< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

45/08/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الفصل الأول؛ الدلیل الرابع؛ القسم الأول من الروایات؛ الروایة السابعة

 

الرواية السابعة: صحیحة عبد الله بن سنان

محمّد بن الحسن بإسناده عن سعد [بن عبد الله الأشعري] عن أحمد بن محمّد [بن عیسی] عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال: «سَأَلَ أَبِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَ أَنَا حَاضِرٌ: أَنِّي أُعِيرُ الذِّمِّيَ‌ ثَوْبِي‌ وَ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ فَأَغْسِلُهُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: صَلِّ فِيهِ وَ لَا‌تَغْسِلْهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ أَعَرْتَهُ إِيَّاهُ وَ هُوَ طَاهِرٌ وَ لَمْ تَسْتَيْقِنْ أَنَّهُ نَجَّسَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ نَجَّسَهُ».([1] )

و هذه الروایة صحیحة سنداً و دلالتها على حجّیة الاستصحاب تامّة، حیث قال الإمام: «فَإِنَّكَ أَعَرْتَهُ إِيَّاهُ وَ هُوَ طَاهِرٌ وَ لَمْ تَسْتَيْقِنْ أَنَّهُ نَجَّسَهُ»، فإنّ الإمام علّل طهارة الثوب بعد ردّه علیه بطهارته قبل إعارته إیاه و أشار إلى بقاء الحكم السابق إلى الیقین بالنجاسة، و دلالته على الاستصحاب تتوقّف على إلغاء خصوصیتین: الأولى: خصوصیة المقام من كون مورد السؤال هو خصوص الثوب المعار. و الثانیة: خصوصیة الطهارة التي تعلّق بها الیقین و الشك. و المحقّق النائیني التزم بإلغاء الخصوصیتین و لكن المحقّق الخوئي قال باختصاص حجّیة الاستصحاب في هذه الروایة بباب الطهارة، و هذا واضح الدفع و لا أقل من إلغاء الخصوصیة بقرینة سائر الروایات الدالّة على الاستصحاب فهذه الصحیحة أیضاً تدلّ على حجّيته.

القسم الثاني: روايات أصالتي الحلّ و الطهارة التي استفيد منها الاستصحاب

و هي طوائف ثلاث من الروایات:

الطائفة الأولی: روایات الحلّ ([2] )

منها صحیحة عبد الله بن سنان:

محمّد بن علي بن الحسین بإسناده([3] ) عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال: «كُلُّ شَيْ‌ءٍ يَكُونُ فِيهِ حَلَالٌ وَ حَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ أَبَداً حَتَّى تَعْرِفَ‌ الْحَرَامَ‌ مِنْهُ‌ بِعَيْنِهِ‌ فَتَدَعَهُ».([4] )

و منها موثقة مسعدة بن صدقة:

[محمّد بن یعقوب] عن عليّ بن إبراهیم عن هارون بن مسلم [إمامي جلیل] عن مسعدة بن صدقة([5] ) عن أبي عبد الله قال: سمعته یقول: «كُلُّ شَيْ‌ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ‌ بِعَيْنِهِ‌ فَتَدَعَهُ‌ مِنْ‌ قِبَلِ‌ نَفْسِك ‌...».([6] )

الطائفة الثانیة: ما دلّ على قاعدة الطهارة

و هي موثقة عمّار:

[محمّد بن الحسن] بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی [الأشعري ] عن أحمد بن الحسن [بن علي بن فضال] عن عمرو بن سعید [المدائني] عن مصدق بن صدقة عن عمّار بن موسی [الساباطي] عن أبي عبد الله في حدیث قال: «كُلُّ‌ شَيْ‌ءٍ نَظِيفٌ‌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ، فَإِذَا عَلِمْتَ فَقَدْ قَذِرَ، وَ مَا لَمْ تَعْلَمْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ‌».([7] )

و أحمد بن الحسن بن علي بن فضال فطحي ثقة و كذا عمرو بن سعید المدائني و مصدق بن صدقة و عمّار بن موسی الساباطي إلّا أنّ الأخير منهم لانأخذ بما تفرّد به خصوصاً إذا تعارض مع روایة أخری، و روایاته قد تكون مضطربة.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على طهارة الماء

«[محمّد بن الحسن] بإسناده عن سعد بن عبد ‌الله [الأشعري القمي] عن محمّد بن الحسین بن أبي الخطّاب [ثقة جلیل القدر إمامي] عن أبي داود المُنْشِد [و هو سفیان بن سلیمان أبو داود المُنْشِد المُسْتَرِق من ثقات الإمامیة] عن جعفر بن محمّد [بن یونس الأحول من ثقات الإمامیة] عن یونس [و الظاهر أنّه یونس بن عبد الرحمن بقرینة روایته عن حماد بن عثمان و یونس بن عبدالرحمن] عن حماد بن عثمان عن أبي عبد ‌الله قال: الْمَاءُ كُلُّهُ‌ طَاهِرٌ حَتَّى‌ يُعْلَمَ‌ أَنَّهُ‌ قَذِرٌ».([8] )

بیان احتمالات سبعة في هذه الروایات

قبل الورود في البحث لابدّ من الكلام حول محتملات هذه الروایات، فإنّ المحقّق النائیني و المحقّق الخوئي قالا: إنّ الاحتمالات المتصوّرة في كلّ واحدة من هذه الروایات سبعة:

الاحتمال الأوّل: اختصاصها بالحكم الواقعي.

الاحتمال الثاني: اختصاصها بالحكم الظاهري و هو مختار المحقّق النائیني و المحقّق الخوئي، و المشهور على ما نقله المحقّق النائیني.([9] )

الاحتمال الثالث: اختصاصها بالاستصحاب.

الاحتمال الرابع: شمولها للطهارة الواقعیة و الظاهریة.

الاحتمال الخامس: شمولها للطهارة الواقعیة و الاستصحاب، و هذا مختار صاحب الكفایة في كفایة الأصول.

الاحتمال السادس: شمولها للطهارة الظاهریة و الاستصحاب، و هذا مختار صاحب الفصول.

الاحتمال السابع: شمولها للطهارة الواقعیة و الظاهریة و الاستصحاب (و هذا مختار صاحب الكفایة في تعليقته على الرسائل.([10] )

التحقیق في هذه الاحتمالات

أمّا الاحتمالات الأوّل و الثالث([11] ) و الرابع فلم‌نجد لها قائلاً كما صرّح بذلك المحقّق النائیني.


الاحتمالان الرابع و السابع ([12] )

إشكالات ثلاثة في شمول الروایات للطهارة الواقعیة و الظاهریة

أمّا الجمع بین الطهارة الواقعیة و الظاهریة (كما هو صریح الاحتمال الرابع و السابع) فقد أشكل عليه المحقّق النائیني بإشكالات ثلاثة:

الإشكال الأوّل

إنّ الشيء الذي حكم علیه بالحلّیة (و الطهارة) - سواء أرید منه الموضوعات الخارجیة كما في قوله:«كُلُّ شَيءٍ طَاهِر» أو الأفعال الخارجیة حتّی لایكون الحكم مختصّاً بالأفعال التي لها تعلّق بالموضوعات الخارجیة بل یكون ثابتاً لها و لغیرها- إمّا یراد منه الشيء بما هو أي بعنوانه الأولي الذاتي أو بعنوانه الثانوي الطارئ علیه من كونه مشكوك الحكم.

و على الأوّل فلا ریب في أنّ الحكم الثابت له یكون حكماً واقعیاً یشترك فیه الجاهل و العالم و یكون حینئذٍ من العمومات المخصّصة بما ثبت فیه الحرمة أو النجاسة.

و على الثاني یكون الحكم الثابت له حكماً ظاهریاً لوحظ موضوعه مشكوك الحكم بما هو كذلك.

و بالجملة الشيء بما هو من دون لحاظ كونه مشكوك الحكم لایمكن فیه إلا الحكم بطهارته أو حلّیته الواقعیتین، كما أنّه بما هو مشكوك الحكم -الذي هو فرع ثبوت حكم یشك فیه- لایمكن فیه إلا الحكم بالطهارة الظاهریة أو الحلّیة كذلك، فموضوع الحكم الواقعي و نفسه متقدّم رتبة على كلّ من موضوع الحكم الظاهري و نفسه [أي نفس الحكم الواقعي أیضاً متقدّم رتبة على نفس الحكم الظاهري بمرتبتین، المرتبة الأولى هي مرتبة الحكم الواقعي و المرتبة الثانیة مرتبة الشك في الحكم الواقعي و المرتبة الثالثة مرتبة الحكم الظاهري، فالحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتین، و هكذا موضوع الحكم الظاهري أیضاً متأخر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتین إذ المرتبة الأولى مرتبة موضوع الحكم الواقعي و المرتبة الثانیة مرتبة نفس الحكم الواقعي و المرتبة الثالثة مرتبة الشك في الحكم الواقعي الذي هو موضوع الحكم الظاهري].

و مع ذلك كیف یمكن أن یكون المراد من "الشَيء" هو الشيء بعنوانه الأولي و بعنوانه الثانوي معاً و [كیف یمكن أن یكون المراد] من الحكم الثابت له هو الحكم الواقعي و الظاهري كذلك؟ ...

ثم إنّه ... كیف یمكن أن یكون قوله "طَاهِر" أو "حَلال" متكفّلاً للحكم الظاهري و الواقعي معاً؟ فإنّ الحكم الواقعي لتأخّر الحكم الظاهري عنه بمرتبتین لابدّ و أن یكون مفروض الوجود في ظرف ثبوت الحكم الظاهري، فكیف یمكن إنشاؤهما معاً في زمان واحد؟([13] )

جواب المحقّق الخوئي عن هذا الإشكال

هذا الإشكال لا دافع له على مسلك صاحب الكفایة و المحقّق النائیني و من وافقهما في أنّ الإنشاء إیجاد المعنی باللفظ، فإنّه لایمكن إیجاد شيئین یكون أحدهما في طول الآخر بجعل واحد و إنشاء فارد.

و أمّا على ما سلكناه من أنّ الإنشاء لیس بمعنی إیجاد المعنی باللفظ، إذ لیس اللفظ، إلا وجوداً لنفسه، و المعنی اعتبار نفساني، لایكون اللفظ موجداً له بل هو مبرز له، و لا فرق بین الخبر و الإنشاء من هذه الجهة، فكما أنّ الخبر مبرز لأمر نفساني، فكذا الإنشاء، إنّما الفرق بینهما في المبرَز (بالفتح) فإنّ المبرَز في الإنشاء مجرّد اعتبار نفساني و لیس وراءه شيء لیتّصف بالصدق و الكذب و هذا بخلاف الجملة الخبریة، فإنّ المبرَز بها هو قصد الحكایة عن شيء في الخارج فهنا شيء وراء القصد و هو المحكي عنه و باعتباره یكون الخبر محتملاً للصدق و الكذب ... فلا مانع من أن یبرز حكمین [في الجملة الإنشائیة] یكون أحدهما في طول الآخر بلفظ واحد بأن یعتبر أوّلاً الحكم الواقعي لموضوعه ثم یفرض الشك فیه فیعتبر الحكم الظاهري و بعد هذین الاعتبارین یبرز كلیهما بلفظ واحد و لایلزم منه محذور. ([14] )

جواب آخر عن هذا الإشكال

إنّ الروایات المذكورة هنا في مقام الإخبار عن الأحكام الشرعیة، لا إنشائها و لا محذور في الإخبار عن الحكم الواقعي و الحكم الظاهري بجملة واحدة، خصوصاً مع ما تقدّم في مبادي علم الأصول من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی واحد.


[1] . تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج2، ص361.، کتاب الصلاة، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس و المكان و ما لا يجوز(17)، ح27؛ الإستبصار، الشيخ الطوسي، ج1، ص393.، کتاب الصلاة، أبواب ما يجوز الصلاة فيه و ما لا يجوز من اللباس و المكان‌، الباب231، ح1؛ وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج3، ص521، أبواب النجاسات و الأواني و الجلود، باب74، ح1، ط آل البيت.
[2] قد مضى في المجلّد الثامن ص135، نقلها و المناقشة فيها لإثبات أصل البراءة.
[3] في من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص453..: «و ما كان فيه عن الحسن بن محبوب فقد رويته عن محمّد بن موسى بن المتوكّل- رضي الله عنه- عن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ؛ و سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد ابن عيسى، عن الحسن بن محبوب»‌
[4] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص313.؛ كتاب المعیشة، باب النوادر، ح39:(رواه الكلیني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد و أحمد بن محمد عن ابن محبوب‌، باختلاف في الألفاظ)؛ من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص341.، باب الصید و الذباحة، ح4208: (بزيادة «يكون» بعد «كل شيء»)؛ تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج7، ص226.، كتاب التجارات، الباب21، ح8: (رواه الشیخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب مثله‌)؛ و تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج9، ص79.، كتاب الصید و الذباحة، الباب2، ح72: (و رواه بإسناده عن الحسن بن محبوب‌ مثله)؛ مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلي، ج1، ص594.: (رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب باختلاف في الألفاظ) وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص87، أبواب ما یکتسب به، باب4، ح1، ط آل البيت.، وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج24، ص236، أبواب الأطعمة المحرمة، باب64، ح2، ط آل البيت.
[5] مسعدة بن صدقة ثقة. و قيل: إنّه إمامي، و قد مضى منّا توثيقه في المجلد السادس، ص419.
[8] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج3، ص1.، کتاب الطهارة، باب طهور الماء، ح2 (رواه عن محمد بن يحيى و غيره عن محمد بن أحمد عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي بإسناد له قال: قال أبو عبد الله‌) و ح3: (رواه عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين مثله‌)؛ تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج1، ص215.، کتاب الطهارة، باب المیاه (10) ح2 و ح3 : (رواه بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي عن أبي داود المنشد عن جعفر بن محمد عن يونس عن حماد بن عيسى مثله‌)؛ وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص134، أبواب الماء المطلق، باب1، ح5، ط آل البيت.
[9] . نذكر القائلین بهذا الاحتمال في آخر البحث فراجع.و هنا احتمال آخر ذكره السید المحقق السیستاني. قریب من الاحتمال الثاني:فقال في الاستصحاب، ص154: «المقام الثاني و هو البحث عن مفاد صدر الروایات و فیه احتمالات ... أما الاحتمال الأول و هو الطهارة التنزیلیة فهذا ما ذهب إلیه صاحب الكفایة في مبحث الإجزاء، و بیانه إجمالاً أن مثل كلّ شیء نظیف إلى آخره لسانه التنزیل، و التنزیل عبارة عن بیان ثبوت الحكم الثابت لماهیة لماهیة أخری باعتبار حدّ هذه الماهیة لتلك الماهیة». و في ص165: «المستفاد من هذه الروایات صدراً و ذیلاً هو شيء واحد و هو الحكم بالنظافة التنزیلیة في حدود یكون خاضعاً للتنزیل لا مطلقاً، ولایستفاد منها القاعدة أي الحكم الظاهری إذ لابدّ و أن یؤخذ في موضوعه الشك و هنا لم‌یؤخذ ... كما لایستفاد منها الحكم الواقعي إذ الحكم الواقعي لایمكن أن یكون مغیّی بالعلم ... و لایستفاد من الذیل الاستصحاب»
[10] نهاية الافكار، العراقي، آقا ضياء الدين، ج3، ص73..: «و أما على تقدير سوقها في مقام الإخبار عن ثبوت الحلية و الطهارة لها و لو بإنشاءات متعددة كما لعلّه هو الظاهر من رواية الحلية بقرينية الأمثلة المذكورة في ذيلها، فلا بأس باستفادة القواعد الثلاثة منها»
[11] في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص113.: «و أما الاحتمال الخامس و هو تكفّل الرواية لخصوص الاستصحاب- كما استظهره الشيخ الأعظم من خصوص رواية حماد (الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنه قذر) فجميع الإشكالات اللازمة من انضمام الحكم الواقعي و مفاد القاعدة إلى الاستصحاب مندفعةٌ عنه.إلّا أنه يرد عليه أن الاستصحاب، إما هو إبقاء الشارع و جعل الطهارة مستمرة لثبوتها سابقاً، أو إبقاء المكلف و أمر الشارع بإبقائها و استمرارها عملاً فإن أُريد الأول فقوله: (طاهر إلى أن تعلم) و إن كان إبقاء من الشارع، و هو قد جعل الطهارة مستمرة، إلّا أنه ليس كلّ إبقاء الحكم في ثاني الحال استصحاباً، بل الإبقاء في الزمان الثاني استناداً إلى ثبوته في الزمان الأول، كما بيناه في أوائل مبحث الاستصحاب، و ليس في قوله: (طاهر حتى تعلم) ما يفيد أن استمرار الحكم بالطهارة منه لثبوته سابقاً، و إن أُريد الثاني فمن البيّن أنّ قوله.: (طاهر) إما جعل طهارة مستمرة، و إما حكاية عن استمرار الطهارة، و ليس فيه دلالة بوجه على الأمر بإبقاء الطهارة عملًا ليكون دليلًا على الاستصحاب».ثم ذكر احتمال كون روایة حمّاد دالة على الاستصحاب دون موثقة عمار فقال:«و يمكن أن يقال في الفرق بين موثقة عمار (كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنه قذر) و رواية حماد (الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنه قذر): إن الماء مخلوق على الطهارة، فالنجاسة فيه عرضية و ليس كلّ شي‌ء كذلك فالطهارة المستمرة المترتبة على كلّ شي‌ء طهارة مستمرة من حين التعبد بها إلى أن يزول الموضوع بتبدّل الشك بالعلم، و الطهارة المستمرة المترتبة على الماء بعد فرض طهارته في نفسه طهارة مستمرّة من حين ثبوتها الواقعي عنواناً.و حينئذٍ نقول: حيث أن الماء طاهر بالأصل، فإذا جعل الشارع طهارته الواقعية مستمرة عنواناً تعبّداً، فالاستمرار متعلق بالطهارة الواقعية عنواناً، فهو إبقاء من الشارع للطهارة الواقعية، و هو عين الاستصحاب بخلاف الطهارة في قاعدة الطهارة، فإن الاستمرار المتعلق بها استمرار متعلق بالطهارة الظاهرية، دون الواقعية و لو عنواناً، فأعمية القاعدة من حيث شمولها مورداً- لما إذا كان مسبوقاً بالطهارة- لا‌تجدي هنا، لأن حيثية استمرار الطهارة متعلقة بالطهارة الواقعية- التي هي للماء- غاية الأمر عنواناً لا حقيقة، فلا‌يمكن حملها مع هذا الفرض على قاعدة الطهارة بدعوى أعميتها من حيث المورد ...»و لكنّه ردّ هذا الاحتمال بقوله: «و التحقيق أن مجرد الفراغ عن طهارة الماء- لكونه مخلوقاً على الطهارة- لا‌توجب كون التعبد بالطهارة و إبقائها بعين هذا التعبد تعبداً استصحابياً بل التعبد الاستصحابي هو الإبقاء استناداً إلى ثبوته سابقاً، لا الإبقاء في مورد الثبوت سابقاً، فالرواية من حيث غايتها، و إن كانت تفارق قيام البينة، من حيث أنّ مفادها الإبقاء إلى حصول الغاية، إلّا أنه ليس كلّ إبقاء استصحاباً، فتدبّره فإنّه حقيق به»
[12] إنّ الاحتمال السابع هنا هو الاحتمال الثالث الذي ذكره المحقق الإصفهاني قال في نهاية الدراية في شرح الکفاية - ط قديم، الغروي الإصفهاني، الشيخ محمد حسين، ج3، ص108.في تقریب هذا الاحتمال:«و أما الاحتمال الثالث و هو الجمع بين الطهارة الواقعية، و الطهارة الاستصحابية، و الطهارة بالقاعدة، فقد شيّد بنيانه و مهّد أركانه شيخنا الأستاذ، العلامة رفع اللّه مقامه في تعليقته المباركة على الرسائل، ‌ و محصّله: أن الرواية بعمومها الأفرادي تدلّ على طهارة كل شي‌ء واقعاً، لأن الموضوع هو الشي‌ء الّذي يكنّى به عن الأعيان الخارجية من دون تقيّده بشي‌ء في ظاهر الكلام، فهو على حدّ سائر الأحكام المرتبة على الموضوعات الواقعية، فيكون حجة على طهارة كل شي‌ء بنحو ضرب القاعدة، و إعطاء الحجة، حتى يكون مرجعاً بعد تخصيصه بالنجاسات الذاتيّة و العرضية و بإطلاقها الأحوالي- الشامل لحالة كون الشي‌ء مشكوك الطهارة و النجاسة- تدلّ على طهارة المشتبه ظاهراً، و هو مفاد قاعدة الطهارة، فموضوعها يتمّ بالإطلاق، لا من ناحية الغاية، ليلزم بعض المحاذير المتقدمة و بغايتها- الدالة على الاستمرار من حيث ذاتها، و على كونه ظاهراً، من حيث كونها علماً بالنقيض- تدلّ على الحكم باستمرار الطهارة الواقعية الثابتة في المغيّا تعبداً و هو عين الاستصحاب.فالمغيّا بعمومه متكفل للطهارة الواقعية، و بإطلاقه متكفّل للطهارة الظاهرية، و الغاية بنفسها متكفلة لاستمرار الطهارة الواقعية، فلا‌يلزم استعمال قوله (طاهر) في إثبات الحكم و في استمراره كما أن الاختلاف بالواقعية و الظاهرية في الحكم، من ناحية كون الموضوع هو الشي‌ء بنفسه- عموماً- و هو بما هو مشكوك- إطلاقاً- و هو لا‌يوجب استعمال قوله (طاهر) في معنيين متباينين.»ثم ذكر تقریباً آخر لصاحب الكفایة فقال:«و له تقريب آخر في شمول الرواية للمشتبه و هو الشمول بنفس العموم الأفرادي، نظراً إلى أن بعض الأفراد ربما يكون بنفسه- لا من حيث طروّ حالة- مشكوك الحال، كماء الكبريت مثلًا، فحيث أن هذا المشتبه- بالشبهة اللازمة لذاته- من أفراد العام، فهو طاهر بالعموم، بضميمة عدم الفصل- بين هذا المشتبه و سائر المشتبهات- يدلّ العام على طهارة كلّ مشتبه، لأن الدليل على الملزوم دليل على لازمه فالعام بعمومه يتكفّل طهارة كلّ شي‌ء بما هو و بما هو مشكوك».أما استفادة قاعدة الطهارة من إطلاق الروایة الأحوالي فناقش فیها بقوله: «أقول: أما الدلالة على مفاد قاعدة الطهارة، بالإطلاق، فمخدوشة بأن الإطلاق إن كان جمعاً بين القيود، بحيث كان مفاد الرواية إثبات الطهارة للشي‌ء بما هو، و الشي‌ء بما هو مشكوك، فالأمر كما أفيد من الدلالة على الحكم الواقعي، و على الحكم الظاهري و إن كان الإطلاق لتسرية الحكم إلى أفراد ذات الموضوع، من دون دخل لحالة من الحالات وجوداً، فلا‌يفيد إلّا الحكم الواقعي لذات الموضوع، و إن كان مشكوكاً، و الحكم الظاهري هو الحكم المرتب على الشي‌ء- بما هو مشكوك- لا على الشي‌ء، و إن كان مشكوكاً. و بعبارة أُخرى: موضوع الحكم الواقعي- بناء على الإطلاق- هي الماهية لا بشرط القسمي، دون المقسمي، و موضوع الحكم الظاهري هي الماهية بشرط شي‌ء و هما تعينان متقابلان...».و لكن أجاب عن مناقشتین أخریین فیها فقال: «و أما ما عن بعض أجلة العصر من أن الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي في المرتبة، فكيف يعقل جعلهما في إنشاء واحد، مع أن موضوع الحكم الواقعي في طول موضوع الظاهري فمندفع بما مرّ منّا مراراً: أن تقدم الموضوع على حكمه طبعي لا زماني، و المتقدم و المتأخر بالطبع ربما يكون لهما المعية في الوجود، و لذا يعقل جعل الحكم الظاهري قبل جعل الحكم الواقعي فإن ما هو موضوع للحكم الظاهري هو الشك في الحكم بوجود العنواني لا بوجوده الخارجي و إن كان فعلية الحكم الظاهري بفعلية موضوعه ... .كما أن الإيراد عليه بأن مقتضى إطلاقه الأحوالي لغوية ضرب القاعدة في الشبهة الحكمية، إذ نفس الإطلاق رافع للشبهة فلا مجال للحكم بطهارته الظاهرية إنّما يرد إذا قلنا بالإطلاق من جميع الجهات، و أما إذا قلنا بالإطلاق من حيث الشك فقط، لا من سائر الجهات، فلا‌يلغو ضرب القاعدة في الشبهة الحكمية.»و أما دلالة الغاية على الاستصحاب فناقش فیها بعد بیان الدلالة و قال:«مختصر الكلام فيها أن كلمتي «إلى» و «حتى» للغاية، لا للاستمرار، و حيث أن الغاية و النهاية لا‌تكونان إلّا في ما له امتداد و استمرار، فتدلّان بالملازمة على أنّ المغيّا أمر ممتدّ مستمرّ فإن كان الغرض إنشاء الحكم بالاستمرار بنفس الغاية فمقام الإثبات قاصر عن ذلك، إذ ليس هناك ما يدلّ على استمرار حتى ينشأ به الحكم بالاستمرار، مع أن الغاية من توابع المغيّا، و ملحوظة بلحاظه بنحو المعنى الحرفي، فلا‌يعقل استقلالها بالإنشاء، في قبال إنشاء المغيّا، و عليه فلا‌يساعد مقام الثبوت و مقام الإثبات على جعل الحكم بالاستمرار بنفس الغاية، و إن أُريد- كما هو بعيد- استفادة إنشاء الحكم سابقاً من الغاية، فلا شي‌ء يقبل جعل الحكم بالاستمرار به إلّا قوله.: (طاهر)، فيرد عليه جميع ما أوردناه في طي الاحتمال الثاني.و ممّا ذكرنا- في كيفية تبعيّة الغاية- تعرف أنّ المغيا إن كان جعل الطهارة الواقعية- حقيقة- فلا‌محالة هي الملحوظة بنحو الامتداد و الاستمرار بطور المعنى الحرفي مع أنّ مثل هذه الغاية غير قابلة لأن تكون حداً للطهارة الواقعية، فيعلم منها عدم كون المغيا طهارة واقعية. و أما الاستصحاب فهو و إن كان إبقاء الطهارة الواقعية، لكنّه عنواناً لا حقيقة، و المفروض جعل الطهارة في المغيّا، حقيقةً لا عنواناً، فما هو قابل للامتداد إلى هذه الغاية غير مقصود من المغيا، و ما هو مقصود من المغيا غير قابل لمثل هذه الغاية».و أما الدلالة على الحكم الواقعي و الظاهري بالتقريب الأخير فمخذوشةٌ عنده «بأن المشتبه- بالشبهة اللازمة لذات الموضوع- لم‌يرتب عليه حكم- بما هو مشتبه- و إن كان مشتبهاً، بل رتّب عليه الحكم بما هو ماء الكبريت مثلًا، فعدم الفصل بين أفراد المشتبه بما هو مشتبه إنما يجدي لو ثبت الحكم للمشتبه بما هو مشتبه، لا بذاته فتدبّر جيداً»

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo