< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/10/26

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الثالث والتسعون: تحقيق أدلة الأقوال الأربعة

 

كان الكلام في الصورة الثالثة من صور اختلاط المال الحلال المختلط بالحرام، وهي ما إذا كان المالك معلوماً، وقدر المال مجهولاً.

فإما أنه يمكن أن يتصالحا فهو كذلك.

وإن لم يمكن أن يتصالحا ففي المقام أربعة أقوال.

دليل القول الأول وهو وجوب دفع الأقل مطلقاً سواء قل عن الخمس أو زاد.

وقد استدل عليه:

بأن مقدار المعلوم من المال أنه للغير لابدّ من دفعه إليه فيجب دفع القدر المتيقن باشتغال الذمة، وأما المقدار الزائد على القدر المتيقن فهو مورد للشكّ فتجري أصالة البراءة الشرعية عن المقدار الزائد على القدر المتيقن.

فتكون النتيجة: إذا اختلفا ولم يتصالحا يجب دفع خصوص القدر المتيقن دون المقدار الزائد على القدر المتيقن فهو مشكوكٌ فيه فيكون مجرى لأصالة البراءة ولا يجب دفع إلا ما يتيقن باشتغال الذمة به.

وفيه أنه بعد فرض عدم العلم بكون المال المشكوك فيه ملكاً لمن بيده المال فهو يدور إما أن يكون ملكاً له، وإما أن يكون ملكا لغيره، فبأي وجهٍ يتملك هذا المال المشكوك، وعند الشك تجري أصالة عدم تحقق سبب الملكية.

فتكون النتيجة: عدم تملك هذا المال الزائد ولا يجوز التصرف في المال المشكوك.

وأما دليل القول الثاني وهو وجوب دفع الأكثر مطلقاً.

فقد استدل عليه:

بأن اشتغال الذمة بمال الغير معلوم إجمالاً ومقتضى العلم الإجمالي هو التنجز، ففي الموارد المشتبهة التي يثبت فيها العلم الإجمالي مقتضى القاعدة تنجز العلم الإجمالي فلابدّ من دفع ما يتيقن منه ببراءة ذمته من الواقع المجهول، فيجب عليه دفع أكثر لا الأقل تحصيلاً للازم بفراغ الذمة والخروج من عهدة التكليف.

وحينئذ مع تنجز العلم الإجمالي لا مورد لجريان أصالة البراءة في الأطراف المشكوكة إلا إذا تيقن بزوال العلم الإجمالي حقيقةً، وما دام يشك والعلم الإجمالي موجود فهو منجزٌ فيجب عليه دفع الأكثر، ولا يجزء دفع العقل.

وفيه أنه إذا علم الغير أنه ملكٌ له جاز له أخذه والتصرف فيه، وأما إذا لم يعلم بأن المقدار الزائد ملكٌ له فما هو المسوغ لأخذه مع العلم بأن من بيده المال لا يدفع إليه المال مجاناً، ولا يهبه إياه وإنما يعطيه إياه بعنوان الاستحقاق وأنه حقٌ له وملكٌ له فلا يتم دليل القول الثاني.

وأما دليل القول الثالث وهو وجوب دفع الخمس فقط، وإن احتمل الزيادة أو النقيصة، وهو قول العلامة الحلي في التذكرة[1] .

فقد استدل عليه:

بما ورد لرواية الحسن بن زياد عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: <فإن الله عزّ وجل قد رضي من المال بالخمس>[2] .

والمستفاد من هذه الرواية أن الخمس تحديدٌ لمقدار الحرام المجهول مقداره، ولا دخل للجهل بمالكه فيه.

وفيه إن مورد هذه الرواية وغيرها أجنبيٌ عن مورد بحثنا فمورد هذه الرواية هو إذا المالك مجهولاً ومورد بحثنا إذا كان المالك معلوماً، فإذا كان المالك معلوماً فهذا خارجٌ عن مورد هذه الرواية وغيرها، والتعدي عن مورد هذه الرواية إلى غيره بلا دليل يحتاج إلى دليل وضرس قاطع.

إذا الدليل القول الثالث لا يمكن المساعدة عليه.

يبقى القول الرابع وهو الأهم في المسألة وهو وجوب التصالح ولو قهراً وإجباراً فيجب على من بيده المال أن يدفع القدر المتيقن، وأما القدر المشكوك فيتعين بالقرعة.

وقد استدل عليه:

بأن الزائد المشكوك مالٌ مرددٌ بين شخصين، ولا طريق لإحراز ملكية أحدهما، وفي هذه الحالة لابدّ من التصالح ولو قهراً أو إجباراً فإن الصلح هو حكمه الواقعي فإن أبى أحد الشخصين عن المصالحة فلابدّ من إيقاع المصالحة مع وليه وهو الحاكم الشرعي.

فإن قدر الحاكم الشرعي على إجباره فبه ونعمت، وإن لم يقدر فإن الحاكم الشرعي يحكم بالتنصيف لقاعدة العدل والإحسان، وسيطول البحث في إثبات هذه القاعدة.

فإن اختصاص أحدهما بالمال دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجح فيحكم بالتنصيف بينهما وهو الموافق لقاعدة العدل والإنصاف التي جرى عليها العقلاء، ومضت عليها السيرة العقلائية في كل مالٍ مرددٍ بين شخصين من دون مرجحٍ في البين.

وذلك لأن إيصال المال إلى مالكه يحتاج إلى بينة فإن تمت البينة والحجة فبها ونعمت، وإن لم يمكن فلابدّ من إيصال المال إلى مالكه الأصلي والواقعي ولو في الجملة، فيعطى النصف لغير المالك مقدمة للعلم بوصول النصف الآخر إلى المالك الواقعي.

فيكون حال المقدمة العلمية حال المقدمة الوجوبية، فإذا وجب إيصال المال إلى شخصين ولم يمكن إيصال المال إلى الشخص إلا بدفع أجرة الحمل أو أجرة العمل فحينئذٍ يكون دفع أجرة الحمل أو أجرة العمل مقدمة لإيصال المال إلى مالكه، فإنه لا ينبغي الإشكال في جواز ذلك مقدمة للإيصال وكذلك الحال في المقدمة العلمية.

وهذه القاعدة قاعدة العدل والإنصاف مؤيدة بمجموعة من الروايات، وسيأتي بحثها مفصلاً.

من هذه الأخبار معتبرة السكوني عن الصادق ـ عليه السلام ـ عنه أبيه قال: <يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين>[3] .

ومنها صحيحة عبد الله بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ <في رجلين كان معهما درهما، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك>.

فقال ـ عليه السلام ـ : <أما الذي قال هما بيني وبينك، فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وإنه لصاحبه، ويقسم الآخر بينهما>[4] .

فمورد النزاع في هذه الرواية خصوص درهم واحد من الدرهمين، وما نحن فيه من هذا القبيل فإن المال المشكوك بين المالكين مرددٌ بين أن يكون للغير أو أن يكون لمن بيده المال فهو نظير الدينار المردد بين شخصين، والمناط فيهما واحد إذ إعطاء المال أو الدرهم أو الدينار لأحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجح فلا بدّ من المصالحة بينهما بنحو التنصيف.

ويؤيد ذلك: ما ورد في موثقة إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : <في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهماً في ثوب وآخر عشرين درهماً في ثوب، فبعث الثوبين، ولم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه.

قال ـ عليه السلام ـ : يباع الثوب فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن والآخر خمسي الثمن.

قلت: فإن صاحب العشرين، قال لصاحب الثلاثين: اختر أيهما شئت.

قال ـ عليه السلام ـ : قد أنصفه>[5] .

والنتيجة: إن مقتضى القاعدة هو الحكم بالتنصيف.

لكن هذا القول قابل للمناقشة وقد ناقش هذا الدليل المحقق المدقق آقا رضا الهمداني بشكل مجمل[6] لكن سيد أساتذتنا السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ ناقش هذا الدليل بشكلٍ مفصل تبعاً للفقيه الهمداني[7] .

وحاصل المناقشتين:

إن هذا القول إنما يصح بناءً على ثبوت أمرين لا يمكن الالتزام بهما.

الأول عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً.

أي أن أصالة البراءة لا تجري في خصوص كل فردٍ، ولا تجري في الفرد المشكوك فيه لا بعينيه، فإذا لم يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة في الفرد المشكوك على نحو كلي، ولا الرجوع إلى قاعدة اليدّ أيضاً في الزائد المشكوك لا بعينه، فهذا القول تام.

يعني لابدّ أن نلتزم أن البراءة لا تجري لا في الفرد الجزئي ولا في الفرد الكلي هذا بحث مفصل سيأتي في علم الأصول.

الثاني ثبوت قاعدة التنصيف في المقام، لموافقتها للسيرة العقلائية وإمضاء الشارع لها.

يقول الفقيه الهمداني والسيد الخوئي:

<ولكن ثبوت كلا الأمرين محل إشكال>.

إذا سيقع الكلام مفصلاً في أنه هل يوجد علم إجمالي منجز في الجزء والكلي أو لا؟

وسواء تنجز العلم الإجمالي أو لم يتنجز هل نسلم بقاعدة العدل والإنصاف أو لا؟

هذا عن بحثان مهمان جداً:

الأول يبحث في علم الأصول.

والثاني يبحث في القواعد الفقيه.

وسنبحثهما مفصلاً إن شاء الله في الدرس القادم.

راجعوا:

المستند في شرح العروة الوثقى، للسيد الخوئي، كتاب الخمس، صفحة 147.

وما بحثه شيخنا الشيخ مسلم الداوري، كتاب الخمس في فقه أهل البيت، ج 1، ص 508.

 


[1] تذكرة الفقهاء، ج5، ص422.
[2] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج9، ص505، الباب10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
[3] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص37، الحديث 3281.تهذيب الأحكام، ج6، ص233، الحديث 14.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج18، ص452، الباب12 من أبواب أحكام الصلح، الحديث 1، مع اختلاف يسير في اللفظ.
[4] وسائل الشيعة، ج18، ص450، الباب9 من أبواب أحكام الصلح، الحديث 1.
[5] وسائل الشيعة، ج18، ص451، الباب11 من أبواب أحكام الصلح، الحديث 1.
[6] مصباح الفقيه، ج14، ص179.
[7] المستند في شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، كتاب الخمس، ص145 إلى 148.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo