< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث العرفان

39/12/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: العرفان العملي

 

الدرس الخامس العرفان العملي السير والسلوك

بعد أن انتهينا من الدرس الرابع حول العرفان النظري نشرع اليوم إن شاء الله في الدرس الخامس المخصص ببحث العرفان العملي أي السير والسلوك ولكن قبل الولوج في صميم بحث العرفان العملي نوضح المراد بالعوالم الخمسة ونوضح ونفصل بعض المصطلحات التي وردت فيها كمصطلح الأعيان الثابتة فقد ذكر الكتاب صفحة 57 أن الحضرات والعوالم خمسة ولبيان ذلك نقول المعروف عند الفلاسفة وجود عوالم ثلاثة عالم المادة وعالم العقل وعالم المثال ويطلق الفلاسفة والعرفاء على عالم المادة وعالم الأجسام عالم الناسوت أو حضرة الناسوت كما يطلق الفلاسفة والعرفاء على عالم العقل وعالم الأرواح وعالم النفوس عالم الجبروت وهناك عالم هو عبارة عن برزخ بينهما لا يبغيان فلا هو بمادي ولا هو بعقلي أو روحاني ألا وهو عالم المثال فعالم المثال هو عبارة عن حلقة الوسط والعالم المتخلل والمتوسط بين المادة والعقل ويطلق الفلاسفة والعرفاء على عالم المثال عالم الملكوت،

العوالم الثلاثة

إذاً بحسب الترتيب تكون العوالم ثلاثة:

الأول عالم المادة وهو عالم الناسوت.

الثاني عالم المثال وهو عالم الملكوت.

الثالث عالم العقل وهو عالم الجبروت.

فهذه عوالم ثلاثة وهذه حضرات ثلاثة حضرة الناسوت وتشير إلى عالم المادة، حضرة الملكوت وتشير إلى عالم الناسوت وحضرة الجبروت وتشير إلى عالم العقل وإذا راجعنا التعريفات الواردة لعالم المثال عند المتصوفة والعرفاء فإنهم يقولون عالم المثال هو العالم المتوسط بين عالم المادة وعالم الأرواح فهو ألطف من عالم الأجساد والمادة وأكثف من عالم الأرواح وبنو على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة وقد يستأنس بذلك بقوله "عز من قائل" ﴿فتمثل لها بشرا سويا﴾[1] فروح جبرائيل أو روح الملك الذي تجسد لمريم "عليه السلام" الملك هو عقل أو روح محض ولكن حينما تمثل لها هل هو أصبح من عالم المادة أو أصبح ولا يزال من عالم الأرواح وعالم العقول؟ يقولون في هذه الحالة الروح واحدة وتكون في وقت واحدة مدبرة لشبح الملك الأصلي ولشبح الملك المثالي ويضربون أمثلة مثلا يقولون عالم الذر، عالم الذر هو العالم المتوسط بين عالم الأرواح وبين عالم المادة وأحيانا يضربون عالم البرزخ نحن الآن في عالم المادة ثم ننتقل إلى عالم الأرواح فهذا العالم المتوسط والمتخلل بين عالمي المادة وعالم العقل والأرواح هو عالم الناسوت أو حضرة الملكوت فهذه عوالم ثلاثة يتفق فيها العرفاء مع الفلاسفة عالم المادة وهو عالم الناسوت وعالم المثال وهو عالم الملكوت وعالم العقول والأرواح أي الأمور المجردة عن المادة وهو عالم الجبروت.

ويختلف العرفاء مع الفلاسفة في العالم الرابع والعالم الخامس، العالم الخامس هو عالم الحضرة الجامعة عالم الإنسان الكامل الفلاسفة لا يذكرون هذا العالم الخامس الإنسان الكامل وأيضا يختلفون في العالم الرابع وهو حضرة الواحدية وعالمها الأعيان الثابتة.

وقبل أن نشرح معنى الأعيان الثابتة لا بأس أن نتطرق إلى عدة أمور:

الأمر الأول

تعريف الحضرة الواحدية والحضرة الأحدية

وقد عرّفها مصنف الكتاب في الدرس الحادي عشر صفحة 134 وقبل أن نقرأ تعريف الواحدية والأحدية لا بأس أن نتطرق إلى الفرق بين الواحدي والأحد في اللغة العربية فالواحد هو الذي له ثان وثالث بخلاف الأحد الذي لا ثاني له لذلك يقول القرآن الكريم ﴿قل هو الله أحد﴾[2] ولم يقل قل هو الله واحد لأن الواحد هو الذي له ثاني وثالث ورابع إلى آخره بخلاف الأحد الذي لا ثانية له فإذا قلنا حضرة أحدية يعني لا ثاني فيها ولا تعدد فيها بخلاف ما إذا قلنا الحضرة الواحدية أي أنها الحضرة الواحدة لكنه يوجد فيها تعدد فيكون المراد من الحضرة الواحدية هو الذات الإلهية بملاحظة أسمائها وصفاتها إذ أن أسماء الله “عز وجل” تسعة وتسعين اسما وصفاتها متعددة فالذات الإلهية بملاحظة الأسماء والصفات المتعددة والمختلفة تكون حضرة واحدية فالحضرة الواحدية عبارة عن الذات الإلهية بملاحظة كثرة الأسماء والصفات وأما الذات الأحدية أو الحضرة الأحدية فهو ملاحظة الذات الإلهية بمعزل عن الأسماء والصفات أي الذات الإلهية التي لا تكثّر فيها.

بعد إن اتضح هذا نقرأ التعريف الوارد في هذا الكتاب صفحة 134 وياريت مؤلف الكتاب ذكر هذه المصطلحات في الدروس الأولى لا الدرس الأخير وهو الدرس الحادي عشر لأن الكثير من هذه المصطلحات الذي سنقرؤها اليوم في الدرس رقم إحدى عشر هي موجودة في الدرس الرابع والخامس صفحة 134 الأحدية والواحدية الأحدية عبارة عن الذات الإلهية التي ليس للأسماء ولا الصفات فيها ظهور يعني ملاحظة صرف الذات بمعزل عن الأسماء والصفات فهي اسم لصرافة الذات يعني للذات الصرفة الخالصة المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية وهي مرتبة لا يمكن لأحد إدراكها ولا الوصول إليها.

تعريف الواحدية صفحة 135 الواحدية عبارة عن الذات الإلهية التي تظهر فيها الأسماء والصفات فهي مرتبة يمكن معرفتها بما تمتلك من صفات وأسماء ظاهرة في المراتب يعني الذات الإلهية الذات الاحدية ملاحظة كنه الذات والذات الواحدية هي ملاحظة ظاهر الذات من أسماء وصفات، هذا تمام الكلام في النقطة الأولى بيان مصطلح الحضرة الواحدية والأحدية.

إلى هنا بينا مصطلحين المصطلح الأول عالم المثال المصطلح الثاني الحضرة الأحدية والحضرة الواحدية.

النقطة الثالثة أمثلة للأعيان الثابتة في مختلف العلوم:

المثال الأول المعدوم المعلوم عند المتكلمين فقد ذكرنا في الدرس السابق أن المراد بالثبوت في الأعيان الثابتة هو خصوص الثبوت العلمي لا الثبوت الخارجي فالعدم موجود أو معدوم الجواب العدم خارجا غير موجود لكن مفهوم العدم ذهنا معلوم وهو موجود فيكون عين مفهوم العدم ثابتا في ذهن الإنسان ومعلوما للإنسان إلا أنه ليس بثابت في الخارج، إذاً العدم المعلوم في علم الكلام هو من مصاديق الأعيان الثابتة.

المثال الثاني الماهية عند الفلاسفة فالفلاسفة يقولون الماهية وهي ما يقال في جواب ما هو، ما هو الإنسان حيوان ناطق، ما هو الأسد؟ حيوان زائر، يقولون الماهية يعني مفهوم الإنسان الماهية ليست إلا هي يقولون هكذا الماهية بما هي هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة بمعنى أن الوجود والعدم ليس داخلا في حق مفهوم الماهية يعني مفهوم الماهية لا دخالة للوجود فيه كما لا دخالة لعدم الوجود فيه تقول ما الإنسان حيوان ناطق موجود فالموجود والوجود غير داخل في حق مفهوم حيوان ناطق، إذاً حيوان ناطق ثابت في الخارج أو في علم الإنسان وذهن الإنسان؟ الجواب حيوان ناطق هذا ماهية مفهومية ثابت في علم الإنسان إذاً الماهيات من مصاديق الأعيان الثابتة علما ذهنا.

المصداق الثالث الصور العلمية عند المتصوفة فأنت تقول الله محي ومميت فالإحياء والإماتة هذه صور يتصورها الإنسان وهي تابعة لعلم الله “عز وجل” ففي علم الله أنه حي قادر محي ومميت الإحياء والإماتة الوجود ليس داخل في مفهومها ففي مفهوم إحياء الله وإماتته الله لا دخل للوجود ولا دخل للعدم فأنت تتصور أسماء الله “عز وجل” التسعة وتسعين أسم والوجود والعدم ليس داخلا في مفهوم أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.

الخلاصة من النقطة الثالثة من بيان أمثلة الأعيان الثابتة يتضح أن المراد بالأعيان الثابتة عند الفلاسفة هو الماهيات وهو يختلف عن المراد عند المتصوفة من الأعيان الثابتة وهي الصور العلمية لله تبارك وتعالى من أسمائه وصفاته كما أن الأعيان الثابتة عند المتكلمين تختلف عن الأعيان الثابتة عند العرفاء فالمتكلمون يشيرون بالأعيان الثابتة إلى المعدوم المعلوم.

النقطة الرابعة الآن نقرأ تعريف الأعيان الثابتة الوارد في درس أحد عشر صفحة 133 وقبل أن نقرأه نقرأ تعريف كمال الدين عبد الرزاق القاشاني عنده كتاب اصطلاحات الصوفية يعني اصطلاحات العرفاء صفحة 31 الأعيان الثابتة يقول هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى هذا على نسخة وفي نسخة أخرى هي حقائق أعيان الممكنات الثابتة في علم الله تعالى يعني الأسماء والصفات الممكنة في علم الله تبارك وتعالى.

نقرأ التعريف الوارد في هذا الكتاب مبادئ علم العرفان صفحة 133 يقول الأعيان الثابتة عبارة عن الصور العلمية للمظاهر والشؤون في العلم الإلهي يعتقد العرفاء أن لله شؤونا باعتبار أنه كل يوم هو في شأن وأن له بحسب تلك الشؤون أسماء وصفات هي في الحقيقة أعيان المظاهر في المراتب على اختلافها وبما أن هذه الأسماء والصفات موجودة في علم الله تعالى قبل أن تظهر في المراتب فحقيقتها تعود إلى العلم لذلك أطلق العرفاء الأعيان الثابتة على صور المظاهر عند وجودها في العلم يقول القيصري أعلم إن للأسماء الإلهية صور معقولة في علمه تعالى لأنه تعالى عالم بذاته لذاته وأسمائه وصفاته وتلك الصور العلمية من حيث إنها عين الذات المتجلية بتعين خاص ونسبة معينة هي المسماة بالأعيان الثابتة، إذاً المراد بالأعيان الثابتة الصور العلمية في علم الله تعالى، هذه النقطة الرابعة التعريف.

النقطة الخامسة والأخيرة توضيح نقول هكذا الأعيان الثابتة هي الصور العلمية التي تميز الأسماء الإلهية بعضها عن بعض في مقام الواحدية لا مقام الأحدية لأنه لا يوجد كثرة في مقام الاحدية ولكن توجد كثرة في مقام الواحدية وبعبارة أخرى إذا أردنا تقريب المطلب من ناحية فلسفية ما الفرق بين الوجود والماهية يقولون الوجود يسير إلى الثبوت بينما الماهية تشير إلى خصوصيات ومميزات ما هو موجود وما هو ثابت فحينما تقول حيوان ناطق موجود فإن الحيوانية الناطقية مميزات لذلك الموجود وهو الإنسان فتكون الأعيان الثابتة تلك الصور العلمية التي تميز الأسماء والصفات الإلهية بعضها عن بعض كما أن الماهية تميز وتفرق وتفصل الموجودات كذلك الصور العلمية تمييز أسماء الله تعالى وصفاته تعالى بعضها عن بعض إذا اتضح هذا إذا ما مضى في الدرس السابق يكون واضحا وجليا بالنسبة لنا.

إذا نقرأ العوالم الخمسة صفحة 57 وأما الحضرات والعوالم فهي:

الأول حضرة الناسوت وعالمها عالم الأجساد والمواد يعني عالم المادة

الثاني حضرة الملكوت وعالمها عالم المثال

الثالث حضرة الجبروت وعالمها عالم المجردات من العقول والنفوس

الرابع حضرة الواحدية عرفنا لماذا أطلق عليها الواحدية يعني الذات بملاحظة الأسماء والصفات بملاحظة مظاهر علم الله “عز وجل” وعالمها عالم الأعيان الثابتة يعني عين الصفات الثابتة في علم الله تعالى الصور العلمية الثابتة ثبوتا علميا لا خارجيا.

الخامس الحضرة الجامعة وعالمها الإنسان الكامل، جامعة لأنها تجمع خصوصيات العوالم الأربعة المتقدمة وزيادة، هذا تمام الكلام فيما تقدم في الدرس السابق.

 

الدرس الخامس العرفان العملي السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى

المقدمة

هناك مطلب علمي للملا صدرا الشيرازي وهو مبدأ الحركة الجوهرية فهو يرى أن الجواهر هي في حركة دائمة فالجسم جوهر والعقل جوهر والنفس جوهر والمادة والصورة جوهر أقسام الجوهرة خمسة نحن نرى أن هذا الخشب ثابت لا يتحرك ولكن يقول ملا صدرا هذا الخشب في حركة دائمة هذا المطلب موجود عند العرفاء فيرى العرفاء أن الكون بأجمعه في حركة دائمة وإن جميع الموجودات في حركة مستمرة لأن كل شيء يطلب كماله فالموجودات السفلية في الأرض تطلب كمالها وكذلك الموجودات العلوية تطلب كمالها لا فرق بين الموجودات السفلية والعلوية في طلب الكمال وهذا يشمل الماديات والروحانيات فهي باجمعها تسير إلى كمالها وأعظم مقصد لها الحق تبارك وتعالى فالله “عز وجل” هو غاية الغايات ومقصد المقاصد ونهاية النهايات وقد أشارت جملة من الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة وسبب التوجه نحو الله “عز وجل” هو لأجل معرفته وعبادته بمقتضى قوله "عز من قائل" ﴿وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون﴾[3] أي ليعرفون لأن العبادة فرع المعرفة كيف تعبد ربا لا تعرفه، إذاً الإنسان غاية كماله بل كل الموجودات غاية كمالها هو السير والسلوك إلى الله “عز وجل” ومن هنا يعلم أن السير والسلوك لا يختص بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات في الكون والعالم الفسيح فكل الموجودات من جمادات ونباتات وحيوانات والإنسان وغير ذلك كلها في سير وسلوك إلى الله فما هو المراد بالسير والسلوك وقبل أن نقرأ التعريف نوضح مفهوم السير والسلوك بطريق سهل وسلس.

المراد بالسلوك طريقة طي الطريق طريقة قطع المسافة والمراد بالسير التأمل في الآثار قال "عز من قائل" ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلكم دمر الله عليهم﴾[4] وإذا راجعنا القرآن الكريم نجد أن الكثير من الآيات تقول سيروا في الأرض ﴿قل سيروا في الأرض﴾ فالمراد بالسير التأمل في الآثار والمراد بالسلوك يعني طريقة طي الطريق فإذا أردت أن تنتقل من قم إلى مشهد لزيارة الرضا "عليه السلام" فإنك بحاجة إلى تعين طريقة وصولك إلى مشهد فإما أن تذهب بالطائرة وإما أن تذهب بالقطار وإما أن تذهب بالسيارة فإذا عينت طريقة طيك للطريق فإنك في أثناء الطريق تسير وتتأمل في الآثار فإن كنت في الطائرة تتأمل في الغيوم وفي الجبال وفي الموجودات الأرضية التي تبدو كالنمل فهذه العمارات الشاهقة تبدو كالنملة وإذا كنت في السيارة أو في القطار فإنك تتأمل في البساتين وفي الجبال وفي الصخور وغير ذلك،

إذاً الخلاصة

السير عبارة عن التأمل في الآثار والسلوك عبارة عن طريقة وكيفية طي المسافة وطي الطريق وفي العرفان يقولون هناك منازل يمر بها السالك، السالك لكي يصل إلى الله “عز وجل” عنده سفر عنده رحلة هذه الرحلة تبدأ بالمقصد الأول وتنتهي بالمقصد الأخير وخلال هذا السفر يمر الإنسان بمراتب ويمر بمنازل ويصل إلى مقامات وتنتابه أحوال فلكي يسلك هذا الطريق يحتاج إلى طريقة يعبر عنها بالسلوك وهذا السفر سفر معنوي سفر نفساني فهذا السلوك يحتاج إلى طريقة كيف تسلك إلى الله حتى تصل إلى الله وتفنا فيه هذا يحتاج إلى طريقة وفي أثناء سلوكك كيف تسير وكيف تتأمل في المقامات والمنازل والحالات وهذا هو الفارق بين علم الأخلاق وبين العرفان العملي فالعرفان العملي عبارة عن سير وسلوك خاصين لها مراتب ومنازل ومقامات وأحوال وتحتاج إلى أستاذ وشيخ خاص يشرف على هذا السفر وطريقة السير والسلوك بخلاف علم الأخلاق الذي يذكر أفكار عامة ومبادئ أخلاقية عامة.

تعريف السير والسلوك

صفحة 66 السلوك هو العلم والبرنامج الذي يبحث فيه عن كيفية منازل السير نحو القرب الإلهي وخصائصه والسلوك بهذا المعنى هو طي الطريق أن السير كما يعبر صاحب لب اللباب وهو السيد محمد حسين الحسين الطهراني عبارة عن مشاهدة آثار وخصائص المنازل والمراحل أثناء الطريق وقيل في تعريف السلوك أنه هيئة نفسية وروحية للترقي والتكامل والانتقال في الأصول والمقامات.

بعبارة مختصرة يمكن القول إن السلوك عبارة عن الطريقة التي ينتهجها الشخص للوصول إلى المقصد والغاية وهو الله تعالى بينما السير هو عبارة عن التأمل ومشاهدة الآثار والخصائص والمنازل وبما أن العرفاء يرون أن جميع الموجودات لها حركة تكاملية فهذا يعني أن جميع الموجودات تسير نحو الله تبارك وتعالى وبالتالي يكون السير والسلوك ليس مختصا بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات والمخلوقات.

حقيقة السلوك عند العرفاء

يبين العرفاء أن السلوك هو الطريقة التي بها يقطع السالك المسير للوصول إلى الحق تبارك وتعالى ويقولون إن هذا السلوك هو سلوك معنوي وليس سلوكا ماديا أي أن هذا السفر والسلوك يكون بواسطة النفس لا البدن ويذكرون أسفار أربعة ومراحل أربعة للسفر فالأسفار الأربعة يعني الرحلات الأربعة وهي:

السفر الأول السير إلى الله من منازل النفس والوصول إلى الأفق المبين يعني الإنسان ينسى الظاهر المادي وينطلق نحو الباطن المعنوي المختزل فيه، المراد بالأفق المبين كما ورد في اصطلاحات الصوفية للكاشاني هكذا صفحة 31 يقول الأفق المبين هو نهاية مقام القلب ويوجد مصطلح آخر سيأتي الأفق الأعلى أيضا اصطلاحات الصوفية صفحة 31 الأفق الأعلى هو نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية والحضرة الإلهية هذه كلها اصطلاحات للصوفية والعرفاء وبالمناسبة هذه موجودة في كلماتهم وأكثر هذه المصطلحات لم ترد في روايات أهل البيت "عليهم السلام" فلا تؤخذ هذه الأمور على أنها مسلمة الأعيان الثابتة والحضرة الواحدية والحضرة الأحدية نعم هذه العناوين وجدت في القرآن والسنة مثل ﴿قل هو الله أحد﴾ وجاء العرفاء واصطلحوا هذه المصطلحات لذلك البعض لا يقبل هذه الأمور، إذاً السير الأول السير من النفس إلى الله سيرا معنويا كيف سيرا معنويا؟ بالتخلي عن الظاهر المادي والانطلاق نحو الباطن المعنوي إلى أن تصل إلى الأفق المبين وهو نهاية مقام القلب.

السفر الأول يعبر عنه صدر المتألهين السفر من الخلق إلى الحق، السفر الثاني يعبر عنه صدر المتألهين السير في الحق بالحق يعني السير في الله “عز وجل”.

السفر الثاني السير في الله بالاتصاف بصفاته والتحقق بأسمائه والأصول إلى الأفق الأعلى وهو نهاية الحضرة الواحدية، قلنا الحضرة الواحدية الذات بملاحظة الصفات يعني أن يحاول الإنسان أن يتخلق بأخلاق الله وأن تتجسد الصفات الإلهية فيه والله هو العادل ويسعى الإنسان أن يكون عادلا والله هو الصانع ويسعى الإنسان أن يكون صانعا والله هو المحسن ويسعى الإنسان أن يكون محسنا إلى أن يصل إلى مقام كما سيأتي الأفق الأعلى الأفق الأعلى هو نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية حضرة الإلهية بملاحظة الصفات.

السفر الثالث الترقي إلى عين الجمع والحضرة الأحدية وهو المسمى عندهم بقاب قوسين إشارة إلى قوله “عز وجل” (ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) يعني النبي "صلى الله عليه وآله" لما عرج به إلى السماء وصل إلى العرش وصل إلى مقام قريب جدا من الحضرة الإلهية فارتقى رسول الله "صلى الله عليه وآله" فقال (يا جبرائيل أدنو مني فقال جبرائيل لو دنوت لاحترقت) يعني هذا المقام جبرائيل "عليه السلام" غير مؤهل لاجتيازه النبي "صلى الله عليه وآله" بكمالاته المعنوية وصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى دنو واقترابا من العلي الأعلى وليس المراد الاقتراب الزماني أو المكاني وإنما الاقتراب المعنوي فهنا الحضرة الواحدية كنه الذات مع عدم ملاحظة الصفات والأسماء.

المقام الرابع والأخير هو مقام زوال الاثنينية والبقاء بالله بعد الفناء فيه هذا مصطلح أثنينية يعني خالق ومخلوق هم يقولون يصل الإنسان الكامل إلى درجة الفناء في الله والذوبان في الله بحيث يصيران شيئا واحدا وهذا موطن خلاف في هذا الفهم هل هذا يقبل أو لا يقبل هل هو تعبير حقيقي أو تعبير مجازي عموما هذا السفر الرابع هو أرفع وأعمق سفر يعني بعد أن تصل إلى قاب قوسين أو أدنى تصل إلى مرتبة زوال الاثنينة إذاً الأسفار الأربعة نشير إلى المقصد النهائي:

 

الأول تصل إلى الأفق المبين،

الثاني تصل إلى الأفق الأعلى،

الثالث تصل إلى قاب قوسين أو أدنى،

الرابع تصل إلى زوال الاثنينة،

 

الأول السير من النفس إلى الحق إلى الله تعالى،

الثاني السفر في الحق إلى أن تصل إلى مقام الأفق الأعلى،

الثالث تترقى إلى مقام الحضرة الأحدية بعد أن وصلت إلى الحضرة الواحدية في السفر الثاني والسفر

الرابع زوال الاثنينية.

 

شروط السير والسلوك إلى الله يتحدث العرفاء عن مجموعة من الشروط للسير والسلوك إلى الله أبرزها أربعة شروط:

الشرط الأول المناسبة بين الحق والخلق يعني بين الإنسان والله “عز وجل” يعني توجد علاقة ومناسبة.

الشرط الثاني قمع هوى النفس.

الشرط الثالث رفع الحجب وهي الذنوب.

الشرط الرابع إشراف المرشد وشيخ الطريقة.

هذه شروط أربعة يذكرها العرفاء للسير والسلوك إلى الله تعالى.

 

الشرط الأول المناسبة بين الحق والخلق

والمراد بالمناسبة مطلق العلاقة والارتباط بين شيئين وهذا أمر مهم بين المحب والمحبوب والمناسبة أعم من المجانسة لا تشترط المجانسة بين الحبيب والمحبوب وإنما وجود علاقة ما وارتباط معين.

يقول السيد حيدر الآملي في كتاب أسرار الشريعة إن العقل السليم يحكم بأنه لو لم يكن بين الحق والخلق مناسبة أصلا لم يمكن تصور محبة بينهما بين الحق والخلق وإذا كانت المحبة قائمة لم يكن بد من وجود مناسبة بأي شكل وقعت وعلى أي نحو تحققت، طبعا من الواضح أن المناسبة والعلاقة تحصل من جانب المخلوق لا من جانب الخالق فالمخلوق هو المحتاج والخالق هو الغني المتعال ويستحيل أن يحصل التبدل في ذات الله “عز وجل” بل إن التبدل والتغير حاصل في الإنسان فإذا نزه نفسه وحصنها فإنه سيصل إلى مقام التناسب مع الخالق تبارك وتعالى.

العرفاء حددوا المناسبة من وجهين:

الوجه الأول الكثرة والتغيب وكلما يحيط العبد من خصائص بحيث هذا التغير لا يؤدي إلى إيجاد تغيير في الحق تبارك وتعالى، الإنسان هو الذي يتغير يغير سلوكه يغير صفاته ولكن الله “عز وجل” لا تتغير صفاته فهي صفات الكمال والجمال.

الأمر الثاني أن يتصف العبد بصفات الحق ويتحقق بأسماء الله ويحاول أن تتجسد فيه أسماء الله تبارك وتعالى وقد أشار العرفاء إلى إمكان تحقق كلا الأمرين أن تتغير صفات وخصائص المخلوق أولا وثانيا أن يكون هذا التغير وفقا لصفات الله تبارك وتعالى فلابد للعارف من التعالي عن الصغائر الأمور والارتفاع إلى سقع القدس وحضرة التجرد المحض فالمحب يسعى إلى أن يكون كمحبوبه ولابد من الاتصاف بصفات المحبوب الكامل وهو الله “عز وجل”، هذا تمام الكلام في الشرط الأول وجود مناسبة بين الحق والخلق.

أما إذا لا يوجد مناسبة ولا توجد أي علاقة وأي ارتباط هذا الإنسان يريد أن يشرب الخمر وأن يزني وأن يرتكب الفواحش كيف يسلك إلى الله فلابد من وجود ارتباط ما أو علاقة ما، هذا الشرط الأول.

الشرط الثالث رفع الحجب

والمراد بالحجب الذنوب فالإنسان في سيره المادي توجد هناك حجب وعقبات كقطاع الطرق والظلمة فإذا وجدت الموانع لم يمكنه السير سيرا ماديا كذلك السير المعنوي إلى “عز وجل” فيه عقبات وأهم العقبات الذنوب فالذنوب تمنع عن السفر والوصول إلى المحبوب الحقيقي وهو الله “عز وجل” والحق المتعال فوجود الذنوب يحقق عقبات ويمنع الشهود القلبي ولا يمكن للعارف أن يصل إلى الله بدون رفع الحجب ورفع الذنوب ويقصد العرفاء من الحجب الأخلاق الذميمة وقبائح الصفات والأفعال والملكات الرديئة ووسائل الإزالة كثيرة أبرزها ترويض النفس وتهذيب النفس وتعويد النفس على محاسن الأخلاق وجميل الصفات والسلوك وقمع النفس وكبح جماحها وكذلك في بعض المواطن قد يحتاج إلى خلوة مع النفس وعزلة لكي يعمل بمقتضى التكاليف الشرعية ويلزم نفسه بأحكام الله تبارك وتعالى.

سأل أحد العلماء ما هو العرفان قال رسالة عملية ومفاتيح الجنان، إشارة رسالة عملية فيها أحكام الزامية واجبات ومحرمات مفاتيح الجنان فيها أمور تلخيصية مندوبة مثل مستحبات من الأدعية والزيارات وتجنب الأمور المكروهة الالتزام بأحكام الله تبارك وتعالى.

يقول الإمام الخميني “رضوان الله عليه” في رسالته للسيدة فاطمة الطباطبائي زوجة ولده السيد أحمد الخميني يقول لها أبنتي اهتمي برفع الحجب لا جمع الكتب، للأسف الشديد الكثير من الطلبة همه يشتري الكتب ويجمع الكتب ولكن الحجب وهي الأخلاق الذميمة موجودة.

الشرط الثاني هو قمع هوى النفس

في الرواية (لا تدع النفس وهواها فإن هواها رداها)[5] فلابد أن يتحكم السالك في هوى نفسه وقد ورد في صفات المتقين عن أمير المؤمنين أنه قال (ميتة شهوته)[6] يعني استطاع إخماد الشهوة والأهواء والميل إلى الهوى وجعل قلبه ينصرف إلى الله والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل الموت والعدم، الآية الكريمة تشير إلى ذلك قوله عز من قائل ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾[7] فليس المراد بالآية كان ميتا يعني ميتا ماديا ميتا معنويا فأحييناه والدليل على ذلك وجعلنا له نورا يمشي به في الناس فإماتة النفس وأبعادها عن الهوى هو الذي يعبر عنه بالتوبة بمعنى أن من تاب فقد قتل نفسه وأماتها بالموت الإرادي الاختياري بقمع الهوى والشهوة، إذاً الشرط الأول المناسبة بين الحق والخلق يعني وجود علاقة الشرط الثاني التوبة وقمع هوى النفس.

الشرط الثالث بعد أن يتوب الإنسان يسعى إلى رفع الحجب والأخلاق الذميمة.

الشرط الرابع والأخير الذي اقتصر عليه المصنف إشراف الشيخ والمرشد لأن قمع هوى النفس والنفس فتاكة تحتاج إلى خبير بمكامن النفس الخفية وكذلك رفع الحجب يحتاج إلى أستاذ ماهر لذلك يعتقد العرفاء أن السلوك إلى الله لا يستقيم إلا إذا تم بمساعدة شيخ ومرشد فالإنسان في سيره وسلوكه يحتاج إلى إنسان كامل لسلوك الطريق.

يقول العارف السيد حيدر الآملي في كتابه جامع الأسرار ومنبع الأنوار أما لو قصد السالك الطالب الغاية بنفسه ومن دون معاونة شيخ فإنه يحتاج إلى معاناة وربما سلك طرق متعددة لم يستطع أن يميز الأصلح بينها وربما سلك طريقا معتقدا صلاحه فبان له بعد جهد ومزاولة أنه لا يؤدي إلى شيء فسلك غيره فإن وصل فلابد أن يكون ذلك بعد جهد وعناء وربما لم يوصله شيء مما سلكه من طرق إلى مقصوده.

هناك مقولة مشهورة عند العرفاء لو ضاع نصف عمرك للحصول على أستاذ وشيخ ومرشد كامل فليس خسارة لأنك ظننت أن النصف الآخر سيكون على هدى وإلى هدى والعرفاء يشترطون وجود شخص يشرف وعالم يشرف على الطريق ولكن آية الله العظمى الشيخ محمد تقي بهجت في كتابه الناصح الذي طبع بعد وفاته وهو مجموع نصائح الشيخ بهجت يقول لا يشترط في المرشد أن يكون شخصا بعينه بل يكفي الرجوع إلى روايات أهل البيت لذلك سؤل أنصحنا قال يوميا اقرءوا نصف صفحة من كتاب معراج السعادة وأيضا قيل له انصحنا قال أقرءوا يوميا رواية من كتاب جهاد النفس من كتاب الوسائل فهذا هو المرشد لأن النفس تحتاج إلى التذكير،

 

للمطالعة

صدر الدين محمد القنونوي

هو من أهل قونية تركية هو تلميذ وأبن زوجة محي الدين العربي ولولا شروحه لكلمات زوج أمه محي الدين بن العربي لما فهمت مقاصد ابن العربي هو أيضا معاصر للخواجه نصير الدين الطوسي والشاعر مولوي الرومي المعروف بأشعاره ال﴿عرفانية جرت بينه وبين الخواجه سلسلة من المراسلات وكان محقق الطوسي يكن له الاحترام أيضا مولوي أخذ عنه بعض مبادئ العرفان التي أخذها القونوي من ابن العربي لذلك نجد بعض أشعار مولوي في كتابه المثنوي بالفارسي فيها نكات عرفانية لابن العربي أخذها من القونوي القونوي هو أفضل شارح لأفكار محي الدين العربي وقد توفي في سنة واحدة القونوي والخواجه نصير الدين ومولوي الرومي صاحب المثنوي سنة 672 وقيل 673، هذا تمام الكلام في الدرس الخامس.

طبعا هناك كتب هي من أهم الكتب في الدراسات العرفانية ولا تزال تدرس شروح القونوي ستة قرون في الحوزة من كتبه المعروفة مفتاح الغيب النصوص الفكوك هذا مفتاح الغيب أعمق كتاب عرفاني هناك مصباح الأنس في شرح مفتاح الغيب مصباح الأنس للفناري وهو الشرح لكتاب مفتاح الغيب للقونوي الآن في الحوزة الدروس العرفانية أول شيء يدرسون كتاب ابن تركة الأصفهاني تمهيد القواعد ثم يدرسون شرح الفصوص للقيصري القيصري شرح فصوص الحكم لابن العربي ثم يدرسون مصباح الأنس وهو شرح الفناري لكتاب مفتاح الغيب للقونوي، هذا تمام الكلام في الدرس الخامس،

الدرس السادس الأحوال والمقامات يأتي عليها الكلام.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo