< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/05/21

بسم الله الرحمن الرحیم

القول في ثبوت الولاية التشريعية والقضائية والتنفيذية وعدمه ق2

 اتضح من خلال البحث السابق بأن الثابت للفقيه في عصر الغيبة ولاية الإفتاء والقضاء, ولا شك أن هذين الأمرين من الواجبات, بمعنى: ضرورة وجود الأفراد التي تتحقق فيهم القدرة والكفاءة على القيام بهذا الدور, من هنا صرح الاعلام بأن هذين الواجبين من الواجبات الكفائية.

 وكون القضاء واجبا كفائياً يلزم منه سعي الفقيه الى تهيئة المقدمات اللازمة لإقامة هذا الواجب بين الناس برفع التنازع والتخاصم بحيث يكون حاضرا بين الناس لا منزويا عنهم, ولا يكون الفقيه معذورا حينما يبتعد عن الناس وهو قادر على ممارسة عمله دون عذر أو سبب.

 والملاحظ أن الفقهاء قد قاموا بمسألة الفتيا خير قيام بخلاف مسألة القضاء فأننا لا نرى السعي والجد فيها كما هو الحال في الفتيا.

 أما ما يتعلق بمسألة الحدود فقد بينا كذلك أن الواجب على الفقيه ليس هو بيان الحق فحسب, بل يجب عليه أيضا السعي الى تحقيقه وفرضه.

 وتحقيق المقدمات وتحصيلها في مسألة إقامة الحدود واجب على الفقيه تهيئته بتهيئة مقدماته, ومن ضمن تلك المقدمات السعي الى إقامة النظام الاسلامي لكون إقامة الحدود والأمر والنهي مما يتوقف على ذلك, فلا سبيل للفقيه الى إقامة الحدود واستيفاء الحقوق في فرض عدم وجود الدولة القائمة على النظام الاسلامي وهذا ما حدا بصاحب الجواهر الى القول في المجلد الثاني عشر ص393: ( وكيف كان فقد قيل والقائل الاسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه السلام كما لهم الحكم بين الناس الى أن يقول: مع الأمن من ضرر سلطان الوقت ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك كما يجب مساعدة الإمام عليه السلام عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون حينئذ إجماعه عليه لا على خلافه، الى أن يقول: فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف وبعض كتب الفاضل سيما بعد وضوح دليله الذي هو قول الصادق عليه السلام في مقبول عمر بن حنظلة...).

 وبهذا يظهر أن القدر المتيقن من ولاية الفقيه في عصر الغيبة والذي لم يختلف فيه احد من فقهاء الامامية هو: ولاية الإفتاء, ولاية القضاء, ولاية إقامة الحدود واستيفاء الحقوق.

 النحو الرابع من الولاية: ولاية الإذن في التصرف: غير خافٍ أن كثيرا من الأمور المباحة شرعا في ذاتها, ثابت للفرد حق التصرف فيها متى شاء, الا انه حينما تتشكل الدولة أو الامارة فأن الفرد يفقد الصلاحية في التصرف ما لم يكن هناك إذن من الولي أو الحاكم الشرعي, وهذا النحو من الصلاحية ثابت للرسول (ص). فنحن نرى في عصرنا الحاضر أن كثيرا من الأمور المباحة التي لا مانع من تحقيقها لا يمكن إنجازها من دون إجازةٍ تجيز تحقيق ذلك ومن أوضح المصاديق على ذلك إجازة البناء لمريد البناء والتطبيب للطبيب والتعليم للمعلم؛ وذلك لتنظيم أمور المجتمع والحفاظ على أمنه ورفاهيته ومنع حصول الإخلال بالأمن والفوضوية.

 وهذا المعنى يشير إليه الشيخ الانصاري ـ الإذن من المعصوم ـ في المكاسب المجلد الثالث ص553 بقوله: (بقي الكلام في ولايته على الوجه الثاني - أعني توقف تصرف الغير على إذنه، فيما كان متوقفا على إذن الإمام عليه السلام - وحيث إن موارد التوقف على إذن الإمام عليه السلام غير مضبوطة فلا بد من ذكر ما يكون كالضابط لها، فنقول: كل معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج ـ أي كل الأمور المرتبطة بمصلحة المجتمع من قبيل الأمن و الاقتصاد والحريات والتجارة وصحة الناس ورفاهيتهم ـ إن علم كونه وظيفة شخص خاص كنظر الأب في مال ولده الصغير إذ عين له ولياً مخصوصاً أو صنف خاص كالإفتاء والقضاء أو كل من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف فلا إشكال في شيء من ذلك وإن لم يعلم ذلك ـ أي من لم يعين له بحسب الأدلة ولي خاص واحتمل كونه مشروطاً في وجوده أو وجوده بنظره وجب الرجوع فيه إليه) فالأصل لابدية الرجوع والاستئذان من الامام في كل معروف الا في بعض الموارد التي ثبت الإذن من الامام بجواز التصرف فيها بدون إذنه ثم يبين رحمه الله كون هذه الأمور من المعروف لا ينافي إناطتها بإذن الامام فيقول: (ثم إن علم الفقيه من الأدلة جواز توليه، لعدم إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاص، تولاه مباشرة أو استنابة إن كان ممن يرى الاستنابة فيه، وإلا عطله فإن كونه معروفا لا ينافي إناطته بنظر الإمام عليه السلام والحرمان عنه عند فقده، كسائر البركات التي حرمناها بفقده عجل الله فرجه).

 وبهذا يظهر أن كل أمرٍ أراد الشارع تحققه وحصوله إن كان له ولي خاص فهو المسؤول عن ذلك وإن لم يكن له ولي فلابد من الرجوع الى المعصوم حينئذٍ لإيجاده, أما مع غيبة الامام فهل يكون الإذن في التصرف من الفقيه حينئذٍ أم لا؟ وهل تكون مخالفته مخالفة للمعصوم أم لا؟

 نقول نعم, يشترط الإذن من الفقيه شريطة أن يكون مبسوط اليد, أما مع عدم بسط اليد فالأمر بالنسبة له سالبة بانتفاء الموضوع.

 الا أن هذا النحو من الولاية قد وقع فيه الخلاف بين الاعلام والذي يهمنا هنا هو ذكر رأي الشيخ الانصاري في المقام لنرى هل أنه يقول بالولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة في هذا الأمر أم لا؟

 يقول (ره) في هذه المسألة في كتابه المكاسب المجلد الثالث ص554 (أما وجوب الرجوع الى الفقيه في الأمور المذكورة فيدل عليه مضافاً الى ما يستفاد من جعله حاكماً كما في مقبولة ابن حنظلة الظاهرة في كونه ـ الفقيه الجامع للشرائط ـ كسائر الحكام المنصوبين في زمن النبي صلى الله عليه وآله) فيرى (قد) أن الوظيفة الأصلية للفقيه في عصر الغيبة هي كوظيفة الحاكم المنصب من الامام (ع) أو كنائبه الخاص, أي: يُرجع إليه في كلٍ من الفتوى والقضاء وإقامة الحدود ونظم الأمور, و يكون المخالف له حينئذٍ مخالف لرسول الله (ص).

 لذا يقول: (في كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه والانتهاء فيها الى نظره, بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه... الى أن يصل به المقام الى الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة التي تقول: أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله فإن المراد بالحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لابد من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً الى الرئيس...). ثم يبدأ بالتعليق على الرواية قائلا: (وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية، فبعيد من وجوه: منها: أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع في حكمها إليه ـ أي الرجوع في موضوعات الحوادث لا في أحكامها حيث أن الموضوعات شيء والأحكام شيء آخر فالقول بالتخصيص بالمسائل الشرعية ليس بصحيح بناءً على هذه القرينةـ. ومنها: التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، فإنه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر، فكان هذا منصب ولاة الإمام عليه السلام من قبل نفسه، لا أنه واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه بعد غيبة الإمام عليه السلام، وإلا كان المناسب أن يقول: إنهم حجج الله عليكم " كما وصفهم في مقام آخر ب‌ أنهم أمناء الله على الحلال والحرام ) فيشير (ره) الى عدة نكات تفيد عدم اختصاص الرجوع الى رواة الحديث بالمسائل الشرعية فقط, بل في الموضوعات أيضاً, الا أننا سوف نكتفي بذكر نكتتين, هما:

 الأولى: أن الإمام (ع) قال (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا) ولاشك أن الحوادث من الموضوعات لا الاحكام.

 الثانية: أن الامام (ع) علل الرجوع الى الفقهاء لكونهم حججه على الناس وهو حجة الله عليهم الكاشف عن أن الأمر متعلق بالموضوعات, لأن الأمر لو كان مرتبط بالأحكام لكان ينبغي أن يعبر (ع) بحجج الله لا حجتي؛ لأن الفقيه إنما يبين أحكام الله تعالى, وهذا ما عليه من الشواهد كثير منها: أنه عبر بأنهم أمناء الله على خلقه بعد بيان وظيفتهم في بيان الحلال والحرام.

 وبهذا يظهر أن الأمر حينما يتعلق بأحكام الله فأن المعصوم يعبر عن الفقهاء بأمناء الله وحجج الله, وحينما يتعلق الأمر بالموضوعات فأنه يعبر بحجتي عليكم وما شابه ذلك.

 من هنا سوف يتبين بأن أقسام الولاية وأنحائها المعطاة من المعصوم الى الفقيه في عصر الغيبة هي من صلاحيات الامام (ع) فيستطيع في ذلك الإعطاء والمنع كيف شاء, أي داخلة تحت ولاية أمره (ع) وبهذا الشأن يقول (ره): (فكان هذا منصب ولاة الإمام من قبل نفسه لا أنه واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه) فالمنصب ليس منصبا إلهيا بل هو موضوع من الامام (ع).

 ثم يفيد (ره) أن لفظ الحوادث غير مختص بولاية الإفتاء والقضاء فنراه يقول في ذلك: (والحاصل أن الظاهر أن لفظ الحوادث ليس مختصاً بما اشتبه حكمه ـ ولاية الإفتاء ـ ولا بالمنازعات ـ ولاية القضاء ـ وعلى أي تقدير فقد ظهر مما ذكرنا أن ما دل عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه), علما أن هذه النظرية من مسلمات فقه الامامية, الا أن المؤسف أن بعض من الاعلام والآراء الشاذة في المذهب أخذت تصور وتثقف على أن ولاية الفقيه من النظريات الشاذة في المذهب.

 ولا نريد القول هنا بأن المسألة لم يقع الخلاف فيها, بل ما نريد قوله أن المسألة كانت من مسلمات الفقه الامامي لذا نجد أن السيد الخوئي وإن أنكر الدليل على هذه المرتبة من الولاية ومرتبة إقامة الحدود الا أنه خلص الى القول بها من باب الولاية في الأمور الحسبية, أي أنه يختلف في الدليل المؤدي الى القول بالولاية الا أنه يتفق في النتيجة التي تتحصل عن القول بالولاية, فهو يؤمن بأن الفقيه له صلاحية إقامة الحدود لكن عن طريق الولاية الحسبية لا ولاية الأمر في إقامة الحدود لذا نجده يقول: (هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها عند الشارع), لا من باب ولاية الإفتاء والقضاء وإقامة الحدود.

 ولنا أن نتساءل حينئذٍ: هل يجب على الفقيه السعي لتحصيل تلك الأمور أم لا, أي هل هي مقدمة واجب أم مقدمة وجوب؟

 لا شك ولا إشكال في كونها مقدمة واجب لا وجوب؛ فيجب السعي لتحقيقها وتحصيلها؛ وإلا للزم نقض غرض الشارع وذلك كما في إقامة الحدود حينما يصدر الحكم من القاضي بجلد المتهم مئة جلدة, الا أن الحاكم يخيره في إقامة الحد وعدمه, وهذا المعنى يشير إليه السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج المجلد الأول ص224 بقوله: (الدليل أن إقامة الحدود إنما شرعت للمصلحة العامة ودفعاً للفساد وانتشار الفجور والطغيان وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان وليس لحضور الإمام دخل في ذلك قطعاً، إذن فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقتضي بإقامتها في زمن الغيبة), فيبين رحمه الله أن إقامة الحدود غير مشروطة بحضور الامام فقط, بل هي لازمة حتى في غيبته؛ لوجود المصلحة والحكمة في نفس حكم الشارع, وعدم اختصاصها وتقييدها بزمان وجود المعصوم وحضوره.

 لذا نجد الشيخ الانصاري (ره) يقول: (ثم أن قوله عليه السلام: السلطان ولي من لا ولي له ـ لا تشمله رواية عمر بن حنظلة لعدم وجود الاطلاق فيها لبعض الموارد ـ بعد الانجبار سنداً أو مضموناً يحتاج الى أدلة عموم النيابة... ثم يقول: لكن يستفاد منه ما لم يمكن استفادته من التوقيع المذكور وهو الإذن ـ من الفقيه ـ في فعل كل مصلحة فثبت له مشروعية ما لم يثبت مشروعيته بالتوقيع المتقدم فيجوز له القيام بجميع مصالح الطوائف المذكورين الصغير، المجنون، الغائب، الممتنع، المريض، المغمى، الميت... الى أن يقول: نعم، ليس له ـ الفقيه ـ فعل شيء لا يعود فيه المصلحة...). الذي يتضح منه ضرورة المبادرة الى فعل كل ما يحقق المصلحة العامة للمجتمع ويتأتى ذلك عن طريق الفتيا والقضاء وإقامة الحدود وولاية الإذن في التصرف التي يتم بها تحقيق غرض الشارع وعدم نقضه.

 فتحصل مما تقدم أن الشيخ الأنصاري (قد) قائل بولاية الفقيه بمراتبها الأربعة: ولاية الإفتاء، ولاية القضاء، ولاية إقامة الحدود، وولاية الأذن في التصرف من الغير.

 الا أن التساؤل المطروح هو كيفية التوفيق بين إيمانه بالمراتب الأربعة المزبورة وقوله القائل وإثبات الولاية للفقيه دون إثباته خرط القتاد؟ هذا ما سنبينه في قادم الابحاث إنشاء الله.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo