< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/05/20

بسم الله الرحمن الرحیم

القول في ثبوت الولاية التشريعية والقضائية والتنفيذية وعدمه

 أوضحنا فيما سبق من الابحاث أن الأصل في الولاية لله سبحانه وتعالى وهي ناشئة من خالقيته المقتضية لمالكيته.

 ثم تحدثنا عن إمكان وعدم أمكان انتقال تلك الولاية الى النبي والائمة المعصومين وقلنا توجد ثلاثة اتجاهات في المقام هي:

 الأول: الاتجاه المعتقد أن القدر المتيقن من الثبوت هو: المرجعية الدينية والقيادة السياسية, أي: ما يتعلق ببيان الدين والتشريعات والتنفيذ, وما زاد على ذلك ـ أي المرتبة الثالثة وهي الثابتة لنبي الله عيسى في إحياء الموتى والثابتة لعفريت من الجن كما في قوله تعالى«قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» ـ فلا دليل عليه, وهذا ما يذهب اليه بعض من الاعلام من مذهبنا كالسيد محمد باقر الدرجئي أستاذ السيد البروجردي, لذا نجد الشيخ مطهري يقول في كتابه الامامة ترجمة جواد علي كسار ص5 يقول: ( والبعض الآخر يعتقد بالمرتبة الأولى والثانية للإمامة, بيد أنه لا يصل الى الثالثة).

 علما أن الشيخ المطهري يعتقد بالاضافة الى ثبوت الولاية الأولى والثانية بثبوت الولاية الثالثة لهم (ع) ويرى فيها أنها أوج نظرية الامامة.

 الا أن الحق ليس كذلك؛ لأن أوج نظرية الامامة هو الاعتقاد بأنهم وسائط الفيض والعلل الفاعلية والغائية لهذا الكون.

 وممن يرى من الاعلام عدم ثبوت الولاية الثالثة لهم أيضاً صاحب البحار حيث يقول: (أن الله تعالى يفعل ذلك مقارناً لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا وغير ذلك من المعجزات، فإن جميع ذلك إنما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كفاحاً لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به فإذا قال به أحد فهو قول بما لا يعلم، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم وأما ما ورد من أخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر إليهم وأنه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليتهم في ذلك ولا للاستشارة بهم بل له الخلق والأمر وليس ذلك إلا لتشريفهم وإكرامهم وإظهار رفعة مقامهم) ومن أراد التفصيل أكثر لمعرفة رأيه (ره) يستطيع الرجوع الى المجلد الخامس والعشرين ص346 حيث يشير الى ذلك مفصلا.

 الثاني: الاتجاه المعتقد ـ بالاضافة الى النحو الأول والثاني من الولاية ـ بثبوت النحو الثالث من الولاية الثابت لعيسى وابراهيم أو العبد الصالح الذي كان مع موسى وما شابه ذلك.

 الثالث: وهو الاتجاه الذي نعتقده ونذهب إليه ويعتقده جملة من أعلامنا ومنهم السيد الطباطبائي الذي يقول في الميزان المجلد الأول ص121: (والأخبار في هذه المعاني كثيرة متضافرة ـ أي ليست رواية أو روايتين ـ الرواية عن جابر قلت لرسول الله أول شيء خلق الله ما هو؟ فقال: نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير ـ وكل هنا دالة على العموم, فواسطة الفيض بالنسبة الى كل عالم الامكان بادئة من الرسول ـ ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً فخلق العرش من قسم والكرسي من قسم وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم... ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مئة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ـ أي أنه واسطة الفيض بالنسبة للأنبياء والأولياء فضلاً عن بقية الناس ـ ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفساها أرواح الأولياء). هذا ما يعتقده صاحب البحار, علما أننا بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة صيحاتٍ شاذة تذهب الى أن الثابت للنبي والائمة المرجعية الدينية والقدوتية والاسوتية دون القيادة السياسية, وأن أحرار في الانتخاب وعدمه.

 وبالعودة الى أصل البحث نقول: أن الثابت للنبي الأكرم والائمة الميامين ولاية التشريع الشاملة للولاية التشريعية والقضائية والتنفيذية, ومقصودنا من الولاية التشريعية هو ما ثبت للرسول من صلاحيات وتفويض بإذن من الله في تشريع بعض الاحكام الثابتة وأنها جزء ثابت من الشريعة كما في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية, بالاضافة الى ولاية التبليغ والبيان.

 ولنا أن نتساءل هنا: هل أن ولاية التشريع بأقساهما المزبورة وولاية البيان قد أعطيت للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة أم لا؟

 الجواب: نقول أن الذي أعطي للفقيه هو ولاية الإفتاء المتأتية عن الاستنباط والاجتهاد القابل للصواب والخطأ, ولم يعط ولاية التبليغ والبيان بعنوانها الموجود عند المعصوم؛ لأن ما هو ثابت من الإبلاغ والبيان للمعصوم لا يتصور فيه الخطأ بخلاف الفقيه, فلم يعط الا الإفتاء, وهذا هو القدر المتيقن الثابت للفقيه في عصر الغيبة.

 علما أننا قد بينا في الأمس أن المنهج المعتمد في الإفتاء قد وقع فيه الاختلاف حيث ذهب الأصوليون الى أن المنهج المعتمد في ذلك هو المنهج الاجتهادي الأصولي بخلاف الاخباريين الذين لم يوافقوا على هذا المنهج, الا أن كلاهما يعتقدان بثبوت ولاية الإفتاء للفقيه في عصر الغيبة.

 أما ولاية التشريع فلم يقم الدليل على إعطائها للفقيه, بل قام الدليل على عدم إعطائها والدليل هو: أن الشريعة التي جاء بها الرسول (ص) ومن بعده الائمة الأطهار إما أنها محتاجة الى التشريع الثابت وإما أنها غير محتاجة له, وعلى الأول يلزم القول بنقص الشريعة وهو باطل و منه يلزم بطلان الشق الأول وهذا المعنى يشير إليه الامام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة الخطبة رقم 18 بقوله: (أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه والله تعالى يقول ما فرطنا في الكتاب من شيء، ويقول: وفيه تبيان لكل شي..). وإما أن نقول أن الشريعة تامة وليس فيها أي نقص وحينئذٍ تنتفي الحاجة الى نقل الولاية التشريعية للفقهاء في عصر الغيبة.

 وبهذا يظهر أن الثابت للفقيه ولاية الإفتاء فقط دون الولاية التشريعية التي هي من صلاحيات الرسول الأكرم (ص) حلاله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة ولا يحق لأي فقيه حينئذٍ أن يزيد أو ينقص في ذلك.

 أما ما يخص السلطة القضائية التي لها دور فاعل في حياة الناس في حل خصوماتهم ومنازعاتهم فمن الثابت أنها قد ثبتت للرسول الأكرم والائمة الميامين ولا يجوز الرجوع في ذلك الى غيرهم (ع).

 ولنا أن نتساءل هنا: هل أن السلطة القضائية الثابتة للمعصوم (ع) ثابتة للفقيه في عصر الغيبة أم لا؟

 الثابت بين الاعلام على اختلاف مشاربهم من أصوليين وإخباريين وغيرهم أن ذلك ثابت لهم, الا أن الاختلاف قد وقع بينهم في الدليل الدال على ذلك هل هو لفظي أم غيره؟

 مشهور الفقهاء ذهب الى أن الدليل الدال على ذلك لفظي وهذا ما يشير إليه الشيخ الانصاري في المكاسب المجلد الثالث ص545 بقوله: (المقام الثاني الذي أعطي له الحكومة، فله الحكم بما يراه حقاً في المرافعات وغيرها في الجملة، وهذا المنصب أيضاً ثابت له بلا خلاف فتوى ونصاً), الا أن السيد الخوئي لا يرى ما ذهب إليه الشيخ الانصاري, بل يعتقد عدم وجود الدليل اللفظي على ذلك لذا يقول في مستند العروة الوثقى المجلد الثاني ص88 : (وملخص الكلام في المقام أن إعطاء الإمام منصب القضاء للعلماء أو لغير العلماء لم يثبت بأي دليل لفظي معتبر ليتمسك بإطلاقه) وبناء على قوله هذا يلزم أن المسؤولية التي عليها الفقيه المتصدي للقضاء لرفع المخاصمات والمنازعات إنما هو من باب الأمور الحسبية لا من باب ولاية الأمر لذا يقول في ذلك: (والقدر المتيقن ممن ثبت له الوجوب المزبور هو المجتهد الجامع للشرائط فلا جرم يقطع بكونه منصوباً لا بدليل لفظي بل بهذا الدليل اللبي الذي أشرنا إليه، وأما غيره).

 ويلزم مما تقدم أن الدليل الدال على تنصيب الفقيه لو كان لفظياً فلنا حينئذٍ أن ننفي المقدار الزائد المشكوك فيه بإطلاق الدليل لعدم وروده في لسانه؛ لأن ما يريده يقوله وبما أنه لم يقله فهو لا يريده. بخلاف الدليل اللبي فأننا حينما نشك بدخالة قيدٍ من القيود لا نستطيع حينئذٍ نفيه, بل لابد من الأخذ به, لأن نفي الزائد في المقام غير ممكنٍ, فيكون الدليل شاملا حتى للمشكوك فيه.

 فإذا كان لسان الدليل اللفظي دال على إرادة المجتهد المقيد بالمطلق ـ أي المجتهد المطلق ـ التزمنا به, أما إذا كان الدليل اللفظي مطلقٌ وغير مقيد فحينئذٍ ننفي المقدار المشكوك فيه والذي لم يذكر في لسان الدليل.

 وهذا الأمر غير ممكن لو كان الدليل الدال على ذلك لبياً فلا نستطيع نفي الزائد المشكوك فيه حينئذٍ. بل يكون الدليل حينئذٍ شاملا له.

 أما الاتجاه الأخباري فيعتقد أن الراوي قد نصب للقضاء ولابد أن يقضي بين الناس بما لديه من حديث عن المعصومين (ع), دون الفقيه؛ لأن الفقيه يجتهد ويفتي الناس بما يرى وهذا المعنى يشير إليه الاستر أبادي في الفوائد المدنية ص241 بقوله: (إن اختلاف المتخاصمين عند القاضي إما ناشئ بالجهل بحكم الله أو ناشئ من ذكر أحدهما قضية شخصية وإنكار الآخر إياها، فعلى الأولى القاضي عليه أن يأتي بحديث عن أئمة الهدى...),

 الا أن الحق أن ليس كما يراه الاخباريون من أن الفقيه يفتي بما يراه, بل أن فتواه مبتنية على الأسس والأصول التي أسست لها الشريعة بالقرآن, وبقول المعصوم وفعله وتقريره وغير ذلك من الأدلة كالعقل والاجماع.

 وخلاصة القول في ولاية القضاء أن كلا من الاتجاه الأصولي والإخباري يرى ثبوت تلك السلطة, فهي للفقيه عند الأصوليين ولرواة الحديث عند الاخباريين.

 أما السلطة التنفيذية وهي مرتبة استيفاء الحقوق الحاصلة بعد مرحلة القضاء فلا شك في ثبوتها للرسول الأكرم, أما الائمة المعصومين فهي ثابتة لهم كذلك؛ لأن كل ما ثبت له (ص) ثابت لهم (ع).

 ولنا أن نتساءل هنا: هل أن الثابت للمعصوم من الولاية التنفيذية ثابت للفقهاء في عصر الغيبة أم لا؟ يوجد في المقام اتجاهات ثلاث:

 الأول: يعتقد أن الولاية التنفيذية من مختصات المعصوم (ع) والمنصوب من قبلهم تنصيبا خاصاً لهذا الفعل أو ما يشمله.

 لذا فأن الكثير من الفقهاء عندما كتب رسالته العملية لم يكتب فيها بابا للحدود؛ لأنه يعتقد أن هذه الولاية مشروطة ببسط اليد وهو ليس كذلك.

 الا أننا يمكن أن نلاحظ على ذلك: أن إقامة الحدود غير متوقفة على تحقق بسط اليد 100%, بل أنها قد تتحقق بالنسبة الأقل مهما كانت, فلو كان الفقيه مبسوط اليد بنسبةٍ ما, أيا كانت, يمكنه أن يقيم الحدود بمقدار تلك النسبة.

 الثاني: يعتقد بأن المسألة من المسائل التي يصعب فيها القول؛ لأنها من المسائل العسيرة والصعبة, فآثر التوقف في ذلك على النفي والاثبات, وهذا ما يراه المحقق الحلي.

 الثالث: يعتقد أن تلك الولاية ثابتة للفقيه في عصر الغيبة لكن ضمن شرائط محددة لابد من توفرها, علما أن هذا الاتجاه ينقسم الى قسمين في حقيقة الدليل الذي يؤدي الى ثبوت هذه الولاية, هما:

 أولا: يعتقد أن الولاية التنفيذية ثابتة بالدليل اللفظي.

 ثانيا: يعتقد أن الولاية غير ثابتة بالدليل اللفظي بل من باب الولاية في الأمور الحسبية, وهذا ما يذهب إليه السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج المجلد الأول ص224 بقوله: (يجوز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود على الأظهر... الى أن يقول: وهذه الأدلة تدل على أنه لابد من إقامة الحدود لكنها لا تدل على أن المتصدي لإقامتها من هو, ومن الضروري أن ذلك لم يشرع لكل فرد من أفراد المسلمين فإنه يوجب اختلال النظام...) فالمسألة ـ ثبوت الولاية النتفيذيةـ محل وفاق وإجماعٍ بين الاعلام ولا خلاف فيها لذا نراه (ره) يقول في الحاشية: (هذا هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، بل لم ينقل فيه خلاف إلا ما حكي، ويظهر من المحقق في الشرائع والعلامة في بعض كتبه التوقف). الا أن الخلاف حصل في الدليل الدال على ذلك كما أوضحنا.

 وللكلام تتمة

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo