للأمر وقائداً للأمة, وهذا من قبيل صلاحية الفرد العادل لان يكون إماما للجماعة الذي لم تنصبه الجهة المسؤولة على ذلك.

 علما أن الأمة هنا ليست مختارة في الانتخاب وعدم الانتخاب, بل أن الواجب عليها هو انتخاب ولي الأمر لها؛ ليقوم بالمهام الملقاة على عاتقه كالتصدي وقيادة المجتمع وإدارة أموره.

 فالولاية بالنسبة الى الأمة مقدمة واجبٍ يجب السعي لتحصيلها, أما بالنسبة لولي الفقيه فهي مقدمة وجوب متى تحققت يكون الفقيه المنتخب وليا للأمر وقائدا للأمة بالفعل, وعند عدم التحقق فلا يكون الفقيه حينئذٍ وليا للأمر.

 ويظهر من ذلك أن الولاية بالنسبة للأمة هي من قبيل الوضوء للصلاة لابد من السعي لتحصيلهما, أما الولاية بالنسبة للفقيه فهي من قبيل الاستطاعة للحج الذي لا يجب السعي لتحصيله.

 فهذه النظرية تشير في الحقيقة الى أمرين أساسيين هما:

 الأول: أن ولاية الأمر تتأتى عن طريق انتخاب الأمة, أي: أن الائمة (ع) قد فوضوا اختيار الولي الفقيه الى الأمة وليس للفقيه أي حقٍ في ذلك ما لم تنتخبه جماهير المسلمين.

 الثاني: وقوع المسؤولية الكبيرة على عاتق العلماء في تربية الأمة والنهوض بها فكريا وعقائديا لكي يقع الاختيار في الانتخاب على الشخص الملائم والخبير لهذا المنصب.

 ومن هنا يتضح أن هناك واجباً آخر لابد للعلماء من تأديته, فبالاضافة الى الواجبات الملقاة على عاتقهم عليهم أيضاً أن يوعوا الأمة ويوجهوها نحو الطريق الصواب.

 أما شواهد هذه النظرية فهي:

 الشاهد الأول: (عن الإمام أمير المؤمنين(ع) قال: دعوني والتمسوا غيري واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ), ولابد من الالفات هنا الى أن ولاية المعصوم غير متوقفة على انتخاب الأمة, بل هي ثابتة له (ع) من الله سبحانه وتعالى بالتنصيب, نعم, ما يتوقف منها على انتخاب الأمة هو فاعليتها فقط.

 وبهذا يتضح أن الولاية بالنسبة للامام هي مقدمة واجب يجب تحصيلها والسعي إليها, بخلاف الولاية بالنسبة للفقيه فهي مقدمة وجوب كما أوضحنا.

 أما بالنسبة للأمة فهي مقدمة واجب سواء كان الولي إماما أو فقيها جامعا للشرائط.

 الشاهد الثاني: قول أمير المؤمنين (ع) (أيها الناس عن ملأ إن هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه حقٌ إلا من أمرّتم وقد افترقا بالأمس على أمرٍ وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم...).

 الشاهد الثالث: قول أمير المؤمنين (ع) (وقد كان رسول الله(ص) عهد إليّ عهداً فقال يا ابن أبي طالب لك ولاءُ أمتي فإن ولوك في عافيةٍ وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه). والرواية في مقام بيان فاعلية ولاية الأمر, لا في مقام بيان تحقق الولاية؛ لأننا قلنا أن تحققها حاصل بالتنصيب الإلهي.

 الشاهد الرابع: قول رسول الله (ص) لأمته (إن تولوها عليّاً تجدوه هادياً مهدياً ), والتولية هنا ليس على نحو التخيير بل على نحو الوجوب, لكنه (ص) يريد أن يبين أن عدم تولية علي لذلك الأمر يترتب عليه الخسران الكبير وهو ما حصل بالفعل.

 الشاهد الخامس: (والواجب في حكم الله وفي حكم الإسلام بعدما يموت إمامهم أو يقتل أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً) وهذا ما أشرنا إليه سابقا من أن يكون الفقيه المتصدي عالما في جميع الأبواب والمعارف الدينية, وعارفا بزمانه وما يحيط به.

 الشاهد الخامس: قول الامام الحسين (ع) (وإني باعثٌ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم ابن عقيل فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحِجى وأهل الفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم...), أي إذا كان رأي أهل الحل والعقد يمثل رأي الأمة فهو حجة لابد من الالتزام به, وهذا يكشف أن الانتخاب والبيعة لا يشترط فيهما المباشرة من المكلفين بأنفسهم, بل أن رأيهم قد يُمثل برأي عقلاء القوم وكبرائهم.

 ويفهم من كلامه (ع) أن الوقوف بوجه الظالمين ومجاهدتهم وتغيير نظامهم لا يكون الا عن طريق الأمة وذلك كما نراه يقول: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل...), وذلك يتوقف على انتخاب الأمة لقائدٍ وإمام ٍتجتمع فيه المواصفات الحقيقية لمعنى القيادة والإمامة؛ لكي يتحقق التغيير المنشود.

 الشاهد السادس: قول الامام أمير المؤمنين (ع) (حتى إذا قبض الله رسوله رجع قومٌ على الأعقاب وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج ووصلوا غير الرحم وهجروا السبب الذي أمروا بمودته), وبذلك سقط التكليف عن أمير المؤمنين (ع) لأن الأمة قد أجمعت أمرها على غيره (ع).

 الشاهد السابع: قول الامام الحسين(ع): (أيها الناس إنكم إن تتقوا الله إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله وتعرف الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ونحن أهل بيت محمدٍ أولى بولاته من هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان). وكلامه (ع) واضح الدلالة على أن الأمة التي تجعل الأمر في غير أهله سوف تنال من المصائب والظلم ما لا يحصى.

 الشاهد الثامن: قول الزهراء (ع): (أصبحت والله عائف لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجنتهم وسأمتهم بعد أن سبرتهم ويحهم أنّا زعزعوها عن رواس الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبِط الوحي الأمين الى أن تقول: ألا ذلك هو الخسران المبين). وكلامها واضح جلي بأن الامامة منصب الهي لهم (ع) وإلا لا معنى لقولها زعزعوها, الا أن ذلك المنصب لم يكن منجُزا بالنسبة لهم؛ لعدم حصول المنجِز له الذي هو الانتخاب.

 وبهذا يتضح أن الولاية في هذا الرأي المعطاة من الامام (ع) للفقيه لا تكون الا بشرائط محددة ومن أبرز تلك الشرائط الانتخاب, فلا ولاية بدونه, وهي بالنسبة الى الانتخاب من قبيل الاستطاعة للحج.

 وللاستزادة أكثر حول هذا البحث بالإمكان الرجوع الى الآية 25 من سورة الحديد القائلة : «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ» فمقتضى القاعدة أن وظيفة الرسل هي الإفتاء الى الأمة ثم إقامة العدل في حياة الناس, ومما ينبغي الالفات إليه أن الآية«لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» قد نسبت إقامة القسط والعدل الى الناس وهذا يدل على أن دور المجتمع دور رئيسي لا يمكن إغفاله.

 ثم أن إقامة القسط والعدل من الرسل في الناس لا يكون بمجرد الدعوة والنصيحة دون المجاهدة والترهيب فنرى الآية الكريمة تقول: { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» وهي إشارة واضحة لمصاحبة الدعوة الى الشدة والصلابة والقوة؛ لأنه في أغلب الأحيان العدل لا يقام الا بالقوة والشدة.

 النظرية الرابعة: (الولاية الانتصابية), وهي النظرية القائلة بأن الامام أعمل ولايته بنقل كل الصلاحيات التي تتعلق به الى من يستطيع أن يقوم مقامه من الفقهاء وذلك بسبب غيبته روحي فداه, ولو كان حاضرا (ع) لكانت الولاية له دون غيره.

 وهذا النوع من الولاية ليس للناس فيها أي دور في جعل الولي الفقيه, وليس لقبولهم وعدمه أي تأثير في ذلك؛ لأنها قد جعلت من الامام (ع). فهي من قبيل ولاية الأب على أبناءه الصغار الذين لايؤثر رضاهم وعدمه في ولاية الأب عليهم.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo