< قائمة الدروس

الأستاذ السيد کمال الحيدري

بحث الفقه

32/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

ولاية الأولوية وما يلاحظ عليها ق1

 قلنا في حديث الأمس بأن الشيخ الانصاري يعتقد بأن كل ما يتوقف فيه الاذن عرفا أو شرعا أو عقلا على السلطان يتوقف فيه الإذن على ولي الأمر أو الفقيه الجامع للشرائط, ولاشك أن هذه المرتبة من أوسع مراتب الولاية الثابتة لولي الأمر وهي لا تقل أهمية عن المراتب الأخرى ولعل كلامه في باب القضاء والشهادات ص47-50 ما يدل على ذلك حيث يقول: (ثم أن ثبوت الاذن للفقهاء في القضاء مما لا شك فيه ولا يبعد وصوله إلى حد ضروري المذهب), وهذا ما لا يقبله السيد الخوئي(ره) معللا ذلك بعدم وجود الدليل عليه.

 وبعد أن ينقل الشيخ (ره) الأدلة يقول (ثم إن الظاهر من الروايات المتقدمة نفوذ حكم الفقيه), أي: ثبوت سلطة الحكم للفقيه في عصر الغيبة وذلك في:

 أولا: جميع خصوصيات الاحكام الشرعية.

 ثانيا: موضوعات الاحكام الشرعية.

  خلافا لما ذهب إليه السيد الخوئي من أن الفقيه لم يعطَ ولاية الحكم, حتى بالنسبة للحكم في الهلال.

 أما قوله (ره): (إني جعلته حاكماً لأن المتبادر عرفاً من لفظ الحاكم هو المتسلط على الإطلاق) لا في بعض الأمور دون بعض, أي أن سلطته مطلقة لا مقيدة وشأنه في ذلك شأن السلطان (فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة) وهذا مدلول عليه بقوله (ع): (جعلت فلاناً حاكماً عليكم حيث يفهم منه تسلطه على الرعية في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئياً أو كلياً), فالمراد من قوله كلياً ما يشمل الإفتاء والقضاء وغيرها, الا أن المهم وما ينبغي أن يسلط الضوء عليه هو قوله (ع) جزئياً حيث يرى رحمه الله أنه يمكن أن يستفاد من ذلك الكثير بدليل قوله (ع) (ويؤيده العدول عن لفظ الحكم إلى الحاكم مع أن الأنسب بالسياق حيث قال فارضوا به حكماً أن يقول أني قد جعلته عليكم حكماً) ثم يقول رحمه الله (وكذا المتبادر من لفظ القاضي عرفاً من يرجع إليه وينفذ حكمه وإلزامه في جميع الحوادث الشرعية كما هو معلوم من حال القضاة سيما الموجودين في أعصار الائمة من قضاة الجور), أي: يريد القول أن معرفة مقدار نفوذ القضاء لا يمكن معرفته عن طريق البحث الفقهي بل أن معرفة ذلك تتوقف على الرجوع الى زمن صدور الروايات لمعرفة السلطات التي أعطيت للقضاة آنذاك هل هي بيان القضاء فقط أم ما كان أوسع من ذلك, علما أن الروايات الواردة في ذلك محمولة على ما هو الأوسع من القضاء.

 لهذا نجد أن السيد الخوئي في مستند العروة الوثقى المجلد الثاني ص87 حاول جاهدا أن يرد هذه الدعوى, فبدأ بمناقشة الشيخ الانصاري مفيدا: أن صلاحيات القضاء في ذلك الزمان أوسع بكثير مما هو عليه الآن؛ للفصل الحاصل في السلطات في الزمان الحاضر؛ فلا يثبت للقاضي في هذا الزمان الا بعض الصلاحيات, بخلاف ذلك الزمان حيث أن الثابت له منها الكثير.

 ثم يقول الشيخ (ره) أن معرفة صلاحية الفقيه لا تتم الا من خلال الرجوع الى قضاة الجور في عصر الائمة (ع) فيفيد في ذلك: (ومنه يظهر كون الفقيه مرجعاًَ في الأمور العامة مثل الموقوفات وأموال اليتامى والمجانين والغيب لأن هذا كله من وظيفة القاضي عرفاً في ذلك الزمان ويحكمون ـ الفقيه الجامع للشرائط ـ إلا أن قوله في التعليل أنهم حجتي عليكم يدل على وجوب العمل بجميع ما يلزمون به ويحكمون حتى إذا حكم بأن اليوم عيد أو أول الشهر ـ المتعلق بالموضوعات لا الاحكام ـ أو قال أن الشخص الفلاني حكمت بفسقه أو بعدالته فأنه يلزم الجميع ذلك، وإن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجه أوضح فنقول إذا كانت محلاً للتخاصم فحينئذٍ نقول أن تعليل الإمام وجوب الرضا بحكومته في الخصومات بجعله حاكماً على الإطلاق وحجة كذلك يدل على أن حكمه يدل على أن حكم الفقيه في الخصومات والوقائع من فروع حكومته المطلقة وحجيته العامة فلا يختص بصورة التخاصم وكذا الكلام في المشهورة...).

 وبذلك يظهر أن المراتب الأربع ـ الإفتاء والقضاء وإقامة الحدود وما ثبت للسلطان من ولايةـ من الولاية لا إشكال وشبهة في ثبوتها للفقيه, وأنها منصوبة من الامام (ع), لا أنها أمور حسبية.

 المرتبة الخامسة: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}, وهذه المرتبة من المراتب المهمة, ولعل البحث الأهم الذي وقع بين الفقهاء هو في هذه المرتبة لأن المراتب الأربع التي تحدثتا عنها كانت من مسلمات فقه الامامية, الا ان بُعد فقهائنا عن الحكم والسلطة والدولة أدى الى شيوع التصور القائل أن هذه المراتب ليست من صلاحيات الامام (ع) وهذا ما يشير إليه صاحب الجواهر في المجلد الحادي والعشرين ص396-397 بقوله: ( قال الكركي في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامح لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل بل القطع بأولوية الفقيه في ذلك بعد أن جعله الإمام عليه السلام حاكماً وخليفة وبأن الضرورة قاضية بذلك في قبض الحقوق العامة والولايات ونحوها بعد تشديدهم في النهي عن الرجوع إلى قضاة الجور وعلمائهم وحكامهم بعد علمهم بكثرة شيعتهم في جميع الأطراف طول الزمان وبغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص وملاحظتهم حال الشيعة وخصوصاً علمائهم في زمن الغيبة وكفى بالتوقيع الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة وما اشتمل عليه من التبجيل والتعظيم، بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً ولا تأمل المراد من قولهم أني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك...), أي: أن كل العناوين التي اتصف بها المعصوم بعنوانه ولي للأمر قد أعطيت لفقهاء عصر الغيبة, الا أن الكلام في الفقيه الذي تنطبق عليه تلك العناوين مَن يكون؟ هل كل فقيه ينطبق عليه ذلك أم الفقيه الذي يشترط فيه تحقق بعض الشرائط والمواصفات؟ هذا ما نتكلم عنه مفصلا في قادم الابحاث, الا أن القدر المتيقن أن قوله (ع): (جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم) ينطبق على الشيخ المفيد (ره) أو من كان بمثابته, فهو القدوة والأسوة للفقهاء في عصر الغيبة.

 وبالعودة الى أصل البحث نقول أن الآية الكريمة {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فيها كثير من الابحاث وفقا للمباني التي عليها مدرسة أهل البيت(ع) أما مفسري ومتكلمي المدرسة الأخرى فلم يعتنوا بهذه الآية كثيراً.

 والمباحث المتعلقة بهذه الآية هي:

 الاول: اتفقت كلمة العلماء والمفسرين من أغلب المذاهب الاسلامية على أن الولاية في الآية الكريمة مطلقة لا مقيدة, علما أن الاطلاق المراد في الآية ما كان متعلق بأمور الدنيا وشؤونها فضلاً عن أمور الدين وشؤونه وممن ذكر ذلك:

 أولا: ما أفاده الطبري في ذيل الآية المزبورة بقوله: (يقول أحق بالمؤمنين به من أنفسهم أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم فيجوز ـ الجواز هنا بمعنى الإباحة الخاصة لا الجواز المقابل لعدم الجواز ـ ذلك عليهم)

 ثانياً: ما أفاده العلامة الطباطبائي في الميزان بقوله: (ومعنى الأولوية رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه وبين ما هو أولى منه فالمحصل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة وإنفاذ الإرادة في كل ما يرتبط به ديناً ودنياً شخصياً وبنحو عام فالنبي أولى بذلك من نفسه وكذا النبي أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله النبي أولى من المؤمنين من أنفسهم) وحذف متعلق الأولوية دال على ثبوتها دون قيد أو شرط.

 البحث الثاني: أن الأولوية المعطاة للنبي (ص) (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) هل هي في الأبعاد المرتبطة بالحياة الاجتماعية، أم شاملة للأبعاد الشخصية والفردية أيضا؟

 الشيخ الانصاري (ره) في الجزء الثالث من المكاسب ص546 يذهب الى أن الأولوية مطلقة فنراه يقول: (إذا عرفت هذا فنقول مقتضى الأصل عدم ثبوت الولاية لأحد بشيء من الوجوه المذكورة خرجنا عن هذا الأصل في خصوص النبي والائمة صلوات الله عليهم أجمعين بالأدلة الأربعة لقوله الله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}... ثم يبدأ بذكر الروايات الدالة على هذه المعنى الى أن يقول: واما الإجماع فغير خفي وأما العقل القطعي ، فالمستقل منه حكمه بوجوب شكر المنعم بعد معرفة أنهم أولياء النعم ، والغير المستقل حكمه بأن الأبوة إذا اقتضت وجوب طاعة الأب على الابن في الجملة ، كانت الإمامة مقتضية لوجوب طاعة الإمام على الرعية بطريق أولى ، لأن الحق هنا أعظم بمراتب ، فتأمل والمقصود من جميع ذلك دفع ما يتوهم من أن وجوب طاعة الإمام ـ بعنوانه الشامل للنبي ـ مختص بالأوامر الشرعية وأنه لا دليل على وجوب إطاعته في أوامره العرفية أو سلطنته على الأموال والأنفس).

 أما السيد الخوئي فنجده في مصباح الفقاهة المجلد الثالث ص283 يقول: (في ولايتهم التشريعية, بمعنى كونهم ولياً في التصرف على أموال الناس وأنفسهم مستقلاً فالظاهر أيضاً لا خلاف في ولايتهم على هذا النحو، وكونهم أولى بالتصرف في أموال الناس ورقابهم بتطليق زوجاتهم وبيع أموالهم وغير ذلك من التصرفات... الى أن يبدأ بذكر لطيفة من اللطائف التي حصلت مع صاحب الجواهر فيقول فيها: نعم نسب إلى بعض معاصري صاحب الجواهر أنه كان يقول بالولاية العامة للفقيه ، وكونه مستقلا في التصرف في أموال الناس وأنفسهم ، واجتمع معه في مجلس وقال صاحب الجواهر: زوجتك طالق ، فقال المعاصر: إن كنت متيقنا باجتهادك لاجتنبت من زوجتي).

 ويظهر من خلال ما بينا من القولين ثبوت الولاية في الأمور الاجتماعية والشخصية للنبي (ص) والإمام (ع). والروايات على هذا المعنى كثيرة, كالدال منها على أن العالم ملك لهم(ع) بالملكية التكوينية؛ لكونهم أولياء النعم في هذه الدنيا, لذلك نرى الامام أمير المؤمنين (ع) يقول: (لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً).

  ولنا أن نتساءل هنا: هل أن الولاية الثابتة في الأمور الاجتماعية والفردية هل هي مقيدة بوجود المصلحة أم الأعم من ذلك؟

 الشيخ الانصاري رحمه الله يعتقد بثبوت الولاية لهم سواء كانت واجدة للمصلحة أم لا, ففي المكاسب المجلد الثالث ص548 يقول: (وبالجملة فالمستفاد من الأدلة الأربعة بعد التتبع والتأمل أن للإمام ـ الشامل للنبي والإمام ـ سلطنة مطلقة على الرعية من قبل الله تعالى وأن تصرفهم نافذ على الرعية ماضٍ مطلقاً) الا أن المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب يذهب الى أن السلطنة إنما تتحقق في الولاية الواجدة للمصلحة فقط لا غير لذا يقول: (فليس للنبي أخذ زوجة المؤمنين والتصرف في أموالهم إلا إذا رأى مصلحة في ذلك فيطلق حينئذٍ زوجة من رأى مصلحته في الطلاق، ثم إذا رأى مصلحة المطلقة في أن ينكحها أيضاً أنكحها للغير...).

 تتمة الكلام في البحث القادم.

 والحمد لله رب العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo