< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/11/01

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الخامس والتسعون: الجهة الثانية بيان حدود قاعدة العدل والإنصاف

 

المذكور في كلام السيد أبو القاسم الخوئي ـ رحمه الله ـ أن التنصيف وقاعدة العدل والإنصاف تتجه في الأمارات الشرعية التي لا يكون فيها ذو اليد ضامناً، ولكن لو رجعنا إلى الروايات الشريفة وكلمات الفقهاء لوجدنا أن الأحاديث والفتاوى تتجه إلى عدم الاختصاص.

أما الروايات فإنه وإن كان أكثرها قد جاء في مورد الأمانات الشرعية كما في الودعي والصلح والتنازع على أساس البيت بين الزوجين، ولكن أيضاً ورد بعضها في غير مورد الأمانات كالتنازع على الدابة إذا كانت في أيدي المتنازعيين، وقد دلت على ذلك موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة فإن قوله ـ عليه السلام ـ : <فلو لم تكن في يدّ واحد منهما>[1] شامل بإطلاقه لما إذا كانت الدابة في يدّ ثالث أو في أيديهما معاً.

وهكذا نجد صريح المرسل عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : <أن رجلين تنازعا دابة ليس لأحدهما بينة، فجعلها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بينهما>[2] .

لكن ورد فيها <ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين>.

وقد ذكر صاحب الجواهر[3] صريح المرسل على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أنه ليس ظاهر في الأمانات.

فالمستفاد من هذه الموارد قطعاً أن يدّ كل واحد من المتنازعين ليست يدّ أمانية.

وهكذا في صحيحة عبد الله بن المغيرة المتقدمة إذ جاء فيها عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ <في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك. فقال: أما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه، ويقسم الآخر بينهما>[4] فإنها مطلقة أو ظاهرة في أن المال في أيديهما.

إذاً الروايات الشريفة وإن كان أكثرها في مورد الأمانات ولكن بعض هذه الروايات لم يكن في مورد الأمانات هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الروايات.

وأما فتاوى الأصحاب فالذي يظهر من كلماتهم هو القول بالتنصيف، فقد ذكر صاحب الجواهر ـ قدس الله نفسه الزكية ـ في مسألة ما إذا كان المال المتنازع عليه في يدّ المتنازعين، ولم يكن لأي منهما بينة، أن الحكم هو التنصيف، مدعياً عدم الخلاف فيه، بل الإجماع بقسميه عليه[5] .

وهكذا ذكر صاحب الجواهر في مسألة ما إذا أقام كل منهما بينة فتعارضتا، وكانت العين في يدهما، قال: <بلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن وأبي علي>[6] .

وقال الشهيد الثاني ـ رحمه الله ـ في مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام[7] : <لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين لكن اختلف في سببه>.

ونسب صاحب الرياض السيد علي الطباطبائي الحكم بالتنصيف إلى الأشهر الأقوى، وقال: <بل عليه عامة متأخري أصحابنا إلا نادراً>[8] ، ويمتاز كتاب رياض المسائل بذكر الإجماعات المنقولة من أهم المصادر في معرفة الإجماعات المنقولة كتاب رياض المسائل.

والحاصل من ذلك كله:

إن الحكم لا يختص بما إذا كانت اليدّ أمانية بل يشمل غيرها لدلالة الروايات وفتاوى الأصحاب.

قد يقال إن الروايات المتقدمة تختص بمواردها كالوديعة أو الدابة أو البعير، لكن من يتأمل فيها يظهر له أن هذه الموارد ذكرت من باب المثال، والظاهر من هذه الروايات أن الإمام ـ عليه السلام ـ في مقام بيان الضابطة الكلية في باب القضاء والحكم أي أنه في مثل هذا المورد ماذا يقضي القاضي؟ وما هي الضابطة للحكم؟ والمورد هو كما يلي:

كل موردٍ لم تقم فيه حجة على استحقاق أحد المتنازعين للشيء، وأمكن الجمع بين الحقين ولو في البعض ففي مثل هذه المورد قطعاً يقدم التنصيف وإيصال بعض الحقّ لكل واحدٍ منهما، ويقدم على إعطاء الشخص الواحد فقط، لأنه يحتمل حرمان الشخص الآخر.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية واتضح أنه إذا ثبت قاعدة العدل والإنصاف إما بمقتضى الروايات وإما بمقتضى الارتكاز العقلائي وادعينا أنه ممضى من قبل الأئمة ـ عليهم السلام ـ فحينئذ يثبت عموم القاعدة ولا يختص التنصيف بخصوص ما إذا كانت اليد يدّ أمانة.

الجهة الثالثة النسبة بين قاعدة العدل والإنصاف وقاعدة القرعة، وتحتمل وجوهٌ أربعة بل أقوال أربعة.

القول الأول قاعدة التنصيف حاكمة على قاعدة القرعة لأن القرعة لكل أمرٍ مشكل وقاعدة التنصيف ترفع هذا الموضوع وترفع هذا المشكل إذ أن قاعدة العدل والتنصيف إذا عملنا بها ونصفنا نكون قد أوصلنا الحق إلى صاحبه كما هو المستفاد من بعض الرواية فلا يبقى مجال لقاعدة القرعة إذ أن المشكلة يرتفع، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم وهو القرعة.

القول الثاني بالعكس حاكمية قاعدة القرعة على قاعدة العدل والإنصاف لأن القرعة لكل أمرٍ مشتبهٍ ظاهراً أو واقعاً وقاعدة التنصيف ترفع الاشتباه ظاهراً ولا ترفع الاشتباه واقعاً فتقدم عليها قاعدة القرعة إذ أنها لكل أمرٍ مشتبهٍ سواءً كان الاشتباه في الواقع أو الظاهر.

القول الثالث التعارف بين قاعدة العدل والإنصاف وقاعدة القرعة والترجيح لقاعدة القرعة لأن أدلتها أقوى سنداً ودلالةً.

القول الرابع عكس الثالث لا تعارض بين القاعدتين إذ أن مورد كل منهما خاصٌ فقاعدة العدل والإنصاف موردها أخص وقاعدة القرعة موردها أعم وهو يختلف عن مورد قاعدة العدل والإنصاف.

هذه وجوه بل أقوالٌ أربعة نأتي على ذكرها وذكر أدلتها تباعاً.

القول الأول حاكمية قاعدة العدل والإنصاف على قاعدة القرعة، وهو ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ حيث قال ما نصّه:

<إن قاعدة الجمع حاكمةٌ على دليل القرعة لأن المأمور به هو العمل بكل من الدليلين لا بالواقع المردد بينهما، إذ قد يكون كلاهما مخالفاً للواقع فهما سببان مؤثران بحكم الشارع في حقوق الناس، فيجب مراعاتها وإعمال أسبابها بقدر الإمكان إذ لا ينفع توفية حقّ واحد مع إهمال حقّ الآخر رأساً>[9] .

وقد يستفاد التقديم من كلام صاحب الجواهر ـ رحمه الله ـ إذ قال في مورد إذا كانت العين في يدّ ثالث، قال ما نصّه:

<ولو قال: <ليست لي> أو <لا اعرف صاحبه> أو <هي لأحدكما ولا اعرف عينه> ففي القواعد قرع بينهما لتساويهما في الدعوة وعدم البينة، وفي التحرير وكشف اللثام فمن خرجت باسمه حلف وكانت له، فإن نكل حلف الآخر وإن نكلا قسمت بينهما>.

ثم قال:

<والوجه عند التحالف وفاقاً للتذكرة فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما وإلا فـ للحالف>.

هذا نص كلام صاحب الجواهر:

<قلت لا وجه للقرعة بعد ظهور الأدلة في التنصيف مع التساوي في السبب المقتضي للملك>.

إلى أن قال:

<وحينئذ فلا إشكال ولا اشتباهه حتى يحتاج إلى القرعة>[10] .

وكلامه واضح في أن موضوع القرعة هو الاشتباه وقاعدة العدل والإنصاف ترفع الاشتباه فإذا ارتفع الموضوع وهو الاشتباه ارتفع الحكم وهو إجراء القرعة فتكون قاعدة العدل والإنصاف حاكمةً على قاعدة القرعة، كما أن صاحب الجواهر ذكر وجهاً آخر في مسألة ما إذا كان المال في يديهما وتعارضت البينات.

لكن هذا الوجه وهو حكومة قاعدة العدل والإنصاف على قاعدة القرعة يتوقف على إثبات أمرين فهو يبتني على أمرين:

الأول إن الحكم بالتنصيف والتقسيم الوارد في الروايات الشريفة هو من باب الحكم والقضاء لا من باب المقدمة العلمية أو التصالح إذ أنه لو كان من باب المقدمة العلمية أو التصالح، وقلنا ببقاء الاشتباه وأن التنصيف لا يمثل مقدمة علمية ففي هذه الحالة يبقى الاشتباه، وإذا بقى الاشتباه تجري قاعدة القرعة.

والمذكور في الروايات الشريفة أن الإمام ـ عليه السلام ـ جعل المال بينهما نصفين وجعل المال نصفين أعم من أن يكون من جهة الحكم والقضاء أو من جهة التصالح أو من جهة المقدمة العلمية إلا إذا استظهرنا أن الإمام ـ عليه السلام ـ في مقام بيان الضابطة الكلية للحكم والقضاء، فإذا استظهرنا ذلك يتم الأمر الأول.

الأمر الثاني أن لا تكون النسبة بين القاعدتين أعم مطلقاً كما سيأتي في القول الرابع فإنه بناءً على أن قاعدة القرعة أعم وقاعدة العدل والإنصاف أخص يحمل المطلق على المقيد ولا يبقى وجه للحكومة، هذا تمام الكلام في القول الأول.

القول الثاني عكس القول الأول كما أن القول الرابع عكس القول الثالث، فالقول الثاني هو عبارة عن حكومة قاعدة القرعة على قاعدة العدل والإنصاف، ووجه أن يقال: أن المستفاد من الروايات أن القرعة تصيب الواقع فإذا انكشف الواقع فلا اشتباه في الظاهر فضلاً عن الواقع حتى نلتزم بالتنصيف فينتفي موضوع قاعدة العدل والإنصاف.

فقد جاء في صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال: <بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ علياً ـ عليه السلام ـ إلى اليمن> إلى أن قال: <فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عزّ وجل إلا خرج سهم المحق>[11] .

وفي صحيحة جميل قال: <قال الطيار لزرارة: ما تقول في المساهمة أليس حقاً؟ فقال: زرارة بل هي حقّ، وقال الطيار: أليس قد رووا أنه يخرج سهم المحق، قال: بلى. قال: فتعال حتى ادعي أنا وأنت شيئاً ثم نساهم عليه، وننظر هكذا هو. فقال له زرارة: إنما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحق، فأما على التجارب فلم يوضع على التجارب> [12] بعد هذا زرارة بن أعين أنت تغلبه.

بعد يا أخي يا أخي جاء في معتبرة محمد بن حكيم قال: <سألت أبا الحسن ـ عليه السلام ـ عن شيءٍ، فقال: لي كل مجهولٍ ففيه القرعة. قلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب، قال: كل ما حكم الله به فليس بمخطئ>[13] .

وفي مرسلة الصدوق قال: <وقال الصادق ـ عليه السلام ـ : ـ إذاً هذه من مراسيل الصدوق الجازمة ـ ما تقارع قومٌ ففوضوا أمرهم إلى الله تعالى إلا خرج سهم المحق>[14] .

إلى غير ذلك من الروايات فإذا تميز الواقع وعرفناه وتشخص لا يبقى مجال لقاعدة التنصيف فيكون في قاعدة التنصيف إعطاء بعض المال لغير المستحق يعني تعطي النصف لمستحقه والنصف لغير مستحقة.

لكن قد يناقش القول الثاني بأن موضوع القرعة هو المجهول والمشتبه أي مجهول الحكم ظاهراً وواقعاً، ومع وجود طريق إلى الحكم ظاهراً وهو التنصيف وفاقاً لقاعدة العدل والإنصاف يرتفع الجهل بالحكم ظاهراً، وإن بقي الجهل بالحكم واقعاً، فإذا نصفنا وأجرينا قاعدة العدل والإنصاف يرتفع الجهل بالحكم ظاهراً فلا يصدق عنوان الجهل أو الاشتباه.

وإلا يا أخي يا أخي لو التزم بأن قاعدة القرعة للمشتبه مطلقاً وللمجهول مطلقاً ظاهراً وواقعاً للزم تقديم قاعدة القرعة على جميع الأصول والأمارات لأن الأمارات الشرعية والأصول العملية لا تثبت الحكم واقعاً بل تثبت الحكم ظاهراً ويبقى الواقع مجهولاً، ومن المسلم أن قاعدة القرعة لا تجري إذا جرت الأصول والأمارات.

نعم، لو قيل إن الموضوع في القرعة هو الأعم ولا يختص بالمشتبه أو المجهول فتكون المناقشة حينئذٍ غير واردةٍ هذا تمام الكلام في مناقشة القول الثاني.

القول الثالث التعارض بين القاعدتين يأتي عليه الكلام.


[1] وسائل الشيعة، ج27، ص250، الباب12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 2.
[2] السنن الكبرى، البيهقي، ج10، ص255.
[3] ج40، ص402.
[4] وسائل الشيعة، ج18، ص450، الباب9، من أبواب أحكام الصلح، الحديث 1.
[5] جواهر الكلام، ج40، ص402.
[6] جواهر الكلام، ج40، ص410.
[7] ج14، ص81.
[8] رياض المسائل، ج15، ص213.
[9] كتاب المكاسب، الشيخ الأنصاري، ج5، ص408.
[10] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج40، ص409.
[11] وسائل الشيعة، ج21، ص172، الباب57، من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 4.والرواية مروية في الكافي للكليني، والتهذيب للشيخ الطوسي، والاستبصار للشيخ الطوسي أيضاً.
[12] وسائل الشيعة، ج27، ص257، الباب13، من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 4، مع اختلاف يسير لما ورد في الأصل وهو تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج6، ص205، الحديث 584.
[13] وسائل الشيعة، ج27، ص259، الباب13، من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 11.
[14] من لا يحضره الفقيه، ج3، ص92، الحديث 3393.ورواه الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص261، الباب13، من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 13، ولكن ورد فيه ما <تنازع قومٌ> بدل .<ما تقارع قومٌ>

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo